كلمة الوعي: عِبرة من غروزني والشيشان
2000/01/06م
المقالات, كلمات الأعداد
1,812 زيارة
قال الله تعالى:(كم من فئة قليلةٍ غَلبتْ فئةً كثيرةً بإذن الله والله مع الصابرين). نعم إنها لعبرة كبيرة لمن كان عنده بصر وفكر. وقد طلب الله من المؤمنين أن يعتبروا من مثل هذه الوقائع، إذ قال في سورة الحشر: (هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشرج ما ظننتمْ أن يَخرجوا وظنّوا أنهم مانعتُهم حصونُهم من الله فأتاهمُ اللهُ من حيثُ لم يحتسبوا وقَذَفَ في قلوبهمُ الرعبج يُخْرِبونَ بيوتَهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبِروا يا أولي الأبصار).
في الحرب التي شنّها الروس على الشيشان ما بين سنة 1994 وسنة 1996 لم يكن أحد يظن أن الشيشان سيصمدون في وجه الآلة العسكرية الروسية المدمّرة. أهل الشيشان رجالاً ونساءً وشيوخاً وأطفالاً أقل من مليون، بينما الروس حوالي 150 مليوناً. الشيشان سلاحهم لا شيء إذا قورن بالآلة العسكرية الروسية التي كانت لوقت قصير إحدى القوتين الأعظم في العالم. ولكن النتيجة كانت أن الشيشان لم يصمدوا فقط بل هزَموا روسيا وجيوشها وآلاتها شرَّ هزيمة، وأخرجوها من الشيشان صاغرة تجر أذيال الخزي والعار. أليس في ذلك عبرة؟
ثم أعاد الروس الكرة في خريف 1999 بعد أن عقدوا الصفقات مع أميركا، وبعد أن تآمروا، وكادوا المكائد لشعب الشيشان المسلم.
أما الصفقات مع أميركا فتضّمنت أن تتوقف روسيا عن معارضة سياسة أميركا في العراق، وفي كوسوفا والبلقان وأوروبا، وتضمّنت أن تسكت روسيا عن خطة أميركا في مد خط أنابيب من أذربيجان إلى ميناء جيهان التركي على البحر الأبيض المتوسط لنقل نفط بحر قزوين إلى بلاد الغرب. وفي المقابل تتستر أميركا على الأموال التي سرقها يلتسن وزمرته من مساعدات البنك الدولي لروسيا، وتساعد أميركا في مجيء خليفة ليلتسن يتستر على فضائح يلتسن، وتساعد أميركا في إطلاق يد الروس في الشيشان. وقد قامت أميركا بتوجيه عملائها من حكام البلاد الإسلامية كي يظلوا صامتين تجاه الهجوم المدمِّر الذي تقوده روسيا على الشيشان، بل إن بعض هؤلاء الحكام وقفوا علناً إلى جانب العدوان الروسي واصفين أهل الشيشان بالانفصاليين الإرهابيين.
وأمّا تآمر حكام روسيا وكيدُ المكائد ضد شعب الشيشان فإن ذلك برز بتدبيرهم نسف البنايات السكنية بأهلها في موسكو ومناطق أخرى، وإلصاقهم ذلك بشعب الشيشان. وكان آخر الأدلة على ذلك ما نشرته صحيفة «الاندبندنت» البريطانية في 06/01/2000 من «أنها حصلت على شريط فيديو يحتوي على «اعترافات» ضابط مخابرات روسي بأن أجهزة المخابرات الروسية هي التي دبرت تفجير البنايات السكنية في موسكو وغيرها، وهذه التفجيرات اتُّخِذت ذريعة لشن الحرب الجديدة على الشيشان، ودفعت فلاديمير بوتين إلى الكرملين».
أميركا نفسها لها مصلحة بإعادة الاعتبار إلى روسيا بعد الهزيمة التي مُنِيَتْ بها على أيدي الشيشان في الحرب (1994ـ 1996)، وإعادةِ هيبتها كقوة عسكرية عظمى يُحسب حسابُها، لأن أميركا تتخذ من روسيا فزّاعة لإفزاع أوروبا من أجل إبقاء حلف الأطلسي ومن أجل استمرار بسط هيمنتها على أوروبا بحجة حمايتها من روسيا. ومن أجل إبقاء روسيا سداً في وجه التوسع الصيني.
إذاً أعاد الروس الكرّة على الشيشان في خريف 1999 بعد أن رتبوا أمورهم الداخلية والدولية والإقليمية والإعلامية والنفسية والعسكرية من أجل تحقيق انتصار سهل في الشيشان، واستطاعوا كسب بعض العملاء لهم من الشعب الشيشاني والشعوب القوقازية.
بدأ الروس عدوانهم الوحشي على الشيشان في تشرين، وكانوا يُمنّون نفوسهم وشعوبهم بأن الأمور ستستتب لهم خلال أيام. وبدأت طائراتهم ودباباتهم وراجماتهم وصواريخهم، وبدأت حربهم الإعلامية والنفسية، والعالم صامت يرقب ساعة النهاية للشعب الصابر المظلوم المعتدى عليه. ولكن ساعة النهاية طالت. ثم بدأ العالم يسمع أن المجاهدين في الشيشان أخذوا زمام المبادرة واستعادوا مواقع عدة من الجيش الروسي، وأوقعوه في كمائن، وقتلوا وأسروا منه كثيراً. وزعم بوتين أن ذلك حصل لأنه أعطى هدنة من جانب واحد بمناسبة الأعياد. ثم ما لبثنا أن رأينا أنه يعزل القادة ويعيّن غيرهم. إنها هزيمة جديدة تنزل بالجيش الروسي على يد المجاهدين الصابرين في الشيشان. أليس في ذلك عِبرة ؟
كل ذلك يحصل على يد الشيشان المحاصَرين الذين تخلّى عنهم إخوانهم المسلمون، بل وقف بعضهم إلى جانب الروس المعتدين الظالمين! فكيف لو وقف المسلمون في العالم إلى جانب إخوانهم في الشيشان؛ كما يقضي عليهم واجب الأخوّة الإسلامية. الله سبحانه يقول: (إنما المؤمنون إخوة) والرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «المسلم أخو المسلم لا يخذله ولا يظلمه ولا يحقره» ويقول: «المسلم للمسلم كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً» ويقول: «المسلمون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمّى والسهر».
إن العبرة التي نستخلصها من ثبات غروزني والشيشان، ومن انتصار غروزني والشيشان هي أن الذي يكون صاحب حق، ويضحي في سبيل تحصيل هذا الحق، ويكون مع الله وشرعه، ويثابر على التضحية والصبر حتى يرزق إحدى الحسنيين: الشهادة أو النصر، في الغالب يحقق الله له النصر في الدنيا بالإضافة إلى ثواب الآخرة مصداقاً لقوله تعالى: (إنا لننصر رُسُلَنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد).
إن انتصار الشيشان على الروس قد حصل في الجولة السابقة (94ـ 96)، وهو حاصل في هذه الجولة (1999ـ2000). حتى لو استطاع الروس كسب جولة من الجولات فإن النصر في النهاية سيكون للمسلمين على الكافرين بعون الله.
والآن لا يوجد بلد من البلاد الإسلامية ولا شعب من الشعوب الإسلامية إلا وهو مُبْتلى ببلاء من نوع بلاء الشيشان أو من نوع آخر. أهل الشيشان حاولوا التخلص من سيطرة الكافر الروسي. كثير غيرهم من الشعوب الإسلامية لم يحاولوا التخلص ورضوا بالعيش في الذل. ثم إن جميع الشعوب الإسلامية والبلاد الإسلامية تُطبَّق عليها شرائع ونظم غير الشريعة الإسلامية وغير النظم الإسلامية وإنْ بنِسَب مختلفة، أنظمة الكفر وشرائعه، والذين يطبقون شرائع الكفر ونظمه هم من أبناء البلاد (من جلدتنا)، وغالبية هذه الشعوب ساكتة عن أنظمة الكفر وشرائعه، وساكتة عن الحكام الكفرة أو الفسقة العملاء لدول الغرب، وهذه بلوى عامة شاملة. وإذا سألتهم: لماذا ترضون بالكفر والذل الذي يجعلكم تخسرون الدنيا والآخرة ؟ يقولون: لا نستطيع التغيير !
إنهم يستطيعون التغيير، كل ما في الأمر أنهم في حاجة أن يسلكوا الطريق الشرعي، وأن تكون نيتهم في سبيل الله، وأن يعزموا على التضحية مهما غلت، وأن يصبروا ويصابروا ويثابروا حتى يحكم الله، والله سبحانه يهيّئ النصر بمشيئته ويعطي الثواب العظيم.
الأمر في الشيشان لا يكتمل بانتصارهم على الروس وطردهم وأخذهم الاستقلال الكامل. الأمر لا يكتمل في الشيشان وفي غيرها من بلاد الإسلام إلا بحل المشكلة الأولى للأمة الإسلامية، القضية المصيرية لهذه الأمة، ألا وهي إقامة الدين الإسلامي كاملاً بإعادة الخلافة التي تحكم بما أنزل الله وتوحد البلاد الإسلامية والشعوب الإسلامية تحت راية خليفة واحد، وتحمل الدعوة الإسلامية للعالم كله لتخرجه من الظلمات إلى النور. (كنتم خير أمة أخرِجتْ للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله)
2000-01-06