دلالات الهجرة العظيمة
2000/04/07م
المقالات
2,317 زيارة
أذن الله لرسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم بالهجرة، فهاجر إلى المدينة المنوّرة، بعد أن كان المسلمون في مكة قد سبقوه إليها. لقد كانت الهجرة بداية مرحلة بارزة في تاريخ الإسلام، بها أقيمت للمسلمين دولة، ترعى شؤونهم، وتطبق أحكام دينهم، وتحمله للعالم بالدعوة والجهاد، فعزَّ المسلمون بدولتهم، وقويت شوكتهم، ينشرون العدل ويخرجون الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم القوي العزيز.
ولعظمة هذه الحادثة، سنتناول ما شاء الله من دلالاتها، مبتعدين قدر الإمكان عن السرد التاريخي، إلا بالقدر اللازم، لبيان الأمر جلياً واضحاً.
================================
أولاً: يقول ابن إسحاق كما أورده ابن هشام في سيرته:
(أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه من المهاجرين من قومه، ومن معه بمكة من المسلمين، بالخروج إلى المدينة والهجرة إليها، واللحوق بإخوانهم من الأنصار، وقال: إن الله عز وجل قد جعل لكم إخواناً وداراً تأمنون بها فخرجوا أرسالاً… وأقام رسول صلى الله عليه وسلم الله بمكة بعد أصحابه من المهاجرين ينتظر أن يؤذن له في الهجرة ولم يتخلف معه بمكة أحد من المهاجرين إلا من حبس أو فتن، إلا علي بن أبي طالب وأبو بكر بن أبي قحافة الصديق رضي الله عنهما).
لقد كان أمر الله سبحانه أن يهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن يكون أصحابه قد سبقوه إلى المدينة، الدار التي يأمنون بها، وفي هذا بيان لرعاية القائد لرعيته، فهو يبعدهم عن الخطر، ويأخذ بأيديهم إلى الأمان، فإذا كان الخطر أمامهم، كان هو في الأمام وهم من ورائه، وإذا كان الخطر خلفهم، كان هو من خلفهم ودفعهم إلى الأمن والأمان. لقد أصبحت المدينة مكاناً آمناً للمسلمين، في حين أن مكة كانت دار فتنة وعذاب للمسلمين، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يهاجر المسلمون أولاً فإذا اطمأن على وصولهم سالمين، أذن الله بعدها لرسوله صلوات الله وسلامه عليه، أن يهاجر.
والآن لنتدبر حادثة أخرى، فقد سمع المسلمون وهم في المدينة جلبة ظنوها من عدو أو نحوه، فتسابقوا لاستطلاع مصدرها، فوجدوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد سبقهم لاستطلاع الأمر، وقابلهم راجعاً من استطلاعه، وهم لم يكونوا قد وصلوا بعد.
أي أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يواجه الأخطار ويؤمن سلامة المسلمين، ففي حادثة الهجرة بقي الرسول صلى الله عليه وسلم في مواجهة الخطر وأذن للمسلمين أن يهاجروا قبله لدار الأمن، وفي الحادثة الأخرى، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أول المسلمين في استطلاع الأمر ومواجهة الخطر.
إن كل هذه دروس للحاكم مع المحكومين، للقائد مع الرعية، يحوطها بنصحه، ويقيها بنفسه، ويكون أولها في مواجهة الأخطار، ليؤمن لها الأمن والأمان (الإمام جنة يتقى به ويقاتل من ورائه).
هذه هي الرعاية، كما بينها عملياً رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا كما نراه اليوم من تصرفات الحكام في بلاد المسلمين، يدفعون الناس للأخطار، في فتنة أو ضائقة، ويبقون هم في سعة، غير عابئين برعاية الناس أو حفظ أمنهم، بقدر ما يلحقون بهم الأذى، لا يتقون الله ولا يرعوون.
ثانياً: لقد تعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة مع المسلمين، إلى الأذى بصنوفه المتعددة، ثم اشتد هذا الأذى حتى بلغ الذروة، عندما اجتمع كفار قريش في دار الندوة، يخططون لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يقول ابن إسحاق (… فقال أبو جهل بن هشام، والله إن لي فيه لرأياً، ما أراكم وقعتم عليه بعد، نأخذ من كل قبيلة فتى شاباً جليداً. نسيباً، وسيطاً فينا، ثم نعطي كل فتى منهم سيفاً صارماً، ثم يعمدوا إليه، فيضربوه ضربة رجل واحد، فيقتلوه، فنستريح منه. فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعاً، فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعاً، فرضوا منا بالعقل، فعقلناه لهم…).
أي إن كفار مكة وصلوا في حربهم للإسلام والمسلمين، غاية الأذى، فقد قرروا قتل الرسول صلى الله عليه وسلم فبلغت شدة حربهم منتهاها، ولكن الفرج كان مع أوج هذه الشدة، فقد أذن الله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يهاجر للمدينة وأن تقام الدولة، وترتفع راية الإسلام فوق كيان يعز فيه الإسلام وأهله، ويذل الشرك وأهله.
لقد كان النصر عند قمة الأزمة واشتدادها، وفي هذا بيان، وأي بيان، إنه كلما ادلهمت الخطوب واشتدت الأزمات، كان ذلك إيذاناً بقرب النصر والفرج. إن اشتداد الأزمة عند غير المسلم، تسبب له يأساً وقنوطاً واضطراباً، ولكنها عند المؤمن لا تزيده إلا ثباتاً وترقباً للنصر (حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا).
ثالثاً: لما أذن الله لرسوله بالهجرة، أمر علياً بن أبي طالب، كرم الله وجهه، أن يبيت في فراشه، ليوهم كفار قريش المحيطين بالدار أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا زال نائماً، فقد كانوا ينتظرون خروج الرسول صلى الله عليه وسلم صباحاً من الدار حتى يقتلوه(1). أورد ابن إسحاق في السيرة (… وخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ حفنة من تراب في يده.. وأخذ الله تعالى على أبصارهم عنه فلا يرونه، فجعل ينثر ذلك التراب على رؤوسهم وهو يتلو هؤلاء الآيات من يس (يس والقرآن الحكيم… إلى قوله فأغشيناهم فهم لا يبصرون).. ولم يبق منهم رجل إلا وقد وضع على رأسه تراباً، ثم انصرف إلى حيث أراد أن يذهب، فأتاهم آت ممن لم يكن معهم، فقال ما تنتظرون هاهنا؟ قالوا محمداً، قال خيبكم الله! قد والله خرج عليكم محمد، ثم ما ترك منكم رجلاً إلا وقد وضع على رأسه تراباً، وانطلق لحاجته، أفما ترون ما بكم؟ قال فوضع كل رجل منهم يده على رأسه، فإذا عليه تراب، ثم جعلوا يتطلعون فيرون علياً على الفراش متسجياً ببرد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون: والله إن هذا لمحمد نائماً، عليه برده، فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا(1)، فقام علي رضي الله عنه عن الفراش فقالوا: والله لقد كان صدقنا الذي حدثنا). ويضيف ابن إسحاق (… أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر ابن أبي قحافة، فخرجا من خوخة لأبي بكر في ظهر بيته، ثم عمدا إلى غار بثور ـ جبل أسفل مكة ـ فدخلاه… فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار ثلاثاً ومعه أبو بكر وجعلت قريش فيه حين فقدوه، مائة ناقة، لمن يرده عليهم. وكان عبد الله ابن أبي بكر يكون في قريش نهاره معهم، يسمع ما يأتمرون به، وما يقولون في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ثم يأتيهما إذا أمسى فيخبرهما الخبر، وكان عامر بن فهيرة، مولى أبي بكر رضي الله عنه، يرعى في رعيان أهل مكة، فإذا أمسى أراح عليهما غنم أبي بكر… فإذا عبد الله ابن أبي بكر غدا من عندهما إلى مكة، اتبع عامر بن فهيرة أثره بالغنم حتى يعفِّي عليه. حتى إذا مضت الثلاث وسكن عنهما الناس، أتاهما صاحبهما الذي استأجراه ـ الدليل ـ ببعيريهما وبعير له…).
إن تدبر ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في هجرته، يبين أهمية ربط الأسباب بالمسببات في مثل هذه الحالات، فالرسول صلى الله عليه وسلم قد موَّه عليهم في الفراش فأمر علياً أن ينام مكانه متسجياً ببرده، وخرج مع أبي بكر من فتحة في ظهر البيت وليس من الباب الرئيسي، ثم بدل أن يذهب شمالاً باتجاه المدينة، ذهب جنوباً إلى غار ثور، ومكث ثلاثاً حتى خف الطلب، وكان يتتبع أخبار مكة وهو في الغار، ليكون الخروج من الغار وتكملة المسير أكثر أمناً وأماناً، وكان يجعل الغنم تطمس آثار ابن أبي بكر عندما يحضر لهما الأخبار، حتى يحول دون قريش ومعرفة مكان الرسول صلى الله عليه وسلم من تتبع الآثار، كل ذلك وغيره، فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو على يقين بأنه سيصل إلى المدينة سالماً بوحي من الله، فهو يقول لأبي بكر جواباً لقوله (يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر إلى موضع قدميه لرآنا) يقول له: «يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما»، ثم إنه عليه الصلاة والسلام، يثبت أبا بكر، بان لا يحزن، فالله معهما (إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا).
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو قدوتنا، وإن فعله دليل لنا على الأخذ بالأسباب عند القيام بالأعمال (اعقل وتوكل)، فالمؤمن يتوكل على الله، ويؤمن أن النصر من عند الله، ولكنه في الوقت نفسه يأخذ بالأسباب ويجتهد في العمل ويجد في الطلب اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم.
رابعاً: وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة. يقول ابن إسحاق (… ثم قدم الدليل، بالرسول صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر رضي الله عنه، قدم بهما قُباء على بني عمرو بن عوف، لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول يوم الاثنين حين اشتد الضحاء، وكادت الشمس تعتدل… فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء، في بني عمرو بن عوف يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء ويوم الخميس، وأسس مسجده، ثم أخرجه الله من بين أظهرهم يوم الجمعة… فأدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة في بني سالم بن عوف فصلاها في المسجد الذي في بطن الوادي…) ثم بعد ذلك توجه إلى المدينة، إلى أن بركت ناقته «خلوا سبيلها فإنها مأمورة» كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعندها نزل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وبنى مسجده ومساكنه.
لقد كان من أوائل الأعمال، بل على رأسها، التي قام بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، هي بناء المسجد. إن المسجد ركيزة أساسة في الإسلام، فهو مركز للصلاة والجهاد والسياسة والحكم، فكما كانت تقام فيه الصلاة، كانت تعقد فيه ألوية الجند، وتنطلق الكتائب منه وتعود إليه، يصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم شكراً لله فيه عند رجوعه من المعركة، ويُبصِّر المسلمين، من على منبره، بأحكام دينهم. لقد كان المسجد باعثاً للحيوية والنشاط في قلوب المسلمين، وهو أمر بالغ الأهمية في بعث الأمة وتدفق حيويتها.
واليوم عطل الحكام مساجد الله من ذكر كلمة الحق، وأصبحوا ينشرون فيه عيونهم وزبانيتهم، تحصي على المسلمين أنفاسهم، وترقب ما يقال في خطبة الجمعة، خوفاً من محاسبة الظالمين، على ما يرتكبونه من جرائم في حق الإسلام والمسلمين (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم).
خامساً: في أوائل عهد عمر رضي الله عنه، وفي جمع من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، طلب عمر أمير المؤمنين، أن يختاروا حدثاً مهماً في حياة المسلمين ليتخذه بداية للتاريخ الإسلامي. ودارت الخواطر تطوف على الأحداث المهمة… مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزول الوحي… لكن علياً رضي الله عنه صدع برأي في ذلك المجلس، فقال لنتخذ الهجرة بداية للتاريخ الإسلامي فوافقوه وأقروه.
إن اعتماد الهجرة بداية للتاريخ الإسلامي، ذو دلالة عظيمة، فعلى الرغم من أهمية مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأهمية نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أن عزة المسلمين وعلو سلطانهم، لم تتم ولا تتم إلا بإقامة دولتهم، تقيم الأحكام، وتعلي راية الإسلام، وتفتح الفتوح. فالدولة الإسلامية هي حافظة الدين، تحرس أحكامه، وتحقق أمنه، وغيابها ذل وهوان، وضعف وفرقة، كما هو واقع اليوم. إنها فرض عظيم، وأي فرض، «ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية».
إن تقديم المسلمين حادثة الهجرة كبداية للتاريخ الإسلامي، على حوادث عظيمة أخرى، تستأهل الوقوف، لتدبر هذا الأمر، وإدراك كم هي مصيرية، قضية وجود الدولة الإسلامية، وكم هو فرض عظيم، فرض العمل لإقامة الخلافة، وتنصيب الخليفة، وتطبيق أحكام الإسلام.
ومن الجدير ذكره، أن السنة الأولى للهجرة، عدَّت كاملة من أولها، أي من محرم الحرام، علماً أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد هاجر في الثاني عشر من ربيع الأول من تلك السنة. ثم استمر التاريخ الإسلامي على هذا الأساس.
إننا نسأل المولى سبحانه، النصر والتمكين، والعون والتوفيق، لعباده العاملين لاستئناف الحياة الإسلامية في الأرض، بإقامة دولة الخلافة الراشدة، ويومئذٍ يفرح المؤمنون بنصر الله (ألا إن نصر الله قريب) .
ـــــــــــــــ
(1) إنهم على كفرهم، كانت عندهم مروءة، فلم يقبلوا أن يقتحموا الدار ويدخلوها عنوة مستبيحين حرمتها ومتسورين الحيطان على أهل الدار مع أنهم جاؤوا لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن نرى اليوم أجهزة الظالمين تقتحم البيوت ليلاً ونهاراً، لا يقيمون وزناً لقيم أو مروءة أو حياء.
2000-04-07