بقلم: الدكتور عبد الرحمن أبو الهيجا
(أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ).
لقد جرب العالم كل القوانين والأحكام الوضعية، وها نحن اليوم نشهد فشل هذه القوانين والأحكام كلها، ونلمس ما جرته على البشرية من نزاعات وأزمات واضطرابات.
إنها جاهلية القرن العشرين، ألم يأن للناس أن يقنعوا أن الله تعالى أحكم الحاكمين؟
أحكام عامة
الحكم هو تطبيق أمر على أمر، والأساس هو الذي يبنى عليه غيره، فالحكم هو القوانين والأنظمة والشرائع والقواعد التي تطبق على الناس والأشياء، وأساسه هو المصدر الذي اشتُق منه.
أما قواعد الأشياء وقوانينها فتختلف عن قوانين الناس، لأن الأشياء مسيّرة خاضعة خضوعاً حتمياً للقوانين الطبيعية، أي التي تحكم الطبيعة: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) والإنسان منذ البداية يحاول أن يعرف هذه القوانين ليسخّر الأشياء لخدمة أغراضه.
وأما الإنسان فهو وإن كان جسداً مادياً كسائر الأشياء وخاضعاً لقوانينها، لكنه يمتاز بالعقل والإرادة وتبنّي الأفكار والحلول للمشاكل التي تعترضه، ونحن لا نتكلم عن المشاكل التي تحدث بينه وبين الأشياء لأنه يستطيع حلّها بقوانين الطبيعة كما أسلفنا بعد أن يعرفها (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُنِيرٍ). إنما المشاكل التي نتحدث عنها هي تنظيم علاقة الإنسان بغيره. هذه المشاكل، الناجمة عن الاجتماع ثم عن اختلاف النزعات والمشارب، مما يؤدي إلى الصراع بين الناس على اقتسام موارد الطبيعة، ولأن الإنسان كائن مفكرة فعليه أن يفكر في أحكام عامة تؤدي إلى الانسجام والوئام بدل الخصام، والتكافل والتراحم والأمن والسلامة بدل الجوع والخوف والتشاحن، وهذا ما حدث.
أساس الحكم
فمن الناس من قال أن الإنسان مادّة متطورة بسبب التناقض ـ الديالكتيك، وهو لذلك كسائر الأشياء في الطبيعة مما اقتضى دراسة قوانين الطبيعة لتطبيقها هي نفسها على العلاقات بين الناس. ومن الناس من نادى بالعلمانية ـ اللادينية، وفي قولهم هذا اعتراف ضمني بالدين وعزل له عن التحكّم في العلاقات بين الناس، أو بمعنى آخر تحرير الناس من قيد الدين، وهذا ما يعنونه بالحرية، ثم تخيلوا أن الإنسان حاكم في نفسه، فهو يضع القانون للناس.
أما المسلمين فيقولون إن الإنسان مخلوق لخالق جل وعلا (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) وهو يعلم من خلق (أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)، ولماذا خلق (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ @ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) ويعلم ما يناسب المخلوقات (وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا) وهو يحكم على الناس وينظم علاقاتهم (وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ @ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ).
وهكذا، فإن العقيدة هي الأساس الذي تنبثق عنه القوانين، ولا بد لهذه العقيدة أن تكون مقنعة للعقل ليؤمن بها، فالإيمان تصديق عقليّ جازم مطابق للواقع عن دليل، وإن لم يكن كذلك فلا يؤدي إلى الطمأنينة والسكينة والأمن أي إلى الإيمان. ولا بد للعقيدة أيضاً أن توافق ما في نفس الإنسان من فطرة التدّين لكي تنسجم عقليته مع نفسيته، عقله مع حاجاته وغرائزه. أما ونحن نعيش عصر التغيّرات الصعبة المهمة في مجتمعاتنا اليوم، فعلينا أن نتحاور بهدوء وصراحة ووضوح، كي نصل معاً إلى الأساس المتين الصحيح الذي نبني عليه حياتنا، ونأخذ منه نظامنا بناءً سليماً لا ينهار عندما تهب عليه العواصف التي توشك أن تطيح بدول لتقوم غيرها، وتقضي على أمم ليخرج غيرها تطيح بدول لتقوم غيرها (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ). والأسس المطروحة للنقاش هي هذه الثلاثة ولن يكون غيرها، وهي: إما أن يكون إله كما تقول الاشتراكية العلمية، أو غض النظر عنه والحجر عليه ومنعه من التصرّف إذا كان موجوداً كما تقول العلمانية الرأسمالية، وإما أن لا يكون إله إلا الله، أي لا حاكم ولا آمر إلا هو، والناس عباد مسلمون مطيعون منقادون منفذون كما يقول الإسلام (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).
نظرية مستحيلة
أما الاشتراكية العلمية فنرى أن النظام يشتق من قوانين الطبيعة بعد دراستها، ثم تطبق على المجتمع، وهو نظام حتمي، أي أن هذه القوانين تحكم الناس شاؤوا أم أبَوا، بل ليس لهم مشيئة على الإطلاق، فالإنسان شيء من الأشياء الخاضعة لسنة الكون. وهذا معنى قولهم: إن تطور المجتمع يعتمد على الأسباب المادية وليس على أفكار الناس ورغباتهم… وإن تاريخ المجتمع بدأ ينظر إليه أنه عملية حتمية لتوالي أساليب الإنتاج من الأدنى إلى الأعلى، عملية خاضعة للقوانين الموضوعية لا تعتمد على إرادة الإنسان. [كتاب “موجز في تاريخ الفلسفة ـ نظرة ماركسية” لكليا بنيش].
وفي ذلك ما فيه من عدم التفريق بين الفاعل المريد أي الإنسان والأشياء المسخرة فاقدة الإرادة. فحتى تهيئة الشاي صباحاً في البيت صار قانوناً موضوعياً يفعله الإنسان خاضعاً حتماً دون إرادة منه، تماماً مثل سقوط المطر ودوران الأرض حول الشمس وحمل البحر للسفن، كل هذه القوانين موضوعية متشابهة.
ولن أسترسل في الشرح والتفسير لهذه الأفكار لأنها رجعت نظرية كما بدأت، مع أن بعض الناس لا يزالون يؤمنون بها. ويكفي أن جميع الدول الأشخاص الذين أرادوا تطبيقها لمسوا استحالة ذلك فعادوا عنها بمبررات تهدم النظرية وتقلعها من جذورها ابتداءً بلينين وستالين وماو خروشيف، وانتهاء بجيفارا وغورباتشيف المجدّد، وابتداءً بتحول الحرب الساخنة التي أعلنها ماركس على الرأسمالية في كل مكان، إلى حرب باردة ثم تعايش سلمي، ثم وفاق دولي على اقتسام الغنائم واستغلال الشعوب التي هي بقية سكان العالم ودوله وخيراته.
تحرر من عبادة الله
وأما العلمانيون الذين لا يمانعون في وجود الله والدين فإنهم فكّوا القيود التي تربطهم بالخالق سبحانه، وحرّروا أنفسهم منها كما يدّعون وساروا على أهواءهم. هم في الحقيقة مادّيون كغيرهم لا يؤمنون بالله، حتى إن أحدهم ليقول: لو لم يكن الله موجوداً لوجب علينا أن نخترعه لنسيطر به على الناس. فالله عندهم فكرة اخترعوها ليتسلطوا بواسطتها على الناس، وهذا ما فهمه منهم ماركس حينما قال: إن الدين أفيون الشعوب. ونحن نقول نعم إن الدين الذي يخترعه الناس هو أفيون الشعوب بل هو ليس بدين، هذا الذي يجعل من شخص واحد، بشر كسائر البشر، يتكلم عن نزواته وأهوائه، ويدعي أن الله أوحى له بذلك وأنه معصوم ورسول، فيبيع أراضٍ في الجنة ويصدر صكوك الغفران والحرمان. هؤلاء العلمانيون ينادون بتحرير الناس من عبودية الله وحده، ونقلهم إلى عبودية بعضهم البعض، فالعبودية خضوع وطاعة وهم بدأوا بالتذمّر من عبادة الله الفكرة المشخص «بالمسيح الإنسان ورسوله البابا»، ونادوا بالحرية من ذلك، ولما كان لا بد للإنسان من تبعية ـ أي دين ـ وخضوع ـ أي عبادة ـ وانقياد، فقد استعبدوا بعضهم البعض: يقدسون القانون الذي وضعه أشخاص منهم، أي أنهم يخضعون ويعبدون أقوال بعضهم بعضاً، ويسمون هذه العبودية حرّية.
شريعة الغاب
ولما كان الإنسان مجبولاً على غرائزه، اصبح العقل عندهم خادماً للغرائز والشهوات وسلاحاً قوياً يفكر كيف يتسلّط به على الآخرين من الناس فيذلّهم ويستعبدهم، ويسمّي ذلك استعماراً وهو استخراب وحرية وهي عبودية وإخاءً ومساواة وفيه امتيازات فردية وحصانة رئاسية وبرلمانية ودبلوماسية وجنس ممتاز آري أفضل من باقي البشر. ومصلحة عامة لا تجد فيها إلى مصالح أنانية مؤقتة لثلة من الأغنياء المحتالين يتصرفون بعباد الله تجويعاً وتقتيلاً وإذلالاً. كلمات خيالية جوفاء تشكل قناعاً من الجمال والنعومة والابتسامة المصطنعة وتخفي وراءها وجهاً بشعاً.
إذن فالعلمانية تجعل الإنسان مصدر القانون، والإنسان يجعل العقل خادماً أميناً لغرائزه وأنانيته، ويطلق العنان لهذه الغرائز، فيؤدي ذلك إلى صراع محموم حتى الموت من أجل البقاء، تماماً كصراع عالم الغاب، وهكذا فما تكاد تهدأ في العالم مشكلة حتى تبدأ غيرها، وما يكاد المغلوب يحسّ بفرصة مواتية حتى يثب على الغالب ليدق عنقه، والتاريخ يعج بالأمثال. هذا هو الظلم، وهو وضع الأمور في غير مواضعها والله يأمر بالعدل والإحسان، والعدل هو وضع الأمور في مواضعها وهو الإسلام، أي تسليم الأمر إلى صاحب الأمر (قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ).
تلك هي الجاهلية، والله تعالى يقول: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ). فعلينا بالاحتكام إلى الله تعالى، واتباع رسالته وهديه. وإذا أراد العالم أن يتخلص من جاهليته الآن، فعليه بالاحتكام إلى الإسلام وعبادة الله تعالى، والله ولي التوفيق.
(مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا).
===============================================