السلطة في الجزائر تكمن في الجيش. حين رأى الجيش أن الجبهة الإسلامية للإنقاذ قد فازت في انتخابات المرحلة الأولى قام بعزل الشاذلي بن جديد، وألغى الانتخابات، وجاء بمحمد بوضياف وسلمه الرئاسة (شكلياً). وكانت تحصل اشكالات كثيرة بين بوضياف والجيش حتى أنه في إحدى المرات ترك الجزائر وعاد سراً إلى أسرته في المغرب حيث مكث ما يزيد عن عشرة أيام، ثم تم استرضاؤه. ثم تم اغتياله. ثم جيء بعلي كافي وسُلّم الرئاسة (شكلياً) أيضاً.
الرجل القوي في الجيش هو اللواء خالد نزار، كان وما زال، حتى بعد تسلّم اللواء زروال للرئاسة.
قادة الجيش في الجزائر هم ممن تشرّب الثقافة الفرنسية (الحضارة الغربية)، والقسم الأكبر منهم معجب بفرنسا ويسمعون نصائحها ويتوجهون بتوجيهها، وهي التي كانت وراء إلغاء الانتخابات لإبعاد الجبهة الإسلامية للإنقاذ عن تسلم السلطة. وغالبية الدول الأوروبية كانت من رأي فرسنا. بينما أميركا كان لها رأي آخر. أميركا كانت تفضّل وصول الجبهة الإسلامية للإنقاذ إلى السلطة من أجل سحب السلطة في الجزائر من يد الجيش (أي من يد فرنسا والدول الأوروبية). وأميركا كانت تتوقع أن قيادة الجبهة الإسلامية للإنقاذ ستكون عاجزة عن إدارة السلطة، لأن هذه الجبهة لا تملك برنامجاً واضحاً للحكم، وليس فيها قادة سياسيون متمرسون، ولأنها مخترَقة من غير جهة، ولأن الوضع الاقتصادي السيئ سيزيد من إرباكها. وهكذا فإن الأمر سيكون مهيأ لأميركا لاحتواء السلطة الجديدة. وكانت أميركا تعد العدة لهذا الاحتواء قبل حصول الانتخابات (التي أُلغيتْ).
من إعداد أميركا لاحتواء الجبهة الإسلامية للإنقاذ ما عرضته السعودية على قادة هذه الجبهة من دعم مالي للجبهة نفسها قبل الوصول إلى السلطة، ومن دعم مالي للجزائر بعد تسلمها السلطة. ومن ذلك أيضاً ما كان يرتبه حسن الترابي من دعم وتوجيه للجبهة في حال تسلمها الحكم. ولكن فرنسا أعطت توجيهاتها بتعطيل الانتخابات، ولو كان ذلك يناقض الديمقراطية، ويناقض المُثُل التي تنادي بها فرنسا. وليس هذا مستغرباً على دول تقوم على الاستعمار والميكيافيلية. وكان ميتران، رئيس فرنسا، أعطى تصريحاً مذهلاً حين نجحت الجبهة الإسلامية للإنقاذ في انتخابات الولايات والبلدية حيث قال: «إذا نجح الأصوليون في حكم الجزائر فسوف أتدخل عسكرياً كما تدخل بوش في بنما».
حين نجحت فرنسا ودول أوروبا في جعل الجيش يلغي الانتخابات ويشدد قبضته على السلطة ويحل الجبهة الإسلامية للإنقاذ ويزج بقادتها ورجالها في المعتقلات، صارت أميركا تغازل الجيش نفسه. وقد قام اللواء خالد نزار على رأس وفد من كبار الضباط بزيارة للسعودية واجتمع بالملك وكبار الأمراء واجتمع بالأمير بندر سفير السعودية لدى أميركا وحظي بتكريم زائد. وبعد عودته إلى الجزائر بفترة قصيرة حصلت مظاهر انقلاب صامت في الجزائر دون أن يعلنوا عن ذلك رسمياً. والأرجح أنه تم إبعاد بعض الضباط الذي يخشى اللواء نزار عدم انصياعهم لتوجهاته الجديدة.
حسب التوجهات الجديدة هذه فإن الجيش لم يعد في قبضة فرنسا، والدول الأوروبية، بل مال إلى التفاهم مع السياسة الأميركية. ولكن هذا لا يعني أن السلطة في الجزائر تستطيع أن تدير ظهرها لفرنسا ودول أوروبا بشكل كامل. ذلك لأن هناك عمقاً للثقافة الفرنسية في نفوس العدد الأكبر من ضباط الجيش، ولأن الاقتصاد الجزائري مرتبط إلى حد كبير بفرنسا وأوروبا، وتوجد جالية جزائرية كبيرة في فرنسا تستطيع فرنسا تحريكها (إذا لزم الأمر) للضغط على السلطة في الجزائر.
الرئيس الجديد اللواء زروال لا يوجد أية خلافات بينه وبين اللواء نزار، وهو يسير في التوجه الجديد الذي انتهجه اللواء نزار. وفرنسا الآن متضايقة، وكذلك الدول الأوروبية، من توجه السلطة الجزائرية.
الصحف الفرنسية والصحف الأوروبية صارت تدافع عن الجبهة الإسلامية للإنقاذ وتصف قادتها بأنهم جماعة حوار، وصارت تطالب السلطة الجزائرية بمواقف إنسانية.
من جهة أخرى، صندوق النقد الدولي، الذي تسيطر عليه أميركا، سهّل للسلطة الجزائرية أمور جدولة ديونها. وقد استعدت الجزائر أن تعيد بناء هيكلية اقتصادها بشكل شامل وفق توجيهات صندوق النقد الدولي. مع أن هذه المسألة ومسألة جدولة الديون ظلت بين أخذ ورد فترة طويلة. وهذا ما يؤكد التوجه الجزائري الحالي المتفاهم مع أميركا.
مجلس الاتحاد الأوروبي وضع شروطاً على الجزائر من أجل مساعدتها في أمور ديونها، وهذه الشروط منها ما يتعلق بترتيب هيكلية الاقتصاد، ومنها ما يتعلق بما يسمونه الجوانب الإنسانية في التعامل مع المعارضة.
الجبهة الإسلامية للإنقاذ لم تعد جسماً واحداً متماسكاً. بل صار فيها تيارات واتجاهات، وصارت فرنسا، ودول أوروبا تحاول كسب فريق، وأميركا تحاول كسب فريق آخر. وهؤلاء الأفرقاء بعضهم يؤيد العمل المسلح ضد السلطة وبعضهم يميل إلى الحوار وترك العمل المسلح.
أميركا، إذا تم لها أخذ الجزائر ـ لا قدّر الله ـ فهي ستتخذ منها قاعدة انطلاق لأخذ ليبيا وتونس والمغرب، وستحاول الدخول إلى وسط القارة الأفريقية. أميركا لم تتمركز بعد في القارة الأفريقية كما تشتهي، وهي تحاول. نفوذها متركز في مصر، وإلى حدّ ما في السودان. تونس والمغرب تتظاهران بمسايرة أميركا ولكنهما حقيقة تسيران مع الدول الأوروبية.
المسلمون في الجزائر يستطيعون تسيير أمورهم دون الارتهان إلى أميركا أو فرنسا أو غيرهما. والمسلمون في كل مكان يستطيعون ذلك. ولكن لأن قادتهم تربوّا على عقلية الاتكال على الدول الكبرى، ولأن المثقفين ثقافة غربية علمانية يميلون إلى اتباع الغرب، ولأن الأمة بشكل عام تعيش حالة تضليل ثقافي وسياسي فإن الأمر يبدو صعباً. وهذا يجل المسؤولية أثقل على أكتاف الواعين والمخلصين والمؤمنين من أبناء هذه الأمة.