ثورات الأمة… محاذير وتحديات
2011/05/05م
المقالات
1,780 زيارة
ثورات الأمة… محاذير وتحديات
يعتبر الحراك القائم في الشرق الأوسط (قلب العالم الإسلامي) بحق أحد أهم الأحداث التي وقعت في القرن الأخير. كما أنه يتمتع بميزة خاصة إذ جاء في وقت ظن فيه كثيرون أن الأمة قضت نحبها أو كادت. فقد صحت جماهير الأمة من غيبوبة استمرت عقوداً طويلة، لتؤكد بأنها على وعي بسوء أوضاعها وبشناعة الأنظمة الحاكمة فيها، وعن رغبتها بتغييرها، وعن استعدادها للتضحية في سبيل استعادة سلطانها وكرامتها، وقد تحركت بجد وثبات لتثبت بجدارة بأنها قادرة على إزالة الطغم الحاكمة.
وهكذا لم تعد الأسئلة هل تريد الأمة التغيير وهل هي مستعدة لتبعاته مسألة بحث، بل باتت القضية تتعلق فيما هو نوع التغيير الذي تريد الأمة إنجازه، ومن هو الذي سيقودها لتحقيقه. فالحراك الذي اشتعل في العالم العربي منذ بدء العام الجاري 2011 م وما زال جارياً على قدم وساق حسم عملياً بالإيجاب عن كل تلك الأسئلة.
إلا أن حيوية الأمة وحراكها المتدفق لتحقيق مستقبل يليق بها بين الأمم يجابه بمحاولات مشبوهة في توجيه ثورات شعوبنا بعيداً عما تصبو إلى تحقيقه من انعتاق من حالة الاستعباد والاستبداد والتبعية، لعل أخطرها هي تلك المحاولات الدؤوبة لتحريك شعوب الأمة الإسلامية بغير أفكار الإسلام وأحكامه وتصوراته ومعالجاته وقيمه، وفرض فصل إسلامها عن ثورتها وعن المشروع البديل للنظم المقيتة التي تحكمها.
فقد حاول النظام السياسي الغربي (رغم التباينات بين أقطابه والتنافس القائم فيما بينهم) مواكبة الثورات الحاصلة ومتابعتها بدقة والتدخل فيها (بشكل ضمني حيناً ومباشر أحياناً) حتى يبقى مهيمناً على الأقطار الإسلامية ضمن إستراتيجيته المعتمدة في تقسيم العالم إلى قسمين يمثل أحدهما نادي الدول المتطورة، ويمثل الآخر بقية أجزاء العالم التي حكم عليها بأن تتحول إلى جيوب سياسية، وبأن تظل تعاني من الحروب والأزمات والتشتت والركود الصناعي والتقني والانحطاط الاقتصادي.
في هذا الإطار لخص ثوماس بارنيت (خبير استراتيجي أميركي معروف وموظف سابق في وزارة الدفاع الأميركية) هذه الإستراتيجية تحت عنوان “خارطة البنتاغون الجديدة: الحرب والسلام في القرن الحادي والعشرين” بأن من مصلحة الولايات المتحدة أن يكون العالم مقسماً إلى شطرين غير متساويين . فمن جهة ثمة “النواة ” المستقرة التي تضم الولايات المتحدة نفسها وعدداً من الدول المتعاونة معها من بين الدول المتطورة والنامية، ومن جهة أخرى هناك بقية العالم التي يخصص لها ما يشبه “منطقة الظل”، أي المناطق غير المتطورة اقتصادياً وغير المستقرة سياسياً. ويتلخص دور القوة العسكرية الأميركية في هذا المخطط بتأمين وصول الموارد الطبيعية من الشطر الثاني إلى الشطر الأول من العالم؛ لأن دول الشطر الأول بحاجة إلى المزيد من تلك الموارد، فيما لا يجوز لدول الشطر الثاني أن تستفيد منها.”
بناء عليه يعتبر الغرب أن أي تغيير في العالم الإسلامي يجب أن يتحقق وفق أجندته هو وفيما ينسجم مع مخططه المذكور، كي يضمن عدم بروز قوة منافسة له تحدث خللاً في إستراتيجيته تلك. وهو ما يفسر احتضان الغرب لما يسمى بمؤسسات المجتمع المدني ولجان حقوق الإنسان إضافة بالطبع للتيارات الليبرالية المنتظمة في أحزاب وهيئات سياسية ونقابية ومراكز دراسات وغيرها كي يبقي أي تغيير مرتبطاً به. إلا أن الأخطر في هذا السياق هو انسياق رموز التيار الإسلامي “المعتدل” وراء الأجندة الغربية وتحالفه مع ما سبق ذكره من مؤسسات ولجان وهيئات علمانية بذريعة الواقعية السياسية والتخلص من حالة التكلس والشلل التي أصيبوا بها منذ زمن. وهكذا بتنا نجد أن عناوين غربية عريضة كالحرية والديمقراطية والدولة المدنية وسيادة الشعب والدولة الوطنية والمصالح القومية وما إليه من مصطلحات تنضح بها العلمانية هي شعارات تجمع كل هؤلاء في إطار سياسي محدد المعالم يصرف الأمة عن استئناف الحياة الإسلامية.
ولقد فرح الغرب بجره تياراً عريضاً من “الإسلاميين” إلى حظيرته، لما يدرك ما للإسلام من تأثير في حياة الشعوب المسلمة، وبالتالي فإنه يعتبر نفسه قد حقق مكسباً لقدرته على استمالة من يمكنهم توجيه الناس إلى حيث يريد من خلال “الإسلام نفسه”. وقد وصل ابتهاج الدول الكبرى بهذا الكسب إلى الترحيب بهؤلاء حكاماً في البلاد العربية، وهو ما صرحت به هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأميركية علانية بقولها “أميركا لا تعارض إمكانية تولي الإخوان المسلمين الحكم في مصر”. كما اعتبر وزير الخارجية الفرنسي ألان جوبيه وهو يشرح التغير في سياسة بلاده إزاء العلاقات مع الحركات الإسلامية في الخارج “إن فرنسا خدعها الزعماء العرب الذين صوروا هذه الحركات على أنها الشيطان. وأن فرنسا منفتحة للحديث معهم”.
ولو أدرك هؤلاء (ممن يتصدر التيار الإسلامي “المعتدل”) عظم خطر ما يمكن أن يؤول إليه واقع الأمة من انحراف عن منهج الله وجرفها بعيداً عن الجادة، لتدبروا الأمر قليلاً ولتوقفوا عن تجيير ثورات الأمة لصالح الأجندة الغربية ودأبهم على تسويق إسلام على الطراز الغربي يفصل الدين عن الحياة ويجعله مرجعية (صورة في الخلف) للدولة المدنية الحديثة التي ينتوون بناءها، عوض أن تكون الدولة والمجتمع والجماعة والأفراد وعلاقات هؤلاء جميعاً فيما بينهم ومع غيرهم
قائمة على أساس الإسلام.
ولذلك وجب التحذير هنا من الاستمرار في هذا النهج السقيم، فنحن قوم أعزنا الله بالإسلام ومن ابتغى العزة منا بغيره أذله الله. فنهضة الأمة الحقة لا تقوم إلا من خلال بناء تحركها وثورتها ومجتمعها ودولتها على أساس معتقداتها وقيمها الخاصة بها، والتي تجعل إقامة الإسلام في واقع الحياة هو المبتغى، ونيل رضوان الله تعالى هو غاية المنى.
فحين تمتزج المفاهيم الإسلامية الصحيحة مع المشاعر المتأججة التي تهتف (الله أكبر) و(حي على الجهاد) لدفع الظالمين وإزالة الطغاة وإقامة الإسلام بدلاً منهم، حينها تفور الأمة وتتحرك بشكل مبصر من شأنه تحقيق الخلاص المنتظر والنهضة الصحيحة والارتقاء الفعلي، وعندها ستكون المفاصلة بين الحكام الطغاة والأمة واضحة المعالم، لا ميوعة فيها، ولا أنصاف مواقف فيها، يفوز أو يهلك المرء حينها وهو على بينة من أمره. وحينها لن يعوز الأمة الغرب كي تتكئ عليه في مسيرة التغيير، فالأمة بقواها الذاتية قادرة إذا ما تكتلت حول إسلامها على إزالة الطغاة وإقامة حياة سوية ترضي الله تعالى وتنشر الطمأنينة والخير في ربوعها.
أما غياب هذه الصلة (أو تغييبها) بين حركتها وثورتها وأهدافها وغاياتها مع ما يفرضه الإسلام من تصورات وأحكام ومعالجات، يعني سوق الأمة من حظيرة التبعية بالإكراه إلى التبعية بالاختيار، ولعل الثانية أخطر من الأولى. وهذا للأسف هو ما يُدفع الناس إليه للمناداة به طوعاً وكرهاً، طوعاً من خلال خلط الإسلام بالديمقراطية والأفكار العلمانية الأخرى كالدولة المدنية وفكرة المواطنة، وكرهاً من خلال وضع الأمة أمام خيار القبول بهذه الأجندة أو تركها تسحق
بدبابات حكامها الطواغيت (ليبيا مثلاً).
ولتأمين الغطاء الكافي لتسويغ الدفع باتجاه علمنة مطالب الأمة ولتأكيد سير ثوراتها بعيداً عما يهدد مصالح الغرب ونفوذه وجدنا وسائل الإعلام الموجهة للرأي العام والمؤثرة فيه في غاية الحرص على إبراز مشايخ وعلماء مبرزين ومفكرين ورموز حركات إسلامية بعينها (من التيار المعتدل) كقيادات موجهة لكل ثورة تقوم في المنطقة مؤججين لمشاعر الناس على الثورة من جهة(لكسب ثقة الناس)، ومؤكدين بأن مطالب الشعوب يجب أن تكون في إقامة الدولة المدنية
والمشروع الديمقراطي والتداول السياسي والمواطنة الخ.
ومن هنا كان الهجوم حاداً على البديل الإسلامي الذي يقدم دولة الخلافة كحكم شرعي لكيان سياسي جامع للأمة معبراً عن طموحاتها وتطلعاتها الحقيقية. كما يُفرض التعتيم الإعلامي على أصحاب هذا الطرح الإسلامي الشرعي، فيما يمُنح قادة “تيار الإسلام المعتدل” كافة الإمكانيات المادية والإعلامية للتشويش على الأمة، من جهة بدعوتها إلى تبني الفكر الديمقراطي المدني، ومن جهة أخرى بالهجوم على رواد الخلافة واعتبارهم سذجاً، وللانتقاص من الخلافة واعتبارها فكراً ضيقاً ووصف دعاتها بأنهم أقلية قليلة منغلقة، مرددين بأن خيار الإمارة أو الخلافة أو الدولة الإسلامية غير وارد في قاموسهم، بل ومنهم من يهاجمها صراحة وكأنها آفة تاريخية (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا) ]الكهف[.
وهكذا بدل أن ينافح المسلم عن دينه ويكافح من أجل إقامة منهج الله في الأرض واستئناف الحياة الإسلامية بإقامة الخلافة، بات واجباً عند هؤلاء وأولئك (من المذعنين للأجندة الغربية) الكفاح من أجل الديمقراطية والحرية والدولة المدنية الحديثة (بدلالاتها الغربية العلمانية)، وبات كل من يسقط على هذا الدرب “شهيداً”، مع العلم بأن الجهاد مصطلح شرعي لا يطلق إلا على من قضى نحبه في سبيل الله لا في سبيل شعارات الثورة الفرنسية أو الإنكليزية أو الأميركية.
ولهذا فإن حامل الدعوة من أجل استئناف الحياة الإسلامية العامل من أجل نهضة الأمة ورفعتها يصبح ماثلاً أمام تحد بارز للعيان لقيادة أمته إلى التغيير بشكل سليم وهو: كيف يمكن التأثير في عمليات التغيير الجارية وتجيير الثورات القائمة تباعاً في العالم الإسلامي، بما من شأنه عزل ثقافة الغرب وفكره السياسي عنها وعن البدائل المتوجب تطبيقها؟ يندرج تحت هذا الصدق مع النفس ومع الله، وبذل الجهد بجد واجتهاد لاعتماد كل ما هو ممكن من وسائل وأساليب مؤثرة لضرب أدوات الغرب و رجالاته ومخططاته التي تحاول احتواء ثورات الأمة وقطف ثمار تضحياتها وحرفها عن سواء السبيل
2011-05-05