التغيير في سوريا: غليون في الميزان
2012/01/07م
المقالات
1,591 زيارة
التغيير في سوريا: غليون في الميزان
فؤاد الزهيري
لا تزال آلة القمع البشعة للنظام السوري تنزل بالشعب مختلف صنوف الأذى والقتل والخراب والدمار، وتحصد الأرواح البريئة بالعشرات يومياً لأكثر من تسعة شهور متواصلة أمام سمع العالم وبصره. بينما يبقى الناس صابرين بعزة وإباء مما يبعث الأمل في اقتراب النصر بقرب زوال أنظمة البطش والاستبداد. ولكن ما يدهش المرء أن يرى، رغم ذلك، الأنظمة الفاسدة العميلة في المنطقة، عربية وغير عربية، تتواطأ سرّاً وعلناً مع الدول الأجنبية لترتيب إيجاد مخرج أو بديل للنظام يحافظ على الغرب ومصالحه، ويقطع الطريق أمام أي تغيير حقيقي بحجج واهية كالحفاظ على الاستقرار في المنطقة، وعلى حقوق الأقليات، وعلى عدم استعداء الغرب ضد المسلمين.
لذلك ليس عجيباً ما رأيناه من سعي تركيا وقطر الحثيث في إنجاب المجلس الوطني السوري برئاسة الدكتور برهان غليون المشهور بعلمانيته الفاقعة والتي يروج لها منذ سنين طويلةوما زال، وها هو يدعو إلى «إقامة دولة مدنية في سوريا» بعد انتخابه رئيساً للمجلس الوطني موضحاً بأنه «يقبل بحكومة إسلامية، لكنه لا يمكن أن يقبل بدولة إسلامية» مؤكداً بأنه «يريد دولة علمانية ديموقراطية»، ما يعني أن دعوته ابتداء إلى الدولة المدنية هي صيغة مخففة للتدليس على الناس لإيجاد الدولة العلمانية، ذلك أنه يدرك بأن الشعوب المسلمة تتطلع بشوق إلى تغيير يعيدهم إلى الإسلام لا غير، وذلك بحسب ما ردده غليون نفسه مراراً بقوله «إن التيار الإسلامي يهيمن على الشارع بشكل كبير».
وأما قبول غليون بحكومة إسلامية فما هو سوى ذر للرماد في العيون، إذ يفهم منه العامة أنه ليس ضد الإسلام، فيما يقصد هو بأنه لا مانع من أن يشترك الإسلاميون في الحكومة أو حتى يشكلونها، على شرط أن لا تحكم بالإسلام، حيث إنه لا يرضى بحسب نصه بأن تكون الدولة إسلامية بل يجب بزعمه أن تكون علمانية تحكم بالقوانين الوضعية، وإشراك الإسلاميين في الحكم ما هو سوى مجرد خديعة يراد منها احتواء الشعوب المسلمة، كما هو حاصل في تركيا وتونس ومصر وليبيا.
ومما يضع علامة استفهام كبيرة حول مدى استقامة غليون فوق علمانيته الفاقعة دعوته مراراً في وسائل الإعلام إلى «العمل على طلب الحماية الدولية»، مما يعني فتح الباب مجدداً لكي يقتحم الغرب حياتنا ويتدخل في كل صغيرة وكبيرة في شؤوننا، فيما هو يعلم تماماً بأن الغرب هو سبب آلامنا ومآسينا، وليس مطلوباً البتة سوق الأمة كالقطيع من حظيرة إلى أخرى، إنما المطلوب تحريرها، وما تضحيات شعوبنا سوى ثمن مستحق لتحصيل استقلال إرادة الأمة وخلاصها من طواغيتها.
وغليون رئيس المجلس الوطني، الذي يدعي تمثيل الشريحة الأوسع من السوريين، مولع بالفكر الغربي الذي يشكك في صلاحية الإسلام وشريعته لتنظيم شؤون الحياة، لذلك يطالب بإقصاء الإسلام عن الدولة والسلطة والتشريع صراحة، استناداً إلى أفكار مجتَرَّة من كتب المستشرقين، وما هو في الحقيقة إلاّ أحد تلامذتهم، الذي انتهج نهجهم وتابع رسالتهم، ولهذا منح كرسيّاً لمتابعة نهجهم وتدريس منهجهم في جامعة السوربون في باريس.
يقول غليون في كتابه: «نقد السياسة الدولة والدين»: «المصيبة أن الكثير من معادي العلمانية يظنون أنها مرادف للّا دينية، وعلى هذه الأرضية يشنون عليها سخطهم بينما هي بكل بساطة: هي القبول بأن الدين لله والوطن للجميع». إن استنتاج غليون يدل على أنه سطحي ويكرر الكلام من غير تفكير عميق، فمن يقول إن الوطن للجميع في مقابل أن الدين لله يعني بشكل مباشر رفض أي دين ينص على وجوب التزامه بكافة شؤون الحياة، وهكذا تكون العلمانية خصماً للإسلام وضداً له لأنها تقصيه عن الحياة، ولا يمكن أن يجتمع تطبيق الإسلام وتطبيق العلمانية في المجتمع ذاته، فوجود أحدهما يعني إقصاء الآخر حتماً. ومن ثم هل يسمى مفكراً حقاً من يعتبر أن مقولة إن الدين لله والوطن للجميع ليست ضد دين الإسلام، الذي ينص على أن الدين لله والوطن لله، بل الدنيا والآخرة وكل ما في هذا الكون لله وحده لا شريك له.
إن القول بأن الدين لله والوطن للجميع إنما يعني فصل الدين عن شؤون الحياة، بحيث يبقى الدين محصوراً في علاقة الإنسان بربه دون أن يكون له دور أو تأثيرفي علاقته بالآخرين، ناهيك عن منع الدولة وجميع مؤسساتها وسياساتها من استمداد أي شرعية لها من الدين أو الاسترشاد بأي شيء من أحكامه. ومن ثم فإن هذا الفهم لهذه العبارة هو نقيض الإسلام حتى ولو لم يكن معناها من وجه أو آخر اللادينية بعينها. فالمسألة لا تتعلق بترتيب مصطلحات وتعريفها، إنما بواقعها ودلالاتها وأثرها في الواقع. ومن عجائب جرأة هذا الرجل قوله: «ليس في الشرع الإلهي ولا يمكن أن يكون فيه مادة جاهزة لكل القضايا والميادين». فلو اكتفى بقوله أن الشرع الإلهي ليس فيه مادة جاهزة لكل القضايا لقلنا عنه جاهلاً كحال غيره، ولبينا له بأن ادعاءه هذا مناف لحقيقة الإسلام، لأن الشرع الإسلامي بعمومه فيه علاج كل مسألة وحلّ كل قضية بنص القرآن الكريم: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ)، ولكن هذا العلاج أو ما يرمز إليه غليون بالمادة الجاهزة لكل القضايا والميادين يتوصل إليه من قبل ذوي الاختصاص (أي المجتهدين) باستنباطه من نصوص الشريعة (القرآن والسنة)، وهو ما حصل عبر التاريخ الإسلامي، دون حاجة المسلمين طيلة تلك العصور إلى الأخذ بأي قانون من خارج الشريعة أو تعطيل أي حكم فرض عليهم في الشريعة، وكتب الفقه التي وضعها أئمة الفقه عبر تلك العصور شاهد أمين على ذلك. أما جرأة غليون التي تدل على غلو لاديني هو افتئاته على الله جل شأنه وزعمه بأنه لا يمكن لشرعه أن يستوعب كافة شؤون الحياة!؟
ويقول غليون: «لم يفكر الإسلام بالدولة، ولا كانت قضية إقامة الدولة من مشاغله». فها هو هنا يردد مقولة المستشرقين ومن تأثر بهم أمثال طه حسين وعلي عبد الرازق أدعياء عدم وجود نظام حكم في الإسلام، بمعنى عدم وجود أساس لمفهوم الدولة في الشرع الإسلامي. وهو افتراء فاضح تكذبه آيات الحكم في القرآن، سواء بمعنى القضاء أو بمعنى علاقة الحكام بالمحكومين. فقوله سبحانه وتعالى: ( فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) واضح فيه وجوب تحاكم الناس إلى شرع الله بل ورضاهم بهذا الحكم. ويؤكد هذا الأمر قول الله تعالى مستنكراً رغبة البعض في التحاكم لغير شرع الله واعتبار من يصنع ذلك غير صادق في إيمانه كما في قول الله تعالى: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا )
بل بالإضافة إلى وجوب الطاعة لله ولرسوله في كل أمر ونهي ورد في القرآن والسنة، فإن الله أمر أيضاً بوجوب طاعة أولياء الأمور، أي الحكام ولكنها طاعة لهم ما داموا يلتزمون بشرع الله تعالى، لأنه لا طاعة في معصية. وإذا حصل خلاف بين الحكام والمحكومين فالحَكَم في هذا الحال هو شرع الله كما يبينه قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا )
إضافة لما سبق فمن المعلوم للقاصي والداني أن رسول الله قد أسس دولة وبيّن لنا من خلالها الأحكام الواجب اتباعها إزاء الدول الأخرى وبأصحاب الأديان الأخرى فضلاً عن علاقة الدولة بالمسلمين أنفسهم، كما رسم معالم تلك الدولة بشكل واضح سواء في القضاء أو الاقتصاد أو الحرب أو السلام أو غيرها من الشؤون. وبعد كل هذا يزعم غليون بأن الإسلام لم يفكر في الدولة!؟ ويقول غليون: «لا يوجد شيء في التاريخ لا يخضع للتبدل والتغير… وبالتالي فمن أكبر المحاذير أن ننسى ذلك ونحاول أن نطبق على مشاكلنا الخاصة حلول الماضي». ونحن ندرك أن هناك تغييراً وتبديلاً دائمين، ولكن ذلك في الأمور المادية ووسائل الحياة وأدواتها، أي ما يسمى بالعلوم والتكنولوجيا والإدارة وليس في الإنسان، فهو بطبائعه وغرائزه وحاجاته العضوية لا يتغير ولا يتبدل، ومن هناك فإن الأحكام الشرعية المتعلقة بالإنسان وحاجاته وغرائزه وطرق إشباعها لا تتغير ولا تتطور. ومن ثم فإن الله تعالى خالق الكون والإنسان والحياة هو من نبهنا إلى صلاحية دينه لكل زمان ومكان، فهل نتبع غليون ونترك دين الله، الذي يقول: ( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ) ، وقوله: ( وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ) ، وقوله عليه الصلاة والسلام: «تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله وسنتي». إلا أن غليون تجاهل كل ذلك، كما أغفل الاجتهاد الذي يعتبر آليه شرعية لاستنباط الحلول للوقائع الجديدة من النصوص الشرعية، وهو ما أسلفت فيه القول بأن هذا ما قام به الفقهاء في الماضي ويقومون به في الحاضر وسيبقى مستمراً إلى قيام الساعة. لذلك فإن استنكار غليون لتطبيق حلول الماضي على مشاكلنا الخاصة مردود عليه، لأنه إذا كانت هذه المشاكل هي نفس المشاكل السابقة فلا ريب أننا سنعالجها بنفس الأحكام دون اعتبار لتغير الزمان أو المكان. أما إذا كانت مشاكل جديدة ووقائع جديدة فلا خلاف في أنه لا بد من إيجاد الأحكام المتعلقة بها مستنبطة من الكتاب والسنة، لا من تصورات الرجال الذين يشاهد فيهم العجز والقصور والتقلب والتنقل بين المتناقضات واللهاث وراء الأوهام والنزوات.
وفي كتاب «مأزق الدولة بين الإسلاميين والليبراليين» الذي ساهم في كتابته برهان غليون -صدر عام 2010م، يقول في تعريف معنى الدولة المدنية التي يدعو لها: «الدولة ضرورةُ اجتماع، يقتضيها الاجتماع ويبنيها، لا تبنيه، معنى ذلك أن الاجتماع متغير ومتطور تبعًا للأزمنة والأحوال وتطورات انتظامه وتكويناته ومعارفه، فإذا تغيّر وعي الاجتماع لذاته وعلائقه،…، وتغيرت الأدوار تبعًا لذلك، فلا بد أن يؤثر ذلك في شكل الدولة، وأدائها، ودورها، ومصدر شرعيتها، وآليات تحقيقها، طبقاً للتغيرات الحاصلة في بنيان المجتمع». لا نختلف مع غليون في قوله إن الدولة تقتضيها ضرورة الاجتماع، أي تواجد الناس معاً ونشوء علاقات بينهم. فنشوء المجتمعات يقتضي وجود نظام ينظم العلاقات فيه ومعالجات لما قد ينشأ عن هذه العلاقات من مشاكل، وبالتالي ضرورة وجود دولة ذات سلطة لتطبق هذا النظام وترعى شؤون رعاياها حسب أحكامه. ومع هذا فإن الإنسان ليعجب كيف يقر غليون بالضرورة الاجتماعية لوجود الدولة ثم يقول بأن الإسلام لم يفكر بالدولة مع حاجته الحتمية لها لتنظيم شؤون أمة إسلامية جديدة ومجتمع إسلامي بدآ ينموان منذ وصول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. فماذا يسمي غليون وثيقة المدينة التي كتبها رسول الله صلى الله عليه وسلم لتنظيم العلاقة بين مختلف سكان المدينة من مسلمين ويهود ومشركين؟ ثم ألا يعلم غليون وأقرانه من العلمانيين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، بل ما قاله وفعله هو وحي من الله يجب على المسلمين السير وفقه استجابة لأمر الله سبحانه: ( وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ )
لعل أبرز أسباب ما يقع فيه غليون وأمثاله من حملة هذا الفكر العلماني والمروّجين له في العالم الإسلامي، أنهم لم يعنوا أنفسهم بدراسة الإسلام، بوصفه طريقة عيش ومنهج حياة ينبثق عنه نظام حكم متميز، ونجد أن أغلب هؤلاء اطلعوا على الإسلام من خلال أساتذة مستشرقين قادوا حملة الغزو الثقافي الصليبي للعالم الإسلامي فدرسوا الإسلام ليشوهوه وليدسوا عليه ما ليس منه، فشبّ حملة هذا الفكر بالتالي جاهلين بالإسلام ومعادين له في آن واحد، فكان ما نرى من حملاتهم الفكرية والسياسية ضد نظام الإسلام ومن تحريضهم عليه. ولو كان غليون مسلماً نجيباً لنقد الفكر الغربي العلماني الذي أشعل صراعات وحروباً دمرت البشرية، ولأوضح مدى حاجة العالم الذي يئن من فحش الرأسمالية وبشاعتها للإسلام ولدولة الخلافة، ولتعاطف مع شعبه وقضاياه على أساس الإسلام الذي يؤمن به، بدل أن يجعل من نفسه رأس حربة على المشروع الإسلامي.
2012-01-07