دولة الخـلافـة بين النشـوء والإقامة (2)
2000/01/07م
المقالات
1,722 زيارة
أبو إبراهيم/ اليمن
هناك الكثير من حملة الدعوة المخلصين في الأمة، لم يدرك بعد معنى حمل الدعوة لاستئناف الحياة الإسلامية، عن طريق إقامة الدولة الإسلامية، التي تحمل رسالة الإسلام إلى العالم بالدعوة والجهاد، فهم لم يتصوروا عظم وضخامة هذا المشروع وسمو الغاية، لذا فهم يتخيلون أن العمل هو لاستلام الحكم فقط ومنحصر به، فتجد الآراء والاقتراحات الكثيرة بلزوم التركيز على أخذ الحكم، وعلى إقامة الدولة بمختلف الطرق، وبشتى الأساليب والوسائل، حتى وإن لم يتم تغيير مجموعة المفاهيم والمقاييس والقناعات المخالفة للإسلام التي تحملها الأمة، لأن الدولة (حسب تصورهم) كفيلة بتغييرها، وإيجاد مجموعة المفاهيم والمقاييس والقناعات الإسلامية، عن طريق وسائل الإعلام، ومناهج التعليم، والتطبيق العملي للإسلام… وهناك ممن حمل لواء الإسلام والعمل له، من يقول بعدم وجوب وجود حزب على الأقل يعمل لاستئناف الحياة الإسلامية، بل يذهب إلى أبعد من ذلك، فيحرم الحزبية ويحارب وجودها، ويكفي في تصوره وجود مفكرين وكُـتّـاب ووعاظ يقومون بتأليف المؤلفات، ونشر الكتب والكتيبات، أو إصدار الخطب المسجلة لتقويم اعوجاج الأمة وإقامة الدولة.
أما دولة الخلافة فإنها تقوم بناءً على بيعة الأمة، فالأمة هي مصدر السلطان بالنسبة لها، وقد بايعتها لتحكمها وترعى شؤونها بما تحمله من مفاهيم وأفكار، فالدولة لا تستطيع تغيير مجموعة المفاهيم والمقاييس والقناعات التي تحملها الأمة لأنه لن يكتب لها البقاء، ولكن لو فرضنا جدلاً أن الدولة قامت بتطبيق مجموعة من المفاهيم والمقاييس والقناعات خلاف ما تحمله الأمة وما ألفته أو عملت على تغيير ما يحمله الناس من أفكار، فإنها إن فعلت ذلك فهي بين خيارين: إما أن تضطر من جراء ضغط الناس عليها للنزول عن سدة الحكم والتخلي عن السلطة، وإذا أصرت على استمرارها في الحكم فستجبرها الأمة على النزول لأن السلطان بيدها.
والخيار الثاني هو أن تخضع الدولة لمطالب الناس، وتطبق ما يحملونه من مفاهيم ومقاييس وقناعات.
ومن ذلك كلـه يتـبـيـن بوضـوح أن الـدولـة كيان تنفيذي فحـسـب لمـجـمـوعـة المـفـاهـيـم والمقاييس والقناعات التي تقبلتها مجموعة من الناس أو الفئة القوية منها.
أما الأمة فإنها كيان اجتماعي متنوع ومعقد فهو متولد من ذكر وأنثى، وتتفاوت فيه القوى الفكرية والعضوية والجسمية وتختلف فيه الأساليب التنفيذية لما يحمله من مفاهيم ومقاييس وقناعات، وهو فوق ذلك كله تسيطر عليه الأفكار الأساسية التي تفرعت عنها هذه المفاهيم والمقاييس والقناعات سيطرة تجعل من الصعب عليه أن ينتج غيرها فهو محصور التفكير بها، ولذلك فإنه لا يمكن أن يكون كياناً فكرياً، ولهذا ليس بوسع أي شعب ولا أية أمة أن يبدل «بصفته الجماعية» نظرته إلى الحياة العامة ويغير مفاهيمه ومقاييسه وقناعاته التقليدية المشتركة مهما بلغت هذه المفاهيم والمقاييس والقناعات من التأخر والانحطاط.
فالدولة بصفتها الكيانية والشعب أو الأمة بصفته الجماعية ليسا مصدراً للمفاهيم والمقاييس والقناعات وإنما هما محل تنفيذ هذه المفاهيم والمقاييس والقناعات، فالأمة تنفذها على نفسها والدولة تنفذها على الأمة، فهما منفعلان بالمفاهيم والمقاييس والقناعات وليسا فاعلين، ويتحركان ويتصرفان إزاء الحياة بموجب مجموعة المفاهيم والمقاييس والقناعات حيث تصبح القاعدة التي ينطلقان منها إلى الواقع الحقوقي للدولة والواقع المجتمعي للأمة. وعلى ذلك فلا بد أن يكون مصدر هذه المفاهيم والمقاييس والقناعات والفاعل في الدولة والأمة هو شيء غير الأمة أو الدولة يكون فاعلاً لا منفعلاً ويكون هو القادر على إيجاد هذه المفاهيم والمقاييس والقناعات والقادر على تركيزها والقادر على تعديلها وتبديلها والقادر على المحافظة عليها وهنا قد يتبادر إلى الذهن أنهم الأفراد المفكرون الذين ينشأون في الأمة وأنهم هم الذين ينهضون بها وهم الذين يوحدون الدولة والمجتمع، وقد يستشهد في هذا المجال بالأنبياء وبالمصلحين فإنهم أفراد ونهضوا بأممهم، وهنا يقع الخطأ وتزل الأقدام لأن الأفراد بصفتهم الفردية ليس لهم كيان، والأمة في مجموعها كيان، والدولة كيان فلا يمكن أن يؤثر في كل منهما إلا كيان أقوى منهما، له الصفة الكيانية المركبة من عوامل يربط بينهما رابط يجعلها تشكل كياناً، فالفرد مهما بلغت قدرته لا يمكن أن يؤثر في كيان مهما بلغ ضعفه فلا يؤثر في الكيان إلا الكيان، هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن الفكرة حين تحصل في ذهن الشخص الفرد تتسم بطابع فكري شخصي بحت مهما كان سبب حصولها سواءً أكان من إبداع منه أو كان قد سمعها من غيره بغض النظر عما إذا كان هذا السماع آتياً عن طريق القراءة أو التلقين، وتظل الفكرة على هذه الصفة الفكرية الشخصية ما دامت تأخذ جانب التفكير فقط، ويعتبرها ملكاً له، ويحرص على تمييزها بطابعه وحده، فتنقلب إلى أفكار نظرية يتحدث بها أو تسكب في مؤلفات، ولا تحدث أي أثر في الدولة أو الأمة مهما كثر عدد المفكرين، ومهما كثرت الكتب والمؤلفات، وحين يتسنى لهذه الفكرة التحول إلى قناعة في المفكر تنتقل من الصفة الفكرية الشخصية إلى صفة المقياس والمفهوم وتتحول من جانب التفكير فقط إلى جانب التفكير والتطبيق، فتخرج حينئذٍ الفكرة من نطاق التفكير إلى حيز الوجود عند الناس، ثم إلى حيز الوجود في المجتمع أما ما هو الذي يجعلها تتحول وتنتقل فإنه الإيمان الجازم بها، أي التصديق الجازم المطابق للواقع عند المفكر. وأما ما هي الطريق التي تسلكها إلى ذلك فإنها طريق الترديد والإقناع، والتطبيق، وهذا لا يتأتى إلا في جماعة، ومع جماعة ويستمر هذا الترديد والإقناع والتطبيق في هذه الجماعة ومعها حتى تصبح الفكرة ملك هذه الجماعة كجماعة، وملك كل واحد منها، وتدخل على نظرتهم للحياة فتحتلها، وعلى تصرفاتهم فتصححها وتعدلها، ويصبح لها سلطان، وتصبح مناخاً يتأثر الإنسان بخصائصه إذا وضع فيه، وبذلك يوجد للفكرة كيان خاص، غير كيان الأمة وإن كان جزءاً منها لا جزءاً من كيانها، ويسير هذا الكيان الخاص تحت سلطان الدولة لا تحت كيانها، هذا الكيان الفكري إنما هو الحزب الذي يتكون في الأمة وعلى ذلك فالذي يؤثر في الشعب أو الدولة إنما هو الحزب وليس الأفراد.
أما ما يسـتشـهـد به من أن الأنبـيـاء كانـوا أفراداً واسـتطـاعـوا بصـفتـهـم الفردية تغيير أقوامهم ومجتمعاتهم، فكذلك الأفراد المفكرون في الأمة يسـتـطـيـعـون تغـيـيـر كيـان الدولة وكيان الأمة بصفتهم الفردية.
فلبيان خطأ الاستشهاد نأخذ مثالاً للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم قدوتنا الحسنة ومن أمرنا باتباعه والتأسي به قال تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً). فإنه من أول يوم بدأ فيه الدعوة إلى الإسلام بدأ بتشكيل كيان للدخول فيه في المجتمع، فبدأ يدعو الناس ممن يستأنس بهم خيراً للدخول في الإسلام، فمن استجاب له ضمه إلى جسمه، وبدأ بتعليمه أحكام الدين وما يتنزل من الذكر الحكيم في دار الأرقم بن أبي الأرقم، وفي بيوت الذين آمنوا، وفي شعاب الجبال، وكان أيضاً يبعث إليهم من يعلمهم أمور دينهم، ويقرئهم القرآن الكريم، ولما نضج هؤلاء الصحابة في ثقافتهم، وتكونت عقليتهم عقلية إسلامية، ونفسيتهم نفسية إسلامية، واطمأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على شخصيات أصحابه، وعلى إدراكهم للصلة بالله، وتركّز العقيدة الإسلامية في نفوسهم حتى أصبحت في ثباتها كالرواسي الشامخات، دخل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بتكتله الجديد (تكتل الصحابة) المجتمع بعد نزول آية الصدع بالدعوة (فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين إنا كفيناك المستهزئين الذين يجعلون مع الله إلهاً آخر فسوف يعلمون) فصدع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأمر ربه، وتحرك هو وأصحابه بكيانه الجديد داخل المجتمع المكي يدعو إلى الله على بصيرة متحملاً هو وأصحابه أشد صنوف الأذى والعذاب قال تعالى: (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين) وعند إسلام حمزة بن عبد المطلب وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما قويت شـوكـة المسـلـمـيـن والدعوة، وأظهر رسول الله أمر التكتل علناً للناس جميعاً بعد أن كان سرياً.
وأيضاً كانت العرب تقول محمد وصحبه إشارة منهم إلى حزب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لأن الحزب في اللغة: الرجل وأصحابه الذين على رأيه.
ومن ذلك يظهر أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يدخل المجتمع ولم يعمل على تغييره بصفته الفردية وإنما دخله بصفته الجماعية أي بكيان فكري وهو تكتل الصحابة رضوان الله عليهم.
وإنه وإن كان الرسول صلى الله عليه وسلم يختلف عمله كرسول في تبليغ الإسلام عن الصحابة رضوان الله عليهم وأن بعض الأعمال كان يقوم بها الرسول وحده دون تكليف أصحابه رضوان الله عليهم بها إلا أن الرسول كان يشرك صحابته في أعمال حمل الدعوة في المجتمع كالاتصال بالناس، وتعليم القرآن الكريم أو إظهار التحدي وقوة الدعوة، وإيجاد أجواء للدعوة خارج مجال الدعوة بالأشخاص الذين آمنوا به وبدعوته… وهكذا قام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بأعماله في المجتمع ككيان وتكتل وليس بصفته الفردية، ولمزيد من الإيضاح نأخذ بعض المواقف والحوادث المأخوذة من السيرة النبوية التي تظهر تحرك الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ككتلة في المجتمع وليس بصفته الفردية:
1ـ قيام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بإنشاء تكتل في المجتمع من الأشخاص الذين آمنوا بدعوته، بضمهم إلى جسمه وتعليمهم القرآن الكريم وبناء شخصياتهم عقلية ونفسية.
2ـ قيام بعض الصحابة بأعمال حمل الدعوة من كسب الأشخاص للدعوة، وتعليم القرآن الكريم، كقيـام أبي بكـر بالدعـوة إلى الإسـلام، وإسلام بعض الصحابة على يده كعثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم، وتعليم الخباب بن الأرت القرآن الكريم لفاطـمـة بنت الخطاب وزوجها سعيد.
3ـ طلب الرسول صلى الله عليه وسلم من بعض الصحابة القيام ببعض أعمال حمل الدعوة، ومثال ذلك:
أ ـ عندما أراد أن يقوم بعمل فيه تحدٍ لقريش بإسماعها القرآن الكريم طلب من أصحابه القيام بذلك فقام عبد الله بن مسعود وقرأ على قريش القرآن.
ب ـ طلبه صلى الله عليه وآله وسلم من أبي ذر الغفاري الرجوع إلى قومه ودعوتهم إلى الإسلام، لإيجاد أجواء للدعوة خارج مجال دعوته صلى الله عليه وآله وسلم.
جـ ـ إرساله لمصعب بن عمير إلى المدينة لدعوة أهلها إلى الإسلام وللقيام بعمل طلب النصرة.
4ـ حرص الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على جلب شخصيات بارزة ومؤثرة لتقوية جسم تكتله والدعوة فقال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: «اللهم أعز الإسلام بأحد العمرين».
5 ـ بعد إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه أظهر الرسول الكتلة كعمل كفاحي فيه التحدي لقريش بالكيان الفكري الجديد.
ومن هنا تسقط الشبهة ويتبين أن الأفراد والمفكرين في الأمة لا يستطيعون التغيير بصفتهم الفردية مهما كتبوا من كتب وكتيبات، ومهما ألفوا من مؤلفات، وأن الحزب وحده القادر على التغيير والتأثير في كيان الدولة وكيان الأمة.
وعلى قدر تمسك الحزب بكيانه الفكري تطول أو تقصر فترة صراعه، إذ إن تمسكه الفكري ككيان يقصر فترة صراعه، وتساهله فيه يطيل مدة هذه الفترة، هذا من ناحية تكتلية وبحث في واقع، ولكن قد تطول الفترة مع التمسك بكيانه الفكري امتحاناً وابتلاءً للمؤمنين، أو لحكمة يعلمها سبحانه كما حصل مع الأنبياء والمرسلين من تأخر النصر عليهم، فالنصر بيد الله يؤتيه من يشاء في الوقت الذي يريد، وما لم يتحول الحزب عن مفاهيمه ومقاييسه وقناعاته فإنه لا شك سيصرع كيان الفئة القوية في الناس، ويصبح وإياها كياناً واحداً يأخذ فيه كيانه البارز مركز القيادة، فتسلمه الأمة قيادتها. وبالكيانين الفكري والتنفيذي يستولي على باقي الفئات ويصهرها كلها في كيان واحد هو كيان الأمة. والصراع الذي يحصل مع كونه صراعاً فكرياً فهو صراع مقاييس ومفاهيم وقناعات وليس صراع أفكار مجردة، ولذلك يتناول العلاقات العامة والمصالح العامة، لأنه يريد أن يحطم الصفة الكيانية الفاسدة للأمة بتحطيم المفاهيم والمقاييس والقناعات التي يتكون عليها الكيان لا تحطيم الأمة إذ إنه يسعى لأخذ الأمة ورفع شأنها واستبدال كيانها الحالي وإعطائها كياناً أفضل منه، يصبح كيانها المتميز بالرفعة والسمو ويريد أن يحطم الصفة الكيانية للدولة بتحطيم المفاهيم والمقاييس والقناعات التي تقوم عليها واستبدال كيانها الحالي بإعطائها كياناً جديداً على أساس المفاهيم والمقاييس والقناعات الجديدة.
مما سبق يتبين ضرورة وجود العمل الجماعي في كتلة أو حزب لإحداث التغيير في الأمة، وأن العمل الفردي يبقى قاصراً عن إحداث التغيير.
نسأل الله سبحانه لمن هداهم الله إلى الطريق المستقيم فعملوا في حزب أو كتلة لاستئناف الحياة الإسلامية أن يُـعجِّـل الله لهم النصر في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد.
ونسأله سبحانه للمسلمين غير العاملين في هذا الطريق أن يتبيَّن لهم الحق فيلتزموه. وأن يعز الله هذه الأمة بالخلافة الراشدة فتعود عزيزة كريمة خير أمة أخرجت للناس.
[انتهى]
2000-01-07