إعداد: سمير الزين
نشأت فكرة جواز التدرج في تطبيق الأحكام الشرعية عند المسلمين في بعض عصور الانحطاط، وكان سبب نشأتها عدة عوامل، أهمها الرضوخ للواقع الفاسد ومسايرته، فإلى أي حد يصحّ الرضوخ للواقع، وبالتالي هل يجوز التغاضي عن تطبيق بعض أحكام الإسلام إذا كان في تطبيقها بعض الفتن أو الاضطرابات؟
وفي هذا البحث، سأبين فساد هذه الفكرة: فكرة التدرج بدل الحل الانقلابي الشامل، مستدلاً بالقرآن الكريم وبسنة الرسول.
مطلب جماعي:
بعد أن أصبح هو المسيطر على الساحة في العالم الإسلامي، وبعد أن ولّى عهد الظلاميين الضالّين المضلّين من قوميين وعلمانيين، واشتراكيين ماركسيين، ووطنيين رأسماليين وغيرهم، وبعد أن أصبح استئناف الحياة الإسلامية وإعادة الإسلام إلى واقع الحياة مطلباً جماعياً عند الأمة الإسلامية، كثرت الطروحات والأبحاث في ماهيّة نظام الحكم في الإسلام، وكيفية العمل لإعادته وتطبيقه. ومن هذه الأبحاث ما هو قيّم أصاب أصحابُه الحقَّ فيه، ومنها ما دُسَّ ولُفِّق ليتناسب مع أهواء ومآرب طارحيه. ومن هذه الأبحاث فكرة جواز التدرُّج في تطبيق أحكام الإسلام بدل التطبيق الفوري، ومنها مسايرة الواقع الفاسد بدل الثورة عليه وإصلاحه إصلاحاً جذرياً… وما هذه البحوث إلا أفكارُ يرفضها الإسلام وتأباها العقيدة.
يمَ يستدلّون؟:
في عصور الانحطاط التي عاشها المسلمون، ظهرت أخطاء كثيرة زادت الطين بلة. وظهرت أمورٌ وأساليب كثيرة لم تكن موجودة لا في عهد رسول الله، ولا في عهد السلف الصالح والتابعين. ففي عصور الانحطاط ظهر أسلوبٌ جديد في الاجتهاد واستنباط الأحكام الشرعية، مؤدّاه وضع الفكرة التي يريد إيصالها هذا “الكاتب” أو “الشيخ” أو “الزعيم”، ثم الانطلاق إلى النصوص الشرعية وتأويل بعضها للبحث عن قرائن تماشي أفكارهم بدل استقراء النصوص لفهم الأحكام.!!
هذا هو الأسلوب الذي اتبعه القائلون بجواز التدرّج في تطبيق أحكام الشرع، إذ أراد بعضهم ممالأة الحكام ومسايرتهم بالقول بأنه يجوز التدرج في تطبيق أحكام الشرع بدل الحل الانقلابي الشامل لاقتلاع الكفر من جذوره ثم أخذوا يقلّبون النصوص ويفتشون عن أدلّة تدعم قولهم. القائلون بنظرية التدرج استدلّوا بقولهم أنّ الله حرّم الخمرة بالتدريج: فقبل أن تحرّم كلياً بنزول آية (لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى) وآية (فيهما إثم كبير ومنافع للناس).
رداً على قولهم:
وللردّ على هذا القول نقول ما يلي:
أولاً: بغضّ النظر عن كيفية تحريم الخمرة، فإنها منذ نزول آية (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسرُ والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشيطان فاجتنبوه) صارت حراماً وستبقى كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولا يجوز أبداً لأحد أن يستبيحها أو أن يعود ليحرّمها تدريجياً كما يدّعي القائلون بالتدرج، لأن زمن الوحي قد انتهى، ولا يجوز للحاكم أن يُسقط الحد عن شاربها، إلاّ إذا كان هناك رخصة شرعية كالاضطرار مثلاً لقوله تعالى: (فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفورٌ رحيم).
ثانياً: يقول الله تعالى في كتابه العزيز: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هُمُ الكافرون). فكيف يوفق القائلون بالتدرّج بين هذه الآية وقولهم. فقولهم بجواز التدرج معناه جواز الحكم بغير ما أنزل الله “مرحلياً”، أي أنه لن يحكم بما أنزل الله في بعض المسائل، فيدخل تحت آية (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون) أو آية (فأولئك هم الفاسقون) أو آية (فأولئك هم الكافرون). فهل يجوز تطبيق بعض أحكام الكفر مرحلياً للوصول إلى تطبيق أحكام الإسلام كاملة!! أم أنه ينطبق علينا حينذاك قوله تعالى: (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض)؟
ثالثاً: أريد أن أسأل القائلين بالتدرج، إذا حكم أحد الحكام بحكم كفر واحد يخالف الإسلام، هل يجوز للمسلمين السكوت عنه والرضا به؟! حين أخْبِرَ الرسول عليه وآله الصلاة والسلام أصحابه بأنه سيكون من بعده خلفاء يكون في زمنهم منكراتٌ. سأله بعض أصحابه: أفلا ننابذهم بالسيف؟ فكان جوابه «لا، إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان». وهذا الحديث يدل بشكل واضح على أن الحاكم إذا حكم علناً ببعض أحكام الكفر ولو بحكم واحد فإنه يدخل تحت هذا الحديث، ويجب على المسلمين أن يقاتلوه بالسلاح للتغيير عليه أو لتغييره. وهذه هي حال الحاكم الذي سيقول (أو يقول) بالتدرّج.
رابعاً: قال تعالى: ]إنّ الذين توفّاهُم الملائكةُ ظالِمي أنفسهم قالوا: فيم كُنْتُم؟ قالوا: كنّا مستضعفين في الأرض. قالوا: أَلَم تكن أرض الله واسعة فتُهاجروا فيها؟ فأولئك مأواهمْ جهنّم وساءت مصيراً. إلاّ المستضعَفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعونَ حيلةً ولا يهتدون سبيلاً. فأولئك عسى الله أن يعفوَ عنهمْ، وكان الله عفُواً غفوراً[. الآية هذه تُلزِمُ كُلَّ مسلم، حاكماً كان أو محكوماً، بأن يجتنب كلَّ ما حرَّمه الله عليه، وبأن يقوم بكل ما فرضه الله عليه، ولو اقتضى منه ذلك أن يخسر بلده وأرضه وماله وبيته وأقاربه ويهاجر إلى حيث يستطيع أن يؤدّي ما ألزمه به الشرع. والأصل أنه إذا كان القائل بالتدرّج حاكماً فإنه طليق اليد في الحكم بأحكام الشرعية الإسلامية، فإن لم يفعل، أو خلط أحكام الكفر بأحكام الإسلام، كان أشدَّ ظلماً لنفسه من الذين ذكرتهم هذه الآيات.
رفض حاسم:
خامساً: إذا نظرنا إلى سيرة الحبيب المصطفى عليه وآله الصلاة والسلام، وجدنا أنه لم يَقْبل أن يعفي ثقيف من بعض الأحكام (ومنها الصلاة)، ولم يقبل تأجيل هدم صنمهم اللات شهراً، بل رفض بشكل حاسم، وأصرّ على أن يجتنبوا ما حرّم الله كاملاً (لا بالتدرج!!).
روى ابن هشام في سيرته أنه عندما قدم وفد ثقيف ليفاوضوا رسول الله سألوه «أن يدع لهم الطاغية، وهي اللات، لا يهدمها ثلاث سنين. فأبى رسول الله ذلك عليهم. فما برحوا يسألونه سنة سنة ويأبى عليهم، حتى سألوا شهراً واحداً بعد مقدمهم، فأبى عليهم أن يدعها شيئاً مسمّى، وإنما يريدون بذلك، فيما يظهرون، أن يتسلّموا بتركِها من سفهائهم ونسائهم وذراريهم، ويكرهون أن يُروِّعوا قومهم بهدمها حتى يدخلهم الإسلام، فأبى رسول الله إلاّ أن يبعث أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة فيهدماها. وقد كانوا سألوه ـ مع ترك الطاغية ـ أن يعفيهم من الصلاة، وأن لا يكسروا أوثانهم بأيديهم، فقال رسول الله: أما كسر أوثانكم بأيديكم فسنعفيكم منه، وأما الصلاة فإنه لا خير في دين لا صلاة فيه..» والصلاة كانت حينذاك قد فرضت، فلم يقل لهم لا تصلّوا مدة ثماني سنوات ثم أدّوها: أو قبل منهم أن يترك لهم اللات شهراً ثم يهدموها بعد ذلك فأين التدرّج في ذلك؟!
مواجهة الفتن:
ولعلّ النقطة الأبرز في بحث القائلين بالتدرّج تكمن في الاستطاعة. فالذي يقول بالتدرّج إنّما يستند إلى قوله تعالى: ]لا يكلف الله نفساً إلا وسعها[، وفي رأيه، لن يستطيع المسلمون اليوم إذا وصلوا إلى السلطة أن يطبّقوا الإسلام تطبيقاً انقلابياً شاملاً، لأن ذلك من شأنه إقامة الفتنة وإثارةُ البلبلة في المجتمع الإسلامي الناشئ.
أقول ردّاً على هؤلاء: إن الاستطاعة الشرعيّة التي تلجئ إلى الحرام (وهو هنا تطبيق غير ما أنزل الله) معروفة شرعاً ومحدّدة، وهي غير ما يُتوهّم من فتن واضطرابات. فمظنة وقوع الفتنة لأجل تطبيق الإسلام لا تشكِّل عذراً شرعياً للوقوع في الحرام، وهو تطبيق أحكام الكفر (مع الإيمان بعدم صلاحها).
وقد أجمع الصحابة أيام الخليفة أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه على محاربة مانعي الزكاة من المرتدّين. وقد كان أحرى بأبي بكر رضي الله عنه أن يتجنّب الفتنة، وأن يحقن دماء المسلمين، وأن لا يُقدم على محاربة غالبية قبائل العرب، والتي كانت قد منعت الزكاة بعد وفاة النبي لقلّة إمكاناته. لكنه، والصحابة معه، لم يقبل تعطيل حكم واحد من أحكام الشرع الإسلامي رغم الخطر المحقّق الذي سيقع على الدولة الإسلامية فيما لو حارب القبائل.
لذلك، على المسلمين تطبيق أحكام الإسلام كاملة تطبيقاً انقلابياً شاملاً حالما يتوصلون إلى سُدّة الحكم. وعليهم حينذاك (أي على الخليفة) أن يواجهوا الأخطار والفتن التي قد تنشأ من جرّاء ذلك.
طبعاً لا نستطيع أن ننكر أن تطبيق الإسلام في مجتمع أفراده مؤمنون بتطبيقه، مطيعون لله ورسوله ومجاهدون في سبيله، أفضل بكثير من تطبيقه في مجتمع لا يؤمن أفراده بالإسلام وصلاحيته. لذلك لا بد من إقناع الناس في المجتمع بالإسلام أولاً قبل محاولة تطبيقه عليهم. ورغم ذلك، إذا بويع لخليفة في أي ظرف، فإن عليه تطبيق الإسلام كاملاً غير منقوص.
إذاً، لا يجوز التدرج في تطبيق أحكام الإسلام، و”حلال محمد حلال إلى يوم الدين، وحرام محمد حرام إلى يوم الدين”. ولا يجوز أن نحلّ حراماً ولو لدقيقة، ولا أن نحرّم حلالاً ولو لدقيقة، إلا فيما رخّص به الشرع. أما القائلون بالتدرّج، فأدعوهم إلى تقوى الله وعدم التقوّل على الإسلام والافتراء عليه.