سوريا ومسيرة الخلاص
2012/01/07م
المقالات, كلمات الأعداد
1,913 زيارة
سوريا ومسيرة الخلاص
سياقات الثورة
كسر الشعب السوري أخيراً جدار الصمت وأسقط حاجز الخوف وثار على نظام الطاغية الطائفي المقيت، وباتت لا تغيب صور المظاهرات عن شاشات التلفاز مصحوبة بأصوات الرصاص بل والمدافع التي توجهها أعتى آلة قمع عرفها الشرق الأوسط في العقود الخمسة الماضية، وصور الدبابات التي لا تكاد تخرج من مدينة حتى تجتاح مدينة أخرى، ولا تغادر حيّاً إلاّ لتقتحم حيّاً آخر. ولكن أبشع ما تحمله القنوات الفضائية هو أخبار قتل المتظاهرين السلميين الذي لم يتوقف طيلة الشهور التسعة الماضية، يصيب الأطفال والنساء كما يصيب الرجال. ولكن ما يثلج الصدر هو صمود الثائرين رغم استمرار تدفق هذه الدماء البريئة، وشعاراتهم التي تنمّ عن عمق المشاعر الصادقة التي تنشد الخلاص من الظلم والظلّام إلى جانب مفاهيم الأعماق الإسلامية المختزنة في نفوسهم.
إلا أن هذه الثورة ظهرت بلا قائد ولا رائد سوى ما تصنعه وتقدمه وسائل الإعلام الخليجية لها من شخصيات وأحزاب. ومن المعروف أن دول الخليج مرتبطة بسياسات بريطانيا، تلك التي تتعاون سوية مع فرنسا في استثمار هذه الثورة لتنالا من النظام الأسدي الذي قضى على نفوذهما في الداخل وحجمه في لبنان، كما أزعجهما في غالب دول المنطقة لصالح أميركا منذ أن اختار حافظ الأسد أن يسير في ركابها. ولذلك تحاول بريطانيا وفرنسا السعي إلى التأثير على الثورة وتوجيهها بحسب مشاريعهما، ولضمان استعادة نفوذهما المهدور في سوريا في حالة نجاح الثورة جزئياً أو كلياً. ولطالما تحينت بريطانيا وفرنسا الفرص للانقضاض على النظام السوري بغية إسقاطه، وقد برز هذا للعيان إبان اغتيال رفيق الحريري في لبنان عام 2005م.
الصراعات الطائفية
يتميز المجتمع في سوريا بتنوعه العرقي والطائفي كغالب بلاد الشام، حيث يضم عرباً وكرداً وأشوراً وأرمن وتركمان كما يضم العلويين والدروز والإسماعيليين والنصارى إلى جانب أغلبية ساحقة من السنّة. إلا أن هذا التنوع لم يمثل مشكلة في تاريخ سوريا فضلاً عن المنطقة منذ أن أصبحت جزءًا من دار الإسلام، بل عاشت جميعها في وئام واستقرار وسلام، إلا في حالات استثنائية وقع أغلبها بفعل دسائس الدول الأوروبية في فترة ضعف مرت بها الدولة العثمانية، على نحو ما وقع بين الدروز والنصارى في جبل لبنان عام 1860م. ويوم ثار الشعب السوري ضد الاحتلال الفرنسي كانت قيادة الثورة من مختلف القوميات والطوائف. ولم يظهر الفرز الطائفي في المجتمع سوى في العقود القليلة الماضية على يد حافظ الأسد الذي انتهج سياسة إقصائية تمييزية طائفية بعد انقلابه على رفاقه القدامى واستلامه الحكم في سياق «الحركة التصحيحية» ظنّاً منه أن الطائفية هي السبيل الوحيد لإبقاء هيمنته على الدولة، فأقصى أهل السنة وهم الأكثرية من المناصب الحساسة، وصمم دستوراً جديداً يضمن له الاستمرار بالحكم دون غيره، ونصب حزب البعث قائداً صورياً للمجتمع والدولة، ليحكم قبضته على زمام الأمور من خلال الحزب والدستور اللذين لم تكن لهما أية قيمة فعلية سوى ما يمنحه هو إياهما. ولذلك تمكن من توريث الحكم لابنه بشار بيسر وسهولة، رغم أن سوريا دولة جمهورية، ورغم كراهية الشعب لهذا النظام بسبب مجازره البشعة في حماة وتدمر وغيرهما، إلى جانب استشراء الفساد والظلم والاستبداد لديه، واستئثار زمرة ضيقة من الأراذل معه بالسلطة والثروة.
المظلة الدولية
في ظل الصراع الدولي بين الاتحاد السوفياتي وأميركا وأوروبا العجوز، اختار حافظ الأسد أن يسير في ركاب أميركا كي يضمن لنظامه غطاء سياسياً دولياً، يمكنه من تأمين نفسه محلياً وإقليمياً، وبالتالي يحتفظ بالسلطة في سوريا ونفوذ قوي في المنطقة. وقد ظهرت ثمار ارتباطه بالقطب الأميركي من خلال مشاركة النظام في مسرحية حرب تشرين «التحريرية» عام 1973م والتي سعت أميركا من خلالها إلى تسخين الجبهات العسكرية لتحريك عملية السلام بعد تعنت من قبل الرأي العام والساسة (الإسرائيليين)، والتي أنتجت اتفاقية كامب ديفيد لاحقاً، كما تجلت علاقة النظام بأميركا بشكل أوضح من خلال مساعدتها بشكل مباشر في حربها ضد العراق عام 1991م وصولاً إلى التصاقها بها فيما سمي الحرب الأميركية على الإرهاب، فضلاً عن تحجيم خصوم أميركا في لبنان إبان سيطرته عليه وعبر دعم العملية السياسية الأميركية في العراق بعد سقوط نظام صدام حسين. ولزيادة حماية النظام وضمان عدم تهديده، قام النظام السوري بتأمين جانب (إسرائيل) على الصعيد المحلي بعد أن سلم لها الجولان في حرب 1967م ومنع أي عمل عسكري يؤرقها على تلك الجبهة لعقود طويلة.
تداعيات السقوط
استناداً إلى علاقات النظام السوري المتشابكة والمعقدة مع لبنان وفلسطين والعراق وإيران وتركيا، فإن إضعافه فضلاً عن إسقاطه سيعني تأثر المنطقة بشكل تلقائي، بخاصة أنه معول عليه أميركياً متابعة ملفات وتنفيذ مخططات معينة سواء فيما يتعلق بملف التسوية مع (إسرائيل) أو على نحو ما جاء في توصيات بيكر- هاميلتون بخصوص انسحاب القوات الأميركية من العراق وتخويل إيران وسوريا ضمان مصالحها هناك. لهذا فإن سقوط النظام السوري سيكون له تأثير على المخططات الأميركية مباشرة، وبالتالي ستكون له أصداء إقليمية، على خلاف ما حدث في تونس ومصر وليبيا واليمن، بل وعلى نحو أكبر من سقوط نظام صدام حسين في العراق تحت مجنزرات الجيش الأميركي، ذلك أن النظام العراقي آنذاك كان قد فقد تأثيره في المنطقة من حوله بالتدريج ابتداء من انتهاء الحرب العراقية الإيرانية، مروراً بحرب عاصفة الصحراء، وانتهاء بمحاصرته وتهميشه وتهشيمه على مدار 13 سنة.
الموقف الأميركي
سعت أميركا بجدّ منذ هبت رياح التغيير في المنطقة العربية إلى البحث عن بدائل شكلية للنظم المرتبطة بها، والتي رعتها ودعمتها عقوداً من الزمان مقابل الحفاظ على استقرار مصالحها السياسية والاقتصادية والعسكرية في المنطقة. فكان البديل لمبارك في مصر جاهزاً، حيث يمثل الجيش المصري العمود الفقري للنفوذ الأميركي، ولذلك خولت المجلس الأعلى للقوات المسلحة صلاحيات مبارك بعد أن أصبح عبئاً عليها، فألقته جانباً بعد 18 يوماً فقط، لتضمن مصالحها ونفوذها. ولكن الأمر ليس بهذه السهولة في سوريا، حيث يكاد نفوذ أميركا يكون محصوراً في قمة هرم النظام وفي المؤسسة الأمنية المخابراتية دون نفوذ مباشر مستقل لها في الجيش كمؤسسة عسكرية مرتبطة بها كما هو الحال في باكستان ومصر. وبالتالي يضع هذا أميركا في موقع حرج، إذ لا إمكان لإحداث تغيير بيسر في سوريا (ولو على صعيد الشكل) من غير أن يتأثر النظام برمته. وهو ما يفسر تلكؤ أميركا في ممارسة ضغوط حقيقية على الأسد للتنحي، كما فعلت مع غيره، رغم وحشية ودموية النظام السوري في تعامله مع الشعب الذي يطالب بإسقاطه ليل نهار.
وتحاول أميركا إرجاء سقوط النظام قدر المستطاع، ولذلك فهي تغطيه دولياً من خلال تعطيل محاولات أوروبا الدؤوبة لإقحام المؤسسات الدولية في الشأن السوري على غرار ما حصل في ليبيا. يعينها في ذلك كل من مواقف الصين وروسيا بما لهم من وضع في مجلس الأمن، وذلك لتقاطع مصالحهم مع السياسة الأميركية في هذا الشأن. ولو أرادت أميركا شراء صمتهما بل والتصويت لصالح تدخل دولي بدل الفيتو لتمكنت من ذلك، لحجم العلاقات المتشابكة بينهم وللحفاظ على مصالحهم الكبيرة معها (الصين أكبر دائن خارجي لأميركا في العالم)، كما أن لأميركا قدرات على ابتزازهما في قضايا اقتصادية وسياسية وإنسانية. أضف إلى هذا بأن الصين وروسيا تفتقدان لأي نفوذ ذي شأن في منطقة الشرق الأوسط، حيث تقتسم كل من أميركا وأوروبا النفوذ فيه، ولذلك يصعب تفسير اقتحام الصين وروسيا للشأن السياسي في هذه المنطقة في ظل هذا الواقع، سوى بأنهما تخدمان مصالحهما في سياق خدمة مصالح أميركا كون النظام السوري يسير أصلاً في ركابها.
وهكذا تشير الإجراءات المتخذة أميركياً إلى محاولات احتواء الأزمة في سوريا قدر الإمكان، سواء من خلال إعلانها منذ وقت مبكر بأنها لن تستنسخ السيناريو الليبي هناك، بل وتكرارها هذا كلما احتاج الأمر، ما يعني إطلاق يد النظام لمعالجة الوضع داخلياً والسير في مسيرة الإصلاحات الشكلية المتعسرة، إضافة للدور التركي المشبوه الذي يتوقف عند تصريحات جوفاء، والذي لا يتوقع أن يصبح فاعلاً بجد إلا عندما يدرك صاحب القرار في السياسة التركية أن النظام السوري بات آيلاً فعلاً للسقوط، فيتدخل حينها بشكل أو بآخر للمشاركة في صناعة البديل. إضافة إلى المهل المتمددة (الممطمطة) التي تسوقها الجامعة العربية بمبادراتها وبروتوكولاتها الفارغة. مع العلم بأن دول الخليج تحاول قدر المستطاع (في ظل ضعف النظام المصري وانشغاله واستهداف النظام السوري، وتغريد السعودية في سرب بريطانيا) أن تدفع الجامعة جاهدة تجاه تصعيد الوضع مع النظام السوري خدمة لبريطانيا، وليس حرصاً على حرية وسلامة واستقرار سوريا كما تدعي، ولو كان هذا الادعاء صحيحاً لبادرت إلى احتضان شعوبها، وليس سحقها كما يجري في البحرين أو السعودية نفسها، فخيركم خيركم لأهله.
مسيرة الخلاص
تمر الثورة في سوريا في مخاض شرس تتنازعها فيه ثلاثة مسارات، الأول: عملية الاحتواء الأميركية من خلال إجراء عملية إصلاحية شكلية من خلال النظام نفسه (إلغاء قانون الطوارئ، دستور جديد، حكومة وحدة وطنية، إلغاء البند الدستوري المتعلق بقيادة حزب البعث…إلخ) مما يمنح أميركا وقتا وًطاقة لترتيب أوراقها بما لا يؤثر على مخططاتها في المنطقة، ولهذا فإنها ما فتئت تمرر رسالة تهديد ضمنية من خلال تصريحاتها بأن مخاطر سقوط النظام وتداعياته ستشمل المنطقة، وبأن حرباً طائفية ستشتعل فيها، وهو ما دأب على ترديده النظام السوري وكذلك كافة أبواقه وأدواته. الثاني: التدويل وهو ما تدفع أوروبا إليه بقوة، وهو ما أكده نبيل العربي، الأمين العام لجامعة الدول العربية حيث صرح علانية بأنه رفض طلباً أوروبياً لإرسال الملف السوري إلى مجلس الأمن تقدم به إليه وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي أثناء لقائه معهم في بروكسل في 1/12/2011م يعني – إذا ما نجحت محاولاتهم تلك – دخول النظام السوري في مواجهة مع ما يسمى بالمجتمع الدولي، حينها ستسارع بريطانيا وفرنسا إلى فرض حظر جوي على الأجواء السورية وخلق منطقة عازلة في مواقع حدودية لتتمكن من إشعال ثورة مسلحة من خلال مساندة بعض دول الجوار. وهذا التمايز بين الموقفين الأوروبي والأميركي واضح جداً فيما نقلته جريدة الرأي الكويتية في 25/09/2011م من تفاصيل اللقاء الذي جمع الأسد وعدداً من أعضاء الجالية السورية في الكويت الذين التقاهم في 29/8/2011م، والذي أشاد فيه الأسد بالموقف الأميركي معتبراً أنه إيجابي جداً، وأعرب فيه عن ارتياحه من موقف الرئيس أوباما ووزيرة الخارجية هيلاري كلينتون على عكس الموقف الأوروبي الذي اعتبره متشدداً جداً. الثالث: هو يقظة الجيش والتحامه مع الشعب في مواجهة حاسمة مع النظام واستئصاله، عندها ستسقط كافة مخططات الدول الكبرى، ولن تقوى على التدخل لحماية هذا النظام البائس، بعدما ظهر للعالم بأكمله فظاعة جرائمه وبشاعته ومدى احتقاره لشعبه. فهل تتحرر دمشق من هيمنة أميركا عليها وتتخلص من قبضة العصابة الحاكمة وتنأى بنفسها عن خيار التدويل، فتختار مسار التحرر والاستقلال الحقيقي لها وللمنطقة بأسرها، بحكم موقعها وتاريخها والمأمول منها، وكونها مركز الثقل في بلاد الشام. نأمل هذا ونرجوه، وندعو الله تعالى أن يوفق أهل الصدق والإيمان والحنكة والحكمة والدراية لتحقيقه. لكن هذا المسار لا يمكن أن يتم ولن يتأتى تنفيذه بحال إلا من خلال التصور الإسلامي للقضية برمتها. فالخلاص من الطغمة الحاكمة في سوريا والاستعداد للتضحية بالغالي والنفيس لن يستقيم ما لم يكن الإسلام حاضراً في نفوس الثائرين، وما لم يدرك الثوار أنها قضية أمة، وليست مسألة سورية فحسب، وأن الحل بالتالي لا يمكن إلا أن يكون كاملاً بالإسلام ولرفع راية الإسلام، ولحمل رسالة الإسلام، لتقديم النموذج الصحيح الذي يحيي الأمة ويرسم طريق الخلاص للبشرية، فهل من مجيب!؟ قال تعالى: (ولَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)
2012-01-07