فبهداهم اقتده: سلسلة أمهات المؤمنين (11)
2011/05/05م
المقالات
1,839 زيارة
فبهداهم اقتده:
سلسلة أمهات المؤمنين (11)
مارية القبطية رضي الله عنها
نسبها
كانت الهدايا جاريتين من جواري المقوقس هما مارية وأختها سيرين، وألف مثقال ذهب، وعشرين ثوباً ليناً، وبغلة اسمها دلدل، وحماراً اسمه عفير أو يعفور، وعبداً يقال له مابور وكان شيخاً طاعناً في السن. ولقد كان والد مارية من خيار القبط في مصر ويدعى شمعون، أما أمها فقد كانت رومية الأصل؛ لذا كانت مارية (رضي الله عنها) بيضاء جعدة، تحمل من سحنة أمها الرومية بياض البشرة، ومن كينونة أبيها جعد الشعر..، وكانت جميلة، حسنة الوجه، ويقال إن اسم بلدتها «أنصنا» في صعيد مصر.
حوار «المقوقس» مع «حاطب»
حين تسلم المقوقس رسالة النبي ﷺ جمع بطارقته مع حاطب ووجه إليه أسئلة تتعلق بالنبي ﷺ وقومه، كما سأله حاطب (رضي الله عنه) عما يتعلق بعيسى عليه السلام مع بني إسرائيل.
قال المقوقس: هلم أخبرني عن صاحبك أليس هو نبياً؟
قال حاطب: بلى، هو رسول الله.
قال المقوقس: فما له حيث كان هكذا لم يدع على قومه حيث أخرجوه من بلده إلى غيرها.
أجاب حاطب: عيسى بن مريم ألست تشهد أنه رسول الله؟
قال المقوقس: بلى..!
قال حاطب: فما باله حيث أخذه قومه فأرادوا أن يصلبوه.. ألا يكون دعا عليهم؟؟
رد المقوقس: أنت حكيم قد جاء من عند حكيم.
وكان مما قاله حاطب للمقوقس: إنه قد كان قبلك رجل يزعم أنه الرب الأعلى فرعون فأخذه الله نكال الآخرة والأولى، فانتقم به، ثم انتقم منه، فاعتبر بغيرك، ولا يعتبر غيرك بك، وأضاف حاطب: إن هذا النبي ﷺ دعا الناس فكان أشدهم عليه قريش، وأعداهم له يهود، وأقربهم منه النصارى. وما بشارة موسى بعيسى عليهما السلام، إلا كبشارة عيسى بمحمد، وما دعاؤنا
إياك إلى القرآن إلا كدعائك أهل التوراة إلى الإنجيل،
وكل نبي أدرك قوماً
منهم أمته، وبالحق عليهم أن
يطيعوه، فأنت ممن أدرك هذا النبي،
ولسنا ننهاك عن دين المسيح عليه السلام.
فأجابه المقوقس: إني قد نظرت في أمر هذا النبي، فوجدته لا يأمر بمزهود فيه، ولا ينهى عن مرغوب عنه، ولم أجده بالساحر الضال ولا الكاهن الكذاب، ووجدته معه آلة النبوة بإخراج الخبء والإخبار بالنجوى، وسأنظر.
ولكنه لم ينظر بل ظل على موقفه من نصرانيته، لكنه كان رفيقاً مهذباً، فأرسل رداً على رسالة النبي ﷺ يقول فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم، لمحمد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط سلام عليك، أما بعد:
فقد قرأت كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه، وما تدعو إليه، وقد علمت أن نبياً قد بقي، وقد كنت أظن أنه يخرج بالأميين وقد أكرمت رسولك، وبعثت لك بجاريتين (مارية وأختها سيرين) لهما مكان في القبط عظيم، وأهديت لك بغلة لتركبها.
في الطريق إلى المدينة
خرجت مارية من الإسكندرية مع أختها سيرين ومابور في حراسة حاطب بن أبي بلتعة وهي لا تدري من أمر مستقبلها شيئاً، أو ما تدخر لها الأيام من خير. سارت وكأنها تسير إلى المجهول، لا تعرف إلى أين ستنتهي، تظهر على محياها سيماء الحزن والتفكر العميق والهموم والوجوم. وأدرك حاطب ما يعتمل في نفسها، وما يجيش في خاطرها، فأقبل عليها مواسياً ومحدثاً، ومازال بها حتى سرى عنها ما بها من ألم وحزن. كما استطاع (رضي الله عنه) بما أوتيه من حذاقة ولباقة أن يقنعها بالإسلام، فآمنت بالله رباً وبمحمد ﷺ نبياً ورسولاً.
وكانت أختها سيرين لا تفارقها، فتستمع لما يقوله حاطب عن الإسلام، وما يحدث به عن شخص رسول الله ﷺ، فشهدت هي الأخرى أيضاً لله تعالى بالوحدانية، ولمحمد ﷺ بالرسالة، إلا مابور فإنه أصر على دينه وعقيدته، ولم يسلم حتى قدم رسول الله ﷺ بالمدينة.
ما دخلت مارية وأختها سيرين (رضي الله عنهما) المدينة المنورة إلا مسلمتين مؤمنتين، وهذه واقعة تاريخية في حياتها تستلفت النظر وتستوقف الباحث. فقد آمنت (رضي الله عنها) برسول الله ﷺ قبل أن تراه، وصدقت برسالته قبل أن تسمعه، وأعجبت بشخصه الشريف قبل أن تعاشره، رغم أنها كانت قد علمت مقامه ومركزه،
ومن هنّ أزواجه.
في المدينة
و ?صل الركب المؤمن إلى المدينة وسلم حاطب رسالة المقوقس وهداياه إلى النبي ﷺ، فاستقبلهم ورحب بهم وأكرم قدومهم، وبالغ في ذلك حين واسى مارية باتخاذها سرية له. كما أنزلها في مكان يسمى العالية (يعرف اليوم بالعوالي) من ضواحي المدينة، وكان يختلف إليها بالزيارة بين الحين والحين، ويرعاها ويعطف عليها، ولقيت منه صلوات الله وسلامه عليه، كل عناية ومحبة، ولم تكن تبدي انزعاجاً أو غيرة من زوجاته ﷺ.
وسيرين
وأقبل يوماً حسان بن ثابت شاعر الأنصار، وشاعر رسول الله ﷺ يخطب سيرين من النبي ﷺ، فزوجه إياها، فأعرس بها، وعاش معها أجمل أيام حياته وأسعدها، وولدت له ولده عبد الرحمن بن حسان الذي خلف أباه في شاعريته الفذة.
أم إبراهيم
وفي أوائل العام الثامن من الهجرة أخذت مارية تحس بآلام الحمل، بعد أن ظهرت عليها عوارضه، فازداد إقبال النبي ﷺ عليها. ومع نهاية العام وضعت ولدها إبراهيم ففرح به النبي ﷺ فرحاً شديداً. ووهب لمن بشره بمولد إبراهيم مملوكاً، ودفع بإبراهيم إلى أم بردة بنت المنذر بن زيد بن النجار لترضعه. وبلغت غبطة النبي ﷺ بولده مبلغها، فإذا هو شديد اللصوق به، كثير التطلع في وجهه الصغير، دائم الحمل له بين ذراعيه في كل مكان يذهب إليه، حتى بيوت نسائه الأخريات، فيقربه منهن، ويقول في عطف وإعجاب: أنظريه ألا ترينه صورة مني؟
وكان من شأن إبراهيم أن تحررت أمه مارية (رضي الله عنها) إذ قال رسول الله ﷺ: لقد أعتقها ولدها.
مارية الصابرة
ولقد أثار الوضع الجديد غيرة أمهات المؤمنين، إذ أصبح النبي ﷺ لصوقاً بمارية دونهن، كما أنها أنجبت الولد دونهن جميعاً، فعلى الرغم من كل الغيرة التي اعتملت في نفوس زوجات النبي، ظلت هي على رزانتها وحيائها وسكينتها… حتى عندما ائتمرت حفصة وعائشة عليه، فاضطر رسول الله ﷺ إلى أن يقول لقد حرمت مارية على نفسي. لم يزدها ذلك إلا تبسماً ورضًى وصبراً، ثم أنزل الله تعالى قوله: (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم).
الحكمة الربانية
كان مولد إبراهيم عزاءً وسلوى ورجاءً وأملاً، واستمرت الفرحة ستة عشر شهراً تزغرد في بيت مارية، ولكن هذه الآمال لم تدم طويلاً، إذ مرض الطفل مرضاً شديداً، فقامت مارية وأختها سيرين على تمريضه، ورعايته… لكن المرض اشتد، ولم يمهله،…
وظهرت عليه ذات يوم علائم الاحتضار، فبلغ النبي ﷺ فحزن حزناً شديداً، وتألم ألماً بالغاً، وأحس بضيق لم يحسه من قبل. فأتى دار مارية معتمداً على أحد الصحابة، لشدة ما أحس به من ألم وما أصابه من عياء، فوجد إبراهيم في حجر أمه الباكية، يجود بآخر أنفاسه، فأخذه منها برفق ووضعه في حجره، وضمه إلى صدره ليهدئ القلب المضطرب، والصدر اللاهث… ثم غمره ﷺ حزن شديد، وقال: إنّا يا إبراهيم لا نغني عنك من الله شيئاً، ثم تساقطت عبراته ودموعه، وصرخت مارية متألمة، وصاحت أختها سيرين باكية، ولم ينهها الرسول عن ذلك، وأخذ ينظر إلى جثمان فلذة كبده المسجّى في حجره ولا حراك به، ولا حياة ينبض بها، وتبددت الآمال التي أشرقت يوم مولده… وذهبت شعاعاً مع روحه التي استردها ربها، فقال ﷺ: يا إبراهيم، لولا أنه أمر حق، ووعد صدق، وأن آخرنا سيلحق بأولنا، لحزنا عليك أشد من هذا. وكأنه عليه الصلاة والسلام يواسي بهذه الكلمات مارية الأم المسكينة، وقد أحس في أعماق ذاته الشريفة مدى مرارتها، مبلغ تألمها. ومسح ﷺ، وجفف عبراته، وهو يقول ﷺ: «إِنَّ الْعَينَ لَتَدْمَعُ، وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ، وَنَقُولُ إلاّ مَا يَرَْضى رَبُّنَا، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْْزُونُونَ» (أخرجه البخاري).
الموكب الحزين
سار رسول الله ﷺ وهو يحمل جثمان ولده بين يديه، وعمه العباس بن عبد المطلب وعمر بن الخطاب (رضي الله عنهما) إلى جانبه، وطائفة من كبار الصحابة يحيطون به. وامتلأ قلب مارية هماً وغماً، وغشي عليها الحزن لفراق ولدها الوحيد، ثم وصل الموكب إلى البقيع حيث دفن إبراهيم بعد أن صلى عليه رسول الله ﷺ، ثم وقف على لحده يلقنه قائلاً والغصة تمتزج بالكلمات: قل: الله ربي، ورسول الله أبي، والإسلام ديني… وارتفع البكاء في تلك اللحظة الخاشعة، صوت ما عرف عنه الهلع ولا الخوف إلا في جنب الله تعالى، إنه صوت عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) فقال: هذا ولدك يا رسول الله ما بلغ الحلم، وما جرى عليه القلم، ولا يحتاج إلى تلقين، فما بال عمر وقد بلغ الحلم وجرى عليه القلم وليس له ملقن مثلك… فبكى النبي ﷺ وبكى الصحابة.
وأقبل بعض الصحابة يواسونه ويعزونه، محاولين تخفيف المصاب عنه، وقال أحدهم مذكراً رسول الله بما نهى عنه من الحزن… فقال النبي ﷺ: ما عن الحزن نهيت، و إ نما نهيت عن العويل، وإن ما ترون بي أثر بالقلب من محبة ورحمة، ومن لم يُبدِ الرحمة لم يُبدِها عليه غيره.
الرسول الأمين
وحدث أن كسفت الشمس يوم وفاة إبراهيم، ووجد بعض الناس في ذلك معجزة، فقال قائلهم: لقد انكسفت الشمس لموت إبراهيم مشاركة للنبي في مشاعره وأحاسيسه، فقال ﷺ للناس: (إِنَّ الشمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ الله لاَ يَخْسفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ ولاَ لحيََاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَادْعُوا وَكَ وِّربُا و َصلُّوا و َتَصدَّقُوا (متفق عليه)… فأعظم به من جلد وأعظم به من صبر، وأعظم به من نبي أمين…
مارية المؤمنة الصابرة
عاد النبي إلى دار مارية (رضي الله عنه) مواسياً ومعزياً، ولم يكن عليه الصلاة والسلام ليغفلها أو يتجاهلها بعد أن فقدت ولدها، إذ كان يتردد عليها كعادته السابقة. وسلمت مارية المؤمنة أمرها إلى الله تعالى، فهو الذي أعطى وهو الذي أخذ، وكل شيء عنده سبحانه بمقدار. ولم تكن (رضي الله عنه) لتملك أن ترد دموعها الصامتة كلما لاحت ذكرى إبراهيم في نفسها. ولم تحمل بعد إبراهيم، وكانت حياتها في سعادتها وشقائها بلاءً وامتحاناً، وأثبتت خلاله أنها من المسلمات المؤمنات الصادقات، اللاتي يقتدى بهن، ويحتذى بسلوكهن، وينسج على منوالهن.
بعد النبي ﷺ
بعد أن لحق النبي ﷺ بالرفيق الأعلى، كان خلفاؤه من بعده يحفظون لمارية (رضي الله عنه) مكانتها، ويخصونها بأعطياتها من بيت المال، وينفقون عليها، ويزورونها..، سواء في عهد أبي بكر أو في عهد عمر (رضي الله عنهما). يأتونها سائلين عن أحوالها، ويواسونها، وفاءً منهم لنبيهم العظيم ﷺ.
الوفاة
ولما كان العام السادس عشر من الهجرة النبوية الشريفة مرضت مارية (رضي الله عنها) واشتدت عليها وطأة الحمى ثم أسلمت الروح، فحزن المسلمون عليها حزناً شديداً، وشهد عمر أمير المؤمنين (رضي الله عنه) جنازتها، وحشد الناس إلى ذلك، وصلى عليها، ودفنت بالبقيع.
رحمها الله رحمة واسعة، ورضي عنها، وأكرم نزلها ومثواها.
2011-05-05