الآثار الدنيوية للحكم بما أنزل الله (2)
2006/05/31م
المقالات
1,651 زيارة
الآثار الدنيوية للحكم بما أنزل الله (2):
الأمن والاستقرار
إذا استُخلفت أمة ومُكِّـنت، فهي تحتاج دائماً إلى دواعي الأمن وأسباب الاستقرار حتى تحافظ على مُكنتها ومكانتها. وقد ضمن الله سبحانه وتعالى لأهل الإيمان والعمل بشرعه وحكمه أن ييسر لهم الأمن الذي ينشدون في أنفسهم وواقعهم، فبيده سبحانه مقاليد الأمور وتصريف الأقدار وهو مقلب القلوب؛ ولهذا فإنه يهب تلك القلوب أولاً الأمن إذا استقامت على التوحيد، ونبذت الشرك بأنواعه كما قال تعالى: ( الَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ) [الأنعام 82] فنفوسهم في أمن من المخاوف ومن العذاب والشقاء إذا خلصت لله من الشرك صغيره وكبيره.
وعندما تأمن النفوس إلى كنف الله وتطمئن إلى عدله ورحمته وحكمته فتبادر إلى تحكيم شرعه، فإن الأمان يلقي بجرانه في أرض الإيمان كلها. فالله تعالى بعد أن وعد المؤمنين بالاستخلاف ثم التمكين، لم يحرمهم بعد ذلك من التأمين والتطمين، الذي لا ارتياع معه ولا خوف يلابسه فبعد أن قال سبحانه ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ )… قال: ( وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ) [النور 55] فضمن لهم بالعبودية وعدم الشرك الأمن في الأرض، كما ضمن بذلك الأمن في النفس.
وإنه لا يتصور تحقيق أمة للإخلاص في العبودية، والخلوص من الشرك، إلا بإقامة شــرع الله كاملاً غير منقوص، وإلا فإن الأمم المنحـرفة عن شــرع الله تظـل دائماً رابضـة في الخوف تحت سيف الانتقام الإلهي، محرومة من الأمان في النفس والمجتمع. قال تعالى: ( أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ @ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ @ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ @ أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ) [الأعراف 97- 100]. ولقد استوعبت هذه الأمة ذلك الدرس ووعته في مبدأ أمرها، إذ أثبتت لها الأحداث بعد الأحاديث أن الأمن هبة من الله تعالى يكلأ به من شاء، وينزعه عمن شاء.
إن الله تعالى لم يحوج المؤمنين في أخوف موطن تعرضوا له في معركة الخندق، في معركة الأحزاب، لأن يرموا بسهم أو يجودوا بدم حيث قال تعالى: ( وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا ) [الأحزاب 25]. بل تولى كفاية ذلك وحده؛ ولهذا كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول فيما أخرجه البخاري: «لا إله إلا الله وحده، أعزّ جنده، ونصر عبده، وغلب الأحزاب وحده، فلا شيء بعده». كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول هذا اعترافاً بالنعمة وإقراراً بها لله الذي أطعم من جوع وآمن من خوف، وليذكره وليشكره على إكرام أهل الإسلام بالإيواء والأمان متثلاً بذلك أمر الله قال تعالى: ( وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) [الأنفال 26] وكما أمَّن الله أهل طاعته من أخطار الخارج ومن الأعداء الظاهرين، فقد تكفل بحفظهم من خطر الداخل الكامن في الأعداء المتخفين من المرجفين والمنافقين، قال تعالى: ( لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا * سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ) [الأحزاب 60-62].
وكذلك تولى الله حماية المسلمين من غدر الغادرين سواء أكانوا معاهدين أم ذميين، قال تعالى: ( وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) [الأنفال 62-64] «فالله تعالى هو حسب رسوله وحسب المؤمنين وكافيهم، يدفع عنهم غوائل من يريدون الخداع من المعاهدين إذا أرادوا بمهادنة المؤمنين أن يتقووا عليهم» ابن كثير.
وقال تعالى: ( وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) [الأنفال 71] يعني «لو أراد المشركون الخيانة فيما يظهرون من الأقوال فقد خانوا الله بالكفر قبل ذلك، فأمكن الله المؤمنين منهم، وأمنهم من خيانتهم بأن أقدرهم عليهم يوم بدر حتى أخذوهم أسارى» ابن كثير.
وكما أن الأمن ممنوح للمسلمين المستقيمين على الشريعة كوناً وقدراً فإنه مراد لهم ديناً وشرعاً. ففي شريعة الله سبحانه، إن امتثلها الناس وأقاموها، ما يضمن لهم الأمان التام في الأموال والأعراض والدماء…
إن الحدود والتشريعات التي لا تنفذ إلا في حالات قلائل في ظل الدولة الإسلامية لتثير العجب إذا ما قورنت بما تحشده القوانين الوضعية من آلاف القضايا في مئات المحاكم ثم لا تحرز بعد ذلك أمناً ولا توفراً استقراراً. فالدول قديماً وحديثاً تنفق المقادير الهائلة من الأموال لتأمين الداخل والخارج، وهي مع ذلك إما حاصلة على بعض الأمن مستخلصة له، وإما عاجزة عنه مشغولة به، وفي مجال واحد، كمجال حماية المال وتأمين الملكية، تعجز كل القوانين، وتنفد كل الميزانيات، ولا يحصل للناس عشر معشار ما يمكنهم تحصيله لو أنهم أقاموا حداً واحداً من حدود الله، وهو قطع يد السارق. ويقول الشيخ أحمد شاكر في عمدة التفسير (2/147): «… ولو عقل هؤلاء الناس الذين ينتسبون إلى الإسلام لعلموا أن بضعة أيدٍ من أيدي السارقين لو قطعت كل عام لنجت البلاد من سبة اللصوص، ولما وقع كل عام إلا بضع سرقات كالشيء النادر، ولخلت السجون من مئات الألوف التي تجعل السجون مدارس حقيقية للتفنن في الجرائم، ولو عقلوا لفعلوا ولكنهم يصرون على باطلهم ليرضى عنهم سادتهم ومعلموهم… وهيهات».
2006-05-31