بسم الله الرحمن الرحيم
أميركا والمسلمون… عداء ممتد في التاريخ والجغرافيا
الدكتور ماهر الجعبري
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في فلسطين
أميركا دولة رأسمالية تقوم على النفعية وعلى الفردية، وهي الوريث البشع للاستعمار الغربي. أما المسلمون فهم أمة خيريّة تحمل عقيدة ربانية ذات طبيعة سياسية تدفعها للاهتمام بالغير ورعايتهم، فكان لا بد من الصدام والصراع والمواجهة؛ ولذلك صاغت أميركا علاقتها مع الأمة الإسلامية على أساس إقصاء “الإسلام السياسي” ومشروعه الحضاري، لأنها لا تستطيع أن تنافسه مبدئياً على الساحة العالمية فيما إذا انبثق في دولة عالمية تتحدى أميركا، ولا ينكر هذا الصراع على أشكاله المختلفة إلا من يكون كالنعامة التي تدفن رأسها بالرمل لتجنّب الخطر الداهم، ولذلك لا تجد سياسياً أو مفكراً واعياً –بغض النظر عن دينه وثقافته- ينكر هذا الصراع وحتمية المواجهة.
هذا المقال المفصل يستعرض مسيرة الإرهاب الأميركي وعدوانها على بلاد المسلمين وتحديها للأمة الإسلامية، ويستشرف مآل هذا الصراع الحضاري، ضمن محاور متعددة.
أشكال التحدي الأميركي للأمة الإسلامية
تواجه أميركا الأمة الإسلامية وتعتدي عليها وعلى مصالحها ضمن حرب حضارية ممتدة تتخذ أشكالاً متعددة منها:
الحروب العسكرية التي أراقت فيها أميركا دماء المسلمين في العديد من بلاد المسلمين، عبر المشاركة المباشرة والاحتلال العسكري كما في أفغانستان والعراق، وعبر حلفائها كما في شلال الدم المستمر في فلسطين على أيدي اليهود، وعبر عملائها من حكام المسلمين كما في عاصفة الحزم وكما في الإجرام الدموي لبشار وإيران وحزبها الطائفي.
المؤامرات السياسية التي واجهت فيها أميركا مصالح الأمة الحيوية في التحرر والوحدة وتحكيم الشريعة، وهي مكائد سياسية ممتدة ومتجددة، منها ما تشرف على تنفيذه مباشرة مثل مشروع حل الدولتين لتصفية القضية الفلسطينية، ومثل تحركاتها العالمية والإقليمية لفرض الحل السياسي على الثورة في سوريا، وتسهيلها لإعطاء المهل لبشار لينهك الثورة أو تنضج هي البديل، ومنها ما توكله لعملائها من حكام المسلمين كما في مصر التي ورطّت فيها المسلمين في القبول بنصف ثورة، حتى إذا ما مكّنت عميلها السيسي سحبت البساط من تحت أرجل الجميع، ومن ثم زجت بالمسلمين في السجون، وسهّلت عملية “الردة الثورية”، فأعادت إنتاج نظام عربي عميل أشد قمعية وعدوانية للأمة ومشروعها.
الصراع الفكري الثقافي: حيث تحاول أميركا عبره فرض ديمقراطيتها على العالم وعلى المسلمين على وجه الخصوص، كما كان بوش الابن قد محوَر استراتيجية الأمن القومي لأميركا عام 2006م حول ما أسماه “حرب الأفكار”. وفي هذا المجال تركز أميركا على ما تصنفه “برامج تنموية” لتسهيل الاختراق الثقافي والتلويث الفكري، ويتم ذلك عبر نشاطات وكالات التنمية الأميركية وبرامجها المتفرعة التي تهدف إلى حرف المسلمين عن ثقافتهم، وتعمل على تحميلهم العلمانية وديمقراطيتها ومقاييسها كوجهة نظر في الحياة، وذلك كله في مواجهة مشروع الأمة الحضاري الذي يهدف إلى تغيير وجه الأرض نحو تحقيق العدل في دولة الخلافة الراشدة الثانية.
الهيمنة الاقتصادية: حيث تحتكر أميركا مجمل مقدرات الأمة الإسلامية ومواردها الطبيعية مثل النفط والمعادن، وتخوض في ذلك صراعاً مع أوروبا كلما حاولت الاستحواذ على شيء من كعكعة تلك الخيرات، بينما يبقى المسلمون يعانون الفقر والحرمان، ولا يجدون لقمة العيش الكريم.
تاريخ عدائي يتجدد
إن هذا العدوان الأميركي ليس جديداً على عقلية “الكاوبوي” الأميركي الذي أقام مشروعه الرأسمالي على جماجم الهنود الحمر بعد عملية الإبادة الجماعية البشعة لأهل أميركا الشمالية على يد الغرب الاستعماري. وهو عدوان يتخذ مع الأمة الإسلامية بعداً أكثر شراسة لأنها تحمل فكرة ربانية تتحدى الفكرة الرأسمالية وديمقراطيتها. هي إذاً حرب عقائدية بين الرأسماليين-الديمقراطيين الذين يريدون تأليه الفرد وإطلاق حرياته بلا قيد، وهم يستلهمون تاريخ آبائهم الصليبيين، وبين الربانيين الذين يريدون تحرير الإنسان من أية عبودية لغير الله، وتعبيده لله الواحد القهار، وهم يستلهمون تاريخ الخلافة على مدار ثلاثة عشر قرناً.
صحيح أن الساسة الأميركان علمانيون، ولكنهم لا ينفصلون عن تاريخهم الصدامي مع المسلمين، ولذلك لم يكن مستغرباً أن يصنّف بوش الابن غزو أفغانستان عام 2001م على أنه “حملة صليبية”، عندما قال “هذه الحملة الصليبية، هذه الحرب على الإرهاب ستأخذ بعض الوقت”. وكان تصريحه ذاك تعبيراً صادقاً عن عداء مستفحل؛ ولذلك ظهرت عبارة الحملة الصليبية العاشرة كتعبير سياسي عن حالة الربط بين “الحرب على الإرهاب التي تقودها الولايات المتحدة الأميركية والحملات الصليبية التاريخية”.
صحيح أن البيت الأبيض كان قد أعلن في وقت لاحق أن بوش شعر بالأسف لاستخدامه ذلك التعبير، إلا أن التعبير البشع عاد مجدداً في حملة بوش الانتخابية عام 2004م (العربية نت 14/4/2004)، مما يشير إلى أنه لم يكن هفوة ندم عليها الساسة الأميركان، بل هي المكنون الحقيقي لأميركا في عدائها للأمة الإسلامية. ومن ثم لم يكن مستغرباً أن يركّز بوش في استراتيجية الأمن القومي الأميركي عام 2006م على ما أسماه “حرب الأفكار”، وتحدث فيها عن “التحديات التي تواجهها أميركا نتيجة بروز ظاهرة الإرهاب المشتعل بأيديولوجية عدائية تقوم على الكراهية والقتل” حسب تعبيره.
ولا شك أن تلك العدائية أكثر وضوحاً عند ساسة الحزب الجمهوري الأميركي، ولدى من يسمونهم “المحافظين الجدد”، الذين يتخذون من قاعدة القوة الصلبة والصدام العسكري وسيلة لتحقيق مصالح أميركا، ومع ذلك فهي عدائية موجودة أيضاً لدى الديمقراطيين الذين تربّعوا على رئاسة أميركا بعد بوش، ولكنّها – في حالتهم – عدائية الأفعى الملساء، التي تنساب في عباءة الأمة الإسلامية وتلدغ جسدها في كل مكان بينما تحتك بجسدها بنعومة خطاب أوباما في القاهرة، والذي استهل به رئاسته الأولى. وقد حاول أوباما إغراء المسلمين في خطابه الناعم الشهير، ولكنه لم يغير من الواقع شيئاً، وظل أمن دولة اليهود من أمن أميركا، وظلت الدماء تراق في العراق والشام بل وفي اليمن وفي ليبيا على مذابح المصالح الأميركية؛ ولذلك فإن عدائية الساسة الديمقراطيين تقوم على استخدام القوى الناعمة من الدبلوماسية والألاعيب والمؤامرات السياسية والمعونات الاقتصادية، وتغيب أو تقل فيها التصريحات الصدامية الحادة، بينما يبقى الفعل العدائي واحداً.
ولذلك كان الصحفي الأميركي البارز جو شيا سبّاقا في الاعتراف بهذه المواجهة بين أميركا (أو الغرب) والخلافة كما ذكر في مقاله الذي نشرته مجلة التقرير الأميركي (American Reporter) بتاريخ 19/1/2010م تحت عنوان: “الحرب ضدَّ الخلافة”، وقال فيه “إنَّ المعركة بين الإسلام والغرْب معركة حتميَّة لا يمكن تجنُّبها، وهي ذاتُ تاريخ قديم”.
الخلافة… تصريحات أميركية تكشف عن صراع في الوجود وفي الوجدان
خلال قيادة الحزب الجمهوري لأميركا كثرت التصريحات السياسية التي تكشف عن التوجس من الخلافة، منها مثلاً ما أفصح عنه رئيس أركان القوات المسلحة الأميركية في حينه ريتشارد مايرز أثناء شهادته أمام لجنة شؤون القوات المسلحة في مجلس الشيوخ في 26/6/2004م: بـ “أن الإرهابيين في العراق يريدون إقامة خلافة إسلامية والعودة إلى القرن السابع”، ومنها ما نقلته مجلة النيوزويك في عددها الثامن من نوفمبر 2004م عن وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر :”إن العدو الرئيس هو الشريحة الأصولية الناشطة في الإسلام التي تريد في آن واحد قلب المجتمعات الإسلامية المعتدلة وكل المجتمعات الأخرى التي تعتبرها عائقاً أمام إقامة الخلافة”، وكان رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير قد سار على نهجهم في التخويف من الخلافة، فقال في المؤتمر العام لحزب العمال بتاريخ 16/7/2005م: “إننا نجابه حركة تسعى إلى إزالة دولة إسرائيل وإلى إخراج الغرب من العالم الإسلامي وإلى إقامة دولة إسلامية واحدة تُحكِّم الشريعة في العالم الإسلامي عن طريق إقامة الخلافة لكل الأمة الإسلامية”، ثم قال وزير الداخلية البريطاني السابق تشارلز كلارك في كلمة له في معهد هيرتيج في 6/10/2005م: “لا يمكن أن تكون هناك مفاوضات حول إعادة دولة الخلافة، ولا مجال للنقاش حول تطبيق الشريعة الإسلامية”.
ومن ثم صرّح الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن في خطاب له للأمة الأميركية في 8/10/2005م قائلاً: “يعتقد المقاومون المسلحون أنهم باستيلائهم على بلد واحد سيقودون الشعوب الإسلامية ويمكنونهم من الإطاحة بكافة الحكومات المعتدلة في المنطقة، ومن ثم إقامة إمبراطورية إسلامية متطرفة تمتد من إسبانيا إلى إندونيسيا”. وتبعه وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد حيث قال في جامعة جون هوبكنز في 5/12/2005م: “ستكون العراق بمثابة القاعدة للخلافة الإسلامية الجديدة التي ستمتد لتشمل الشرق الأوسط وتهدد الحكومات الشرعية في أوروبا وأفريقيا وآسيا، وهذا هو مخططهم، لقد صرحوا بذلك وسنقترف خطأ مروِّعاً إذا فشلنا في أن نستمع ونتعلم”. وكرر بوش التخويف من الخلافة في أكثر من مناسبة عام 2006م، منها ما كرره في مؤتمر صحفي مطوَّل في البيت الأبيض في 11/10/2006م، حيث قال “إن وجود أميركا في العراق هو لمنع إقامة دولة الخلافة التي ستتمكن من بناء دولة قوية تهدد مصالح الغرب وتهدد أميركا في عقر دارها”. وقال: “إن المتطرفين المسلمين يريدون نشر أيديولوجية الخلافة التي لا تعترف بالليبرالية ولا بالحريات؛ ولهذا يريدون لنا أن نرحل ولكننا باقون حتى لا نندم، وليعلم الشعب الأميركي حينئذ أن وجودنا في العراق كان يستحق المغامرة والرهان”.
صحيح أن مصطلحات “حرب الأفكار” لم تعد بارزة في استراتيجية الأمن القومي الأميركي عام 2010م، وفي استراتيجية الأمن القومي الأميركي عام 2015م في انعكاس واضح لأسلوب الحزب الديمقراطي في تنفيذ المصالح الأميركية، ولكن النشاطات السياسية ظلت تركز على مواجهة الفكرة الأساسية للأمة الإسلامية وعلى تحدي مشروعها السياسي الكبير الذي يتمثل في صدام حاد في ثورة الشام؛ ولذلك ركّزت أميركا (وديمقراطيوّها الحاكمون لها في هذه الفترة) على مواجهة ثورة الشام بالمؤامرات السياسية، وبمد بشار بالعون السياسي، وبتجنيد إيران وحزبها للعون العسكري، ومع السماح لجسر العون العسكري الروسي أن يبقى ممتداً عبر قناة السويس التي يديرها عملاء أميركا.
ورغم نعومة أساليب الديمقراطيين، لم يستطع أوباما تجاهل التعبير عن الخوف من الخلافة وتحدي مشروعها، وقال في مقابلة نشرت مقتطفات منها صحيفة نيويورك تايمز في 8/8/2014م: “لن نسمح لهم بإقامة خلافة بصورة ما في سوريا والعراق” (حسب الجزيرة نت 9/8/2014). وكانت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون قد عبّرت عن طبيعة الصراع وعن قلقها من العمل للخلافة في باكستان (حسب ما جاء على محطة جيو الباكستانية في 8/12/2009م)، وهو قلق جدَّد نائب الرئيس الأميركي جو بايدن التعبير عنه عندما أكّد أنَّ باكستان هي أكثر ما يقلقه، كونه “بلد كبير، ولديه أسلحة نووية يمكن نشرها، وفيه أقلية مهمة فعلاً من السكان المتطرفين” (اليوم 12/2010م).
اذاً، فإن التحذير من الخلافة ظل حاضراً في تصريحات الساسة الأميركان على اختلاف مستوى النبرة وطبيعة أساليب الحزبين الأميركيين.
ثورة حتى الخلافة… تحرر الأمة وترعب الغرب وأميركا
قبيل انبثاق الثورات، نشر المفكر المصري-القبطي رفيق حبيب مقالاً بعنوان: “الإسلام الجديد… مشروع بلا خلافة”، ظهر على موقع أخبار العالم في 12/2/2010م، أجاد فيه تصوير حالة الصدام بين المشروع الحضاري الإسلامي وبين مشروع العولمة الرأسمالي، وجاء عنوانه مدلِّلاً على سعي الغرب لإنتاج إسلام لا يهدد الغرب، وجاء فيه: “في قلب المعركة بين العولمة كمشروع غربي، والمشروع الحضاري الإسلامي، نجد مسألة الخلافة الإسلامية في مرمى النيران. فهي الحاضر الغائب في كل معارك الغرب مع الحركة الإسلامية، وفي كل معارك العلمانية مع المشروع الإسلامي، وأيضاً في معارك النخب الحاكمة”.
وقبل بزوغ الفجر الثوري، نشرت مؤسسة جالوب الأميركية (المتخصصة في استطلاعات الرأي العالمية) نتائج كشفت “أن أكثر من 90 بالمائة من الشعب المصري يؤيد تطبيق الشريعة الإسلامية، وأن حوالى ثلثي المصريين يطالبون بجعل الشريعة المصدر الوحيد للتشريع”، وأشارت إلى تأييد الأغلبية الساحقة في مصر وإيران وتركيا لتقنين الشريعة الإسلامية لتكون أحد مصادر التشريع في بلادهم (وذلك عام 2008م حسب موقع محيط).
إذاً، كان التوجس الغربي من الشريعة والخلافة حاضراً قبيل الثورات، ومع انطلاق الثورات بعفويتها في تعبير عن مشاعر الأمة، أدرك الغرب أن الخلافة هي الخطر الكامن فيها، بل صرّح بعض إعلامييه أنها هدف الثورات، من مثل الإعلاميّ الأميركي جلن بيك (Glenn Beck) الذي شرح للأميركان –في برنامجه على قناة فوكس نيوز الأميركية بتاريخ 29-6-2011م- سياق الربيع العربي في ضوء الحديث النبوي الذي يبشر بالخلافة، “ثم تكون خلافة على منهاج النبوة”، وعرضه مترجماً على الشاشة الأميركية. وإذ يمكن لبعض المحللين والإعلاميين أن يعتبر ما عرضه بيك نوعاً من شحن الرأي العام، ولكن الحقيقة أن ساسة أميركا مشحونون ذاتياً ضد الخلافة ومشروعها، ولا يحتاجون لبرنامج إعلامي ليوجههم ضدها.
ولا شك أن معنى عودة الخلافة يتلازم مع التحرر من الاستعمار الغربي ومن النفوذ الرأسمالي، ومع توحيد الأمة في دولة واحده تحكّم الإسلام، ومن ثم تهدد مصالح الغرب، ولذلك يدرك الغرب مستوى التحدي في تحقيق تلك الغاية. وعلى قدر ذلك التحدي كانت مواجهته، وظلت مستمرة، على مختلف الصعد والاشكال، بإراقة الدماء، والمكائد السياسية، وشراء الذمم، والتلويث الفكري، وتمرير البرامج السياسية التي تحرف الثورة عن غايتها، وتجلَّى ذلك بوضوح في ثورة الشام، التي تميّزت بشعارات صادعة رددت: “الأمة تريد خلافة من جديد”، كيف لا وكان دور حزب التحرير فيها جلياً بارزاً.
الالتفاف على مشروع الخلافة… أدوات أميركية بعباءة عربية “وعمة” إسلامية
من الأكيد أن أميركا لن تتخلَّى عن مواجهة تقدم مشروع الخلافة، وهي تستخدم أشكال الصراع المتعددة التي تتراوح من القوة العسكرية إلى الحرب الثقافية، وهنا تجلّت محاولات حرف الأمة عن غاية الخلافة عبر تسخير الأدوات من الإعلام والعلماء والنخب السياسية، والائتلافات والأحزاب السياسية، وحتى تلك التي ترفع الإسلام شعاراً بينما تحمل الديمقراطية كمفاهيم تسير سلوكها بحسبها!
وهذه كلها تتحرك عبر فضاء الأمة الذي تملؤه الفضائيات، وتحاول مواجهة فكرة الخلافة في المؤتمرات والندوات والحوارات، وتحاول التصدي للرموز الحضارية لذلك المشروع مثل الراية الإسلامية السوداء واللواء الأبيض. وتحاول شرعنة وجود الدول الوطنية، وقبول تفريغ مشاعر التوحيد عبر تمجيد جامعة الدول العربية، وعبر الاتحادات الإسلامية.
ومن ثم تتحرك الجامعة العربية والاتحادات الإسلامية لتحقيق مصالح الغرب في مواجهة الوحدة والخلافة، وتحتضن الائتلافات والفصائل التي تواجه المشروع وتشرعن وجودها وتفتح لها المنابر، وتصدر القرارات العربية “والإسلامية” التي تسمح لتلك الفصائل والائتلافات بالتحرك وادِّعاء تمثيل الثورة والقضية. ولا يقتصر ذلك على المنظمات الإقليمية، بل يتم تحريك المنظمات الدولية كالأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي لإصدار القرارات الدولية التي تضبط إيقاع الثورة ضمن القنوات التي تريدها أميركا حتى لا تخرج عن السيطرة، كما حصل في ليبيا وفي اليمن.
ومن ثم يُسخر الحكام جيوشهم لحراسة الحدود ومنع التحرر الحقيقي، كما حصل في الاحتشاد العسكري مع حلف الناتو لضرب العراق، وكما حصل في ما أسموه عاصفة الحزم لضرب اليمن، وكما يحصل في مشروع القوة العربية المشتركة التي يعمل السيسي على تفعيلها.
تفتيت المفتت…استباقاً للتوحد والالتحام
على النقيض من مشروع الوحدة السياسية في دولة الخلافة، تسير المخططات السياسية الأميركية على ترسيخ الفرقة، وتعزيز الطائفية، وإشعال الفتن بين المسلمين، لتضييع الجهود في غايات سياسية وضيعة، ووضع العراقيل أمام مستقبل الأمة الوحدوي. ومنها ما تخططه أميركا للعراق من تقسيم لثلاثة كيانات طائفية، واحد للأكراد شمالاً، وواحد للشيعة جنوباً، وواحد للسنة في الوسط، مع الإبقاء على بغداد ضعيفة ومنهكة. ومنها محاولة جعل ما يجري في اليمن على أنه صراع بين السنة والشيعة، وكذلك الأمر في سوريا.
ولا شك أن ترسيخ الحدود وإنشاء حدود جديدة عبر التفتيت يسهم في إشعال فتن وحروب متجددة، ويعطي لأميركا المبرر للتدخلات السياسية عبر عقد المؤتمرات الدولية والعربية، وللتدخلات العسكرية –عندما يلزم- مباشرة أو عبر عملائها.
لا يمكن لجيش جرار أن يهزم فكرة… نصيحة لن يصغي الغرب لها ويغفل عنها المسلمون
“الحقيقة الجليَّة هي أنَّه لا يستطيع أي جيش في العالم، ولا أيَّة قوَّة عسكريَّة -مهما بلغت درجة تسليحها- أن تهزم فكرة”، هذا ما سطّره الصحفي الأميركي شيا في مقاله المذكور أعلاه، وقال فيه “علينا أن نعرف أنَّه في الغد سيواجه الغرب القوَّة الموحَّدة لدولة الخلافة الخامسة”. وأوضح شيا تصوره لسيناريو التغيير حيث “ستفقد الحكومات القوميَّة في بلاد الشَّرق الأوسط شرعيَّتها الضَّعيفة”، ويقول “ستطْلب المجالس المنتخبة لدوْلة الخلافة حديثًا – الَّتي تسيطر على معظم أنْحاء البلاد – من كل مسلم: أن يضطلِع بدوره في الجهاد ضدَّنا، عندئذ تتغيَّر أوْضاعنا من قوَّات كانت تحْظى بشرف نسبي، إلى قوَّات أسيرة شرَك كبير للغاية، ويضيق عليها هذا الشرَك يومًا بعد يوم”.
من الواضح أن القراءة الواقعية للواقع الديمغرافي والفكري والحضاري للأمة الإسلامية يفضي إلى حتمية الخلافة، ومن ثم فهنالك البشرى النبوية بعد الوعد الرباني، ولذلك فإن النتيجة محسومة لدولة الخلافة. ولذلك قال شيا في رسالته لأوباما: “ولا بدَّ أن نضعَ حدًّا لهذا الصراع، وليس أمامنا إلاَّ أن ندخل في مفاوضات سلام مع الإسلام”. ولكن “الكاوبوي” الأميركي الذي تشرّب منطق العربدة منذ عقود، لن يصغي لصوت الحكمة، بل ستأخذه العزة بالإثم، حتى يأخذه جيش الخلافة بالدم. كيف لا والخلافة تصنّف أميركا على أنها من “الدول المحاربة فعلا”.
وأمام هذه الحقائق، ليس أمام المسلم الواعي إلا أن ينخرط بالجهد المبارك لإعادة هذه الخلافة، فليس من عمِل لها كمن ينتظرها ويفرح بعودتها، ولا شك أن فرصة المشاركة في هذا الجهد الرباني نادرة في الوجود، إذ لا يُتصور أن تكون هناك فرصة أخرى في تاريخ البشرية للعمل لإعادة الخلافة استلهاماً لمراحلها التي ذكرها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: “تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكاَ عاضاَ فيكون ما شاء الله أن يكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ثم سكت”. (رواه أحمد).
الثورة ضد الاستعمار محطة في العمل للخلافة
إن الخلافة هي مشروع أمة لإقامة دولة تمارس العمل السياسي والعسكري، وهي التحدي الحقيقي الذي يمكن للمسلمين مواجهة الغرب عبره، وهي القوة الفكرية والحضارية التي تحقق القوة العسكرية التي تتمكن من هزيمة الغرب، ولذلك فإنها المشروع الأقوى لدى المسلمين الذي يمكن لهم عبره التصدي للغرب الاستعماري وهزيمته.
وهي مشروع يوجب خلع النفوذ الغربي والروسي والصيني والهندي والوجود اليهودي من بلاد المسلمين، كما يوجب تطهير ثقافة المسلمين وتنظيف حضارتهم من أية عوالق رأسمالية أو علمانية أو ديمقراطية علقت بها خلال مسيرة التضليل الثقافي والتخريب السياسي التي حركها الغرب. وهذا عمل سياسي فكري شامل.
ولذلك فإن الثورة لا بد أن تكون شاملة ضد الاستعمار، ولا يمكن أن تحقق أي تحرر إذا ما وضعت في حضن الاستعمار: عبر الاستعانة بالدول الغربية أو مؤسساتها أو عملائها من حكام المسلمين، ولا يمكن للدعم العسكري أو اللوجستي الذي تقدمه بعض دول الخليج أو تركيا إلا أن يحمل في طياته فرض اتجاه يحرف الثورة عن مسارها؛ ولذلك لا يمكن لمن يحمل مشروع الخلافة إلا أن يحمل معه مفهوم المفاصلة مع الغرب ومفاهيمه الفكرية ومشروعاته السياسية، ومع رجالاته الذين يتحدثون بمنطقه ويدافعون عن حضارته؛ ولذلك كلّه كانت المداهنة مع الغرب والتماهي مع مفاهيمه وبرامجه، وكانت الاستعانة بالجهات الغربية وبالعملاء حراماً إذ تقضي بتمكين المستعمرين من رقاب المسلمين.
ومن ثم فإن العمل للخلافة يقوم على الجمع بين طرفي معادلة الفكرة الظاهرة والقوة الناصرة، وهو سير على طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي عمل على إيجاد رأي عام على فكرة الإسلام وجمع معه أهل النصرة من أهل القوة، فكانت دولته المباركة في المدينة. وهذه الطريقة الشرعية هي أيضاً حقيقة تاريخية يمكن استقراؤها في تبدّل الدول.
وفي الختام، إن العمل للخلافة ليس مجرد حالة شعورية، ولا مجرد تمسّك بغيب إيماني، بل هو حكم شرعي فرضه الإسلام الذي فرض الصلاة والصوم، وهو التنفيذ الطبيعي للأوامر القرآنية الكثيرة التي دعت المسلمين إلى الحكم بما أنزل الله، وتحكيم الشريعة، وهو أمر لا يتم إلا في دولة جامعة توحد المسلمين وتحررهم من أي نفوذ للمستعمرين، وتطبق فيهم قول الله تعالى [وَلَن يَجْعَلَ ٱللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً].
ولذلك كان واجباً على المسلمين في كل بلد إسلامي أن يجمعوا بين العمل على إظهار فكرة الإسلام وإبراز مشروع الخلافة حتى تكون رأياً عاماً عند المسلمين، وبين العمل على استقطاب قادة الجيوش والجند، حتى إذا ما تحقق التحام الفكرة والقوة في بلد ما، كانت نقطة ارتكاز للخلافة، تعلن فيها وتترسّخ، ومن ثم تتمدد عبر بلاد المسلمين كبقعة زيت تنتشر في قماش نفّاذ، قال تعالى: }وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ{.