السياسة الخارجية لتركيا
2000/01/06م
المقالات
1,827 زيارة
في أيلول الماضي زار رئيس وزراء تركيا، بولنت أجاويد، أميركا، كما قام الرئيس الأميركي كلينتون بزيارة تركيا قبيل انعقاد مؤتمر قمة الأمن والتعاون الأوروبي في أنقرة في 18ـ19/11/1999، والتقى الرئيس التركي ديميريل، وألقى كلمة أمام البرلمان التركي، ضمنها مقتطفات من أقوال مصطفى كمال، وأشار فيها إلى أهمية تركيا، وموقعها الاستراتيجي بين أوروبا والشرق الأوسط المسلم، والقوقاز، وآسيا الوسطى. وكان لافتاً للنظر أنه لم يجتمع مع أحد من العسكريين الأتراك الذين يقبضون على الحكم، ويسيّرون الحكام، فماذا وراء هذه التحركات؟
بتاريخ 9ـ11ـ99 ألقى بيل كلينتون كلمة في جامعة جورج تاون تحدث فيها عن السياسة الخارجية للولايات المتحدة، وأسهب في الحديث عن تركيا، وعن الزيارة التي سوف يقوم بها إلى تركيا بتاريخ 15ـ11ـ99 وكان من جملة ما قاله: “عندما اذهب إلى تركيا سوف أقول إن القرن العشرين معظمه تقريبا، السيئ منه والجيد، قد تعين قبل وبعد الحرب العالمية الأولى، بانهيار الدولة العثمانية وما أخذته أوروبا من قرارات بعد ذلك، وإني أعتقد أن القرن المقبل سوف يتأثر بشكل كبير بالطريق الذي حددته تركيا لمستقبلها ولدورها، لأن تركيا تقع على نقطة التقاطع بين أوروبا والشرق الأوسط واسيا الوسطى، فلو أخذت تركيا مكانها في أوروبا، كدولة ديموقراطية علمانية مستقلة ذات شعب مسلم، فإن ذلك سيكون افضل لها، ولكن حتى تأخذ تركيا مكانتها المطلوبة، وَجب عليها أن تحدث تقدماً فيما يخص المشكلة القبرصية مع اليونان، وأن تحترم حقوق الإنسان، وعلى الأوروبيين أن يكونوا أصحاب بصيرة، وأن يعطوا تركيا فرصة تحقيق السلام بين أوروبا والعالم الإسلامي”.
في ليلة 14ـ11ـ99 بدأ الرئيس بيل كلينتون زيارة إلى تركيا تستغرق خمسة أيام. وفي 15ـ11 ألقى كلمة في البرلمان التركي وكان أول رئيس أميركي من ثلاثة رؤساء زاروا تركيا يلقي كلمة في البرلمان التركي. إن الخطاب الذي ألقاه في البرلمان، ومجيئه إلى أنقرة مباشرة وليس عن طريق اليونان، وعقده لعدة اجتماعات مهمة، إنما يقصد بها أن يُشير إلى أهمية تركيا.
في الكلمة التي ألقاها كلينتون في جامعة جورج تاون، وفي تلك التي ألقاها في البرلمان التركي ظهر استخدامه أسلوبا ضد أوروبا، فقد حرص على استخدام مقتطفات من كلام مصطفى كمال. فعلى سبيل المثال ذكر أن مصطفى كمال قال في كلمة له بخصوص أميركا أمام البرلمان التركي: “إن أميركا لدينا مقبولة اكثر من غيرها من الدول”. أما كلينتون فقد قال إنه يريد اليوم أن يبين هذا القبول. لقد قال كلينتون أيضا خلال خطابه في البرلمان التركي إن السيادة القومية لا تبنى على الخوف، وأنه لا يحق لأوروبا وأميركا، أن تحددا مستقبل تركيا، وأن نجاح تركيا فائدة لأميركا فهي صديقة أميركا.
لقد عزا كلينتون أهمية تركيا إلى موقعها الجيو ـ استراتيجي، وكما أوضح كلينتون فإن تركيا هي نقطة التقاطع في السياسة الخارجية، وأن تركيا هي ساحة الصراع السياسي بين أميركا والغرب الأوروبي. أن أميركا تسعى لتحقيق ما أسمته النظام العالمي الجديد، إذ تعتبر نفسها القوة الوحيدة القادرة على تحقيق مثل هذا الحلم، ولهذا فهي تسعى لكسب المناطق ذات الأهمية الاستراتيجية، والتحكم في المواد الاستراتيجية ومصادر الطاقة. فأي دولة تسعى لأن تكون ذات أهمية على المسرح السياسي يجب أن تكون مسيطرة على هذه المناطق والمواد الاستراتيجية.
في الخريطة السياسية للعالم، هناك منطقة استراتيجية بالغة الأهمية، تشمل الباكستان وأفغانستان وإيران وسوريا والعراق وتركيا وقبرص وخليج البصرة، هذه المنطقة لها أهمية جيولوجية وأهمية جيوسياسية. فالبترول والغاز الطبيعي واليورانيوم أهم مصادر الطاقة تتواجد هناك، وكذلك طرق المواصلات. أميركا حالياً لها نفوذ في الباكستان وأفغانستان وإيران وسوريا ومصر على درجات متفاوتة، ويبقى العراق وتركيا وقبرص خارج دائرة النفوذ الأميركي. فالتحكم في العراق يعني السيطرة على خليج البصرة والشرق الأوسط، و السيطرة على العراق مرهونة بتركيا، فان تفاهمت أميركا مع تركيا يعني ذلك أنها ستدخل قبرص والبلقان والقوقاز وآسيا الوسطى إضافة إلى ضمان الإمساك بالعراق.
كما لاحظنا، فان النظام العالمي الجديد، والعَولمة التي تنادي بها أميركا، وتريد من ورائها الهيمنة على العالم، إنما يعترضها عدم الوفاق مع دول المنطقة، فهي الآن تريد بطريق سياسة العصا والجزرة، وتحت عنوان التعاون الاستراتيجي أن تتفاهم مع تركيا، بحيث تتخلى تركيا عن سياستها التي تناوئ سياسة أميركا بخصوص قبرص وشمال العراق. منذ سنوات وأميركا تضغط على تركيا في هذا الموضوع، ولقد تكثفت جهود أميركا لحل هاتين المسألتين في زمن أوزال وطانسو تشيللر، وحاولت أميركا عن طريقهما أن تقنع القوى السياسية الخفية في تركيا بما تريد، واستخدمت حزب العمال الكردستاني والعصابات في تركيا لفرض حلولها، ولكن تركيا قاومت ذلك. لان أوروبا كانت تهدد تركيا بمعاهدة “سيفر” التي تدعوا إلى تقسيم تركيا، وهددتها أيضا بالانهيار الاقتصادي، وكذلك فان بعض الرجالات في الجيش كانوا يهددون بالقيام بانقلاب داخلي، وبتوجيه أوروبي تشكل المحور الإسرائيلي الأردني التركي حتى تُعوض تركيا بعض ما أصابها من الحصار العسكري المفروض من قِبل أميركا، لكل ذلك كانت تركيا تقاوم أميركا. ولكن بعد الانتخابات الأخيرة في إسرائيل ومجيء باراك، حدث انقسام في الرأي داخل القوى الخفية في تركيا، فمنهم من أراد البقاء على العلاقة مع أوروبا، ومنهم من أراد السير مع أميركا! وهناك بعض المؤشرات منها زيارة أجاويد لأميركا، ودعم أميركا لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، وسبق أن ساعدتها في اعتقال أوجلان، وأخيراً تسهيل اتفاق مد خط النفط من باكو إلى جيهان التركية. ولهذا فإن الوضع في تركيا أصبح في حالة حرجة، ولا بد من دوام مراقبته، ومراقبة تحركات الجنرالات.
إن اهتمامات تركيا الخارجية تتركز في المواضيع الآتية:
1ـ العلاقات مع المجموعة الأوروبية:
قبلت المجموعة الأوروبية مؤخراً تركيا كمرشحة لعضوية المجموعة الأوروبية، فالمجموعة لا تريد أن تتوجه تركيا إلى أميركا، والظاهر أن تركيا لا تعطي أهمية كبيرة لهذا الترشيح فهو لا يعني العضوية وتربطه المجموعة بتحسين سجل حقوق الإنسان، وإلغاء أحكام الإعدام، من ناحية أخرى، إن استياء أوروبا من توجه تركيا نحو أميركا قد عُبر عنه بالمظاهرات ضد أميركا التي نُظمت في أثينا عاصمة اليونان. وكذلك فان بعض القوى الخفية في تركيا أرادت أن تعكر صفو الأمور وتهيئ الأجواء لانقلاب عسكري، فقتل البروفيسور “تانر قشلالي” الكمالي العلماني كان جزءاً من هذا المخطط، وهذا ما عبر عنه سليمان ديميريل رئيس الجمهورية في تعليقه على الحادث إذ قال: “إن الجناية ليست بسيطة وإنها جزء من مخطط”.
إن قبول تركيا عضوا في المجموعة الأوروبية ليس بالأمر السهل، فالفاتورة ستكون باهظة على أوروبا اقتصاديا و سياسيا واجتماعيا، وهي لن تُكسب أوروبا أي شيء، فأوروبا حققت ما تريده من مكاسب في تركيا عن طريق الاتحاد الجمركي، أما عضوية تركيا في المجموعة فتعني تدفق أفواج العاطلين من تركيا إلى أوروبا سعيا للرزق، ناهيك عن الخوف الذي يراود أوروبا من الناحية الدينية والثقافية، أضف إلى ذلك المساعدات المالية التي ستلتزم أوروبا بدفعها إلى تركيا. كل هذه الأسباب ستعرقل عضوية تركيا في المجموعة.
الواقع أن حلف الناتو يلعب دورا مهماً في العلاقة بين تركيا والمجموعة الأوروبية، إذ إن أوروبا تريد أن تحل حلف الناتو وتشكل قوة تحمل الهوية الأوروبية للدفاع عن أمن أوروبا، فقد قال الرئيس الفرنسي شيراك في 5/11/1999: “إن أميركا تريد أن تستخدم حلف الناتو كالشرطي العالمي”، لكن تركيا تريد أن يبقى الناتو وتؤيد أميركا في هذا المجال.
إن المجموعة الأوروبية لن تستطيع أن تغير التوجه التركي نحو أميركا إلا إذا أحدثت انقلابا عسكرياً في تركيا نفسها، أو أن تحدث تغييراً في العراق، أو في توجهات باراك في إسرائيل. فان اُبعد صدام عن السلطة يذهب المخطط الأميركي في شمال العراق أدراج الرياح، عندها تنتهي حُجة أميركا في الخليج، وتتوطد العلاقات مع الأردن، وتتغير توجهات باراك باتجاه المحور الجديد من العراق والأردن وسلطة عرفات ويتعزز النفوذ الأوروبي في تركيا.
2ـ المسالة القبرصية:
إنه وان كان يبدو أن المسالة القبرصية أمر بين اليونان وتركيا، إلا أن المشكلة في أساسها هي محاولة أميركا أن تكون طرفا في النزاع القبرصي، سعيا لتأسيس قاعدة لها هناك وعرقلة أوروبا لهذه المساعي. إن السياسة التركية الخارجية بشان قبرص هي التمسك بالوضع الذي رسمته بريطانيا لهذه الجزيرة، وحكام تركيا منذ 1924 اكتفوا بوضعهم كدولة ضامنة وفقا لمعاهدة “لوزان” المشينة. إن أميركا قبلت أن تكون تركيا واحدة من الدول الضامنة، ولكنها تريد أيضا أن يُشكل اتحاد فيدرالي بين شطري الجزيرة على أساس دستور جديد غير الموجود منذ عام 1961، وأن تأخذ أميركا أيضا صفة الدولة الضامنة الرابعة هناك، إضافة إلى بريطانيا وتركيا واليونان، وهذا ما يزعج أوروبا، فبذلك تكون أميركا قد وضعت قدمها في الجزيرة، وهذا لا تعارضه تركيا مبدئيا.
الواقع أن أهم نقطة في زيارة كلينتون هي القضية القبرصية، فقد علق كلينتون، وهو في الطائرة متوجهاً إلى تركيا، على المحادثات التي ستجري في نيويورك بين رئيسي شطري قبرص “دنكطاش وكليريديس” بأنها بداية جيدة، ولكنه عندما علم برفض دنكطاش الذهاب إلى المحادثات بسبب دعوته باسم السيد دنكطاش ودعوة كليريدس باسم الرئيس، على خلاف الاتفاق، غضب كلينتون ونزل من الطائرة عابس الوجه ما دعا ديميريل إلى التوجه لمقابلة كلينتون في المطار على غير ترتيب مسبق، وهناك طمأن كلينتون بقبول دنكطاش حضور المحادثات، وبالفعل ففي خلال 12 ساعة أعلن دنكطاش أن الخطأ قد صُحح وأنه سوف يتوجه إلى نيويورك.
3ـ العلاقات مع إسرائيل:
دخلت العلاقة الإسرائيلية ـ التركية في 1995 مرحلة جديدة، ووصلت ذروتها في 1996 بالتعاون الاستراتيجي، الذي أبرمته حكومة أربكان، وتشكل المحور الأردني ـ الإسرائيلي ـ التركي بتوجيه من بريطانيا، وهذا أدى إلى عرقلة السياسة الأميركية المتعلقة بمرتفعات الجولان وشمال العراق وقبرص. لقد حاولت أميركا قدر الإمكان أن تكسر هذا المحور، بل وشكلت محورا مقابلا له بين مصر وسوريا وإيران والسعودية، وتحرص على المشاركة في المناورات العسكرية المشتركة لتبقى تحت عينها، فلا تخرج عن أهدافها التدريبية المعلنة.
إن وفاة الملك الأردني حسين أضعفت المحور الإنجليزي، وكذلك فوز باراك في الانتخابات الإسرائيلية، الأمر الذي أربك حكام تركيا، وأوجد المناخ الملائم لدعوة الداعين إلى السير مع أميركا.
4ـ العلاقات مع روسيا:
لقد حرصت تركيا على عدم معارضة سياسة روسيا في كل من آسيا الوسطى والقوقاز، وهذا ما ظهر من زيارة رئيس الوزراء بولنت أجاويد إلى موسكو إذ اعتبر الشيشان مسألة روسية داخلية. واستعد للتعاون مع روسيا في مكافحة ما يسمونه الإرهاب الأصولي. أما إن حدث تفاهم وتعاون استراتيجي بين أميركا وتركيا فان العلاقات الروسية التركية ستتشكل حول هذا المحور مرة أخرى.
وفي الختام، فإن تركيا تعيش أزمة هوية، وصار حرياً بها أن تستعيد هويتها الإسلامية، كون الخلافة الإسلامية كان مركزها استانبول لقرون، ثم دفنت فيها، وكونها توسعت في أوروبا، وحمت المسلمين وبلادهم من المد النصراني لقرون .
2000-01-06