في العقيدة العسكريّة… ما الذي يحول دون نصرة جيوش المسلمين لغزّة؟ (2)
2024/08/20م
المقالات
2,265 زيارة
الأستاذ بسّام فرحات
ولاية تونس
العقيدة العسكريّة الإسلاميّة: يقوم الجانب الثقافي فيها على:
1- الولاء والبراء: إنّ النّسخة الإسلاميّة للعقيدة العسكريّة تتلخّص في مبدأ الولاء والبراء، ويتّضح ذلك جليًّا في السيرة النبويّة العطرة؛ فقد اشترط صلى الله عليه وسلم على المستهدفين بالنّصرة الإيمان بنبوّته ورسالته ومشروعه السياسي، واشترط عليهم قتال قريش المشركة دون تحفّظ لأنّها (تظاهرت على الله وكذّبت رسوله واستغنت بالباطل عن الحقّ). كما امتنع عليه الصلاة والسلام عن قبول النّصرة المشروطة من بني عامر بن صعصعة وبني شيبان لأنّها تكبّل النّصرة وتفرغها من محتواها، فتحدّ من مجالات القتال ودواعيه والمستهدفين به، وتضع من شرائع البشر ومصالحهم الدنيويّة الدّنيئة فوق شرع الله ومصلحة الإسلام والمسلمين العليا بما يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلًا. ومبدأ الولاء والبراء مركزي في الإسلام؛ فهو الذي يحدّد للمسلم – سواء المدني أم العسكري – من يوالي، وممّن يتبرّأ، وعلى أيّ أساس يوالي ويعادي، كما يحدّد له المصلحة الشرعيّة التي يجب أن يقاتل في سبيلها والطّرف الذي يجب أن يقاتله أو يقاتل في صفّه، بل تحدّد له حكم التجنيد (واجب) وصفة القتال (جهاد) ودرجته (تأديب – بغاة – إبادة وإفناء) ومآل من يُقتل (شهادة). وهذا المبدأ قائم أساسًا على العقيدة الإسلاميّة. فالولاء والبراء يجب أن يكون خالصًا لله ورسوله، فلا نوالي إلا من والى الله ورسوله، ولا نتبرّأ إلاّ ممّن حارب الله ورسوله، قال صلى الله عليه وسلم: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ». والعقيدة الإسلاميّة هي العقيدة السياسيّة للدّولة الإسلاميّة أي هي (أساس الدّولة بحيث لا يتأتّى وجود شيء في كيانها أو جهازها أو محاسبتها أو كلّ ما يتعلّق بها إلاّ بجعل العقيدة الإسلاميّة أساسًا له)، فهي الفكرة الأساسيّة التي يقوم عليها السلطان في الدّولة ومجموع المفاهيم والمقاييس والقناعات التي يسعى لتنفيذها في الدّاخل وحملها رسالةً إلى العالمين، وهذا يقتضي من الدّولة تطويع كيانها وجميع أجهزتها ودساتيرها وقوانينها للعقيدة الإسلاميّة، ومن باب أولى عقيدتها العسكريّة، ناهيك وأنّ المؤسّسة العسكريّة ركن ركين من تلك الأجهزة، فالدّولة الإسلاميّة دولة رساليّة والجهاد ماضٍ فيها مع البرّ والفاجر، فأيّ تحوير ولو بسيط على العقيدة العسكريّة يُفقد الدّولة صفتها الإسلاميّة ويسلبها سيادتها وسلطانها. فيجب أن يتحوّل الولاء والبراء بالكليّة ويصبح خالصًا لله ورسوله وحدهما، وهذا ما يُعبّرُ عنه في الاصطلاح السياسي الحديث بصياغة العقيدة القتاليّة للمؤسّسة العسكريّة.
2- الشّمول والكمال: وإنّ استناد العقيدة العسكريّة على العقيدة الإسلاميّة يجعلها تتّسم بالشمول والكمال؛ بحيث لم تغادر صغيرةً ولا كبيرةً في الشأن العسكري إلاّ فصّلتها وبيّنتها وقنّنتها (العقيدة القتاليّة – العقيدة الأمنيّة – النّواحي اللّوجستية – الاستراتيجيّات العسكريّة – التسليح – التّدريب – التجنيد – التعبئة – التنظيم – المجهود الحربي – الثّقافة والرّوحانيّات – الأخلاق والمعاملات). وقد أولى الإسلام أهميّةً بالغة للعقيدة العسكريّة لما لها من دور أساسيّ في ذروة سنام الإسلام (الجهاد) وفي شحن المقاتل المسلم بالطّاقة الرّوحية الكفيلة بتحسين مردوده القتالي؛ لذلك فقد استغرقت الأحكام الشرعيّة جميع مستويات العقيدة العسكريّة (المبدئي العقائديّ – الجيوستراتيجيّ – الفنّيّ التكنولوجيّ – التّعبوي التّجييشيّ – الأمنيّ السياسيّ – الأخلاقيّ الإنسانيّ) ووسمتها بميسم إسلاميّ، فهي كلّها أحكام شرعيّة واجبة الاتّباع: فعلى المستوى المبدئي العقائدي عُنِي الإسلام بتركيز الثقافة الإسلاميّة والثقافة العامّة في الجيش وتكريس العقيدة الإسلاميّة فيه، فقد حثّنا الله تعالى على التّوبة والعبادة والصّوم والصّلاة والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر وبذل النّفس والمال للفوز بالجنّة (إِنَّ ٱللَّهَ ٱشۡتَرَىٰ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ أَنفُسَهُمۡ وَأَمۡوَٰلَهُم بِأَنَّ لَهُمُ ٱلۡجَنَّةَۚ). وحثّنا على الصّبر والثّبات والمرابطة (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱصۡبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ ٢٠٠)، كما حثّنا الرّسول صلى الله عليه وسلم على الجهاد في سبيل الله «مَقَامُ الرَّجُلِ فِي الصَّفِّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ عِبَادَةِ الرَّجُلِ سِتِّينَ سَنَةً». وعلى المستوى الفنّي التّقني أوجب الله تعالى الإعداد المادّي من تسليح وعتاد وعدّة قدر المستطاع لإرهاب العدوّ بما يحيل عليه ذلك من مواكبة أحدث الصّيحات العسكريّة وأرقى درجات التطوّر التكنولوجي (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ)، فعلّة الإعداد هي الإرهاب، وهذا يختلف باختلاف الزّمان والمكان وحجم العدوّ والتطوّر التكنولوجيّ. وكان الرّسول صلى الله عليه وسلم حريصًا على تحديث الجيش الإسلاميّ وتزويده بما لا عهد للعرب به؛ فقد نصب المنجنيق على أهل الطّائف، وحفر الخندق حول المدينة، واستورد أرقى الأسلحة وأوفد من يتعلّم صناعتها في مظانّها، كما حثّ على تعلّم السّباحة والرّماية وركوب الخيل، وهي كلّها آخر صيحات العلوم العسكريّة العالميّة في زمانه.
3- تجييش وتعبئة: وعلى المستوى العملي التعبوي فرض الإسلام الجهاد على المسلمين، وجعل من التدريب على الجنديّة إجباريًّا، قال تعالى: (وَقَٰتِلُوهُمۡ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَةٞ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ لِلَّهِۖ) وقال الرّسول صلى الله عليه وسلم «جاهدوا المشركين بأموالكم وأيديكم وألسنتكم»، كما حرَّضنا الله تعالى على القتال (يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ حَرِّضِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ عَلَى ٱلۡقِتَالِۚ)ورغَّبنا في الشّهادة (وَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمۡوَٰتَۢاۚ بَلۡ أَحۡيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمۡ يُرۡزَقُونَ١٦٩) كما رغَّبنا فيها رسوله الأكرم «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُقَاتِلُهُمُ الْيَوْمَ رَجُلٌ فَيُقْتَلُ صَابِرًا مُحْتَسِبًا مُقْبِلًا غَيْرَ مُدْبِرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ». وحثَّنا الله أيضًا على الثبات والمصابرة (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱصۡبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ ٢٠٠) وحثَّنا رسوله الأكرم على الحراسة في سبيل الله «عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» وأوجب علينا نصرة المنكوبين من إخوتنا في العقيدة (وَإِنِ ٱسۡتَنصَرُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ فَعَلَيۡكُمُ ٱلنَّصۡرُ). وعلى المستوى الاستراتيجي الأمني عُني الرّسول الأكرم بالخطط العسكريّة والمناورات، فكان يعمِّي على المشركين ويتلقَّط الأخبار ويبثُّ الجواسيس والعيون ويناور لإرهاب الرّوم والفرس (مؤتة – تبوك) ويناور لعزل غطفان عن قريش أو لتفتيت الحلف بينها وبين يهود.
4- ميثاق عسكريّ: وعلى المستوى الأخلاقي أرسى عليه الصّلاة والسّلام ميثاقًا عسكريًّا أخلاقيًّا حدّد فيه بدقّة أخلاقيّات إنسانيّة غاية في السموّ والرّقي يجب أن يلتزم بها الجندي المسلم أثناء خوضه للمعارك «لَا تَخُونُوا، وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تُمَثِّلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا طِفْلًا صَغِيرًا، وَلَا شَيْخًا كَبِيرًا، وَلَا امْرَأَةً، وَلَا تَقْطَعُوا نَخْلًا وَلَا شَجَرَةً مُثْمِرَةً، وَلَا تَذْبَحُوا شَاةً وَلَا بَقَرَةً وَلَا بَعِيرًا إِلَّا لِمَأْكَلَةٍ. وَسَوْفَ تَمُرُّونَ بِأَقْوَامٍ قَدْ فَرَّغُوا أَنْفُسَهُمْ فِي الصَّوَامِعِ فَدَعُوهُمْ وَمَا فَرَّغُوا أَنْفُسَهُمْ لَهُ». وهذا الميثاق المحدّد لأخلاقيّات الحروب هو الأوّل من نوعه في التّاريخ البشريّ سبق ميثاق (جنيف) الذي تواضعت عليه القوى العظمى بعد الحرب العالميّة الأولى بـ14 قرنًا، هذا فضلًا عن كون بنوده أحكامًا شرعيّة واجبة الاتِّباع معمّمة على جنس الإنسان بصرف النّظر عن عرقه ودينه وليست ذات طبيعة دعائيّة استهلاكيّة أو داخليّة بينيّة خاصّة بالبيت الأوروبيّ النصرانيّ يُتحلّل منها مع الشّعوب الأخرى على غرار ميثاق (جنيف)، ودونكم المجازر والفظائع المرتكبة في حقّ الغزّاويّين بأعين من يتشدَّقون بحقوق الإنسان، فاستناد العقيدة العسكريّة على العقيدة الإسلاميّة يجعلها تتّسم بالثبات والدّيمومة والتواصل على عكس العقائد العسكريّة العلمانيّة الحديثة الخاضعة لمؤثّرات خارجيّة تقنيّة وسياسيّة وأمنيّة واستراتيجيّة بما يعرّضها للتحوُّل والتغيُّر والتبدُّل باستمرار.
5- شحن عقائديّ: إنّ العقيدة الإسلاميّة هي عقل المؤسّسة العسكريّة الإسلاميّة ومشاعرها وأحاسيسها، فهي التي تصوغ عقليّة المقاتل المسلم ونفسيّته وترسي شخصيّته العسكريّة المتميّزة وتصبغ العقيدة العسكريّة الإسلاميّة بمبادئها الرّاقية وروحانيّاتها السامية، وهذا له تداعياته المباشرة على الجنديّ المسلم وعلى الجيش الإسلامي – مردودًا وسمعةً وإنجازات – فقد نفخت العقيدة الإسلاميّة الرّوح في الجسد الجاهلي المتهالِك وحوّلت العرب وسائر الأمم المفتوحة إلى أسودٍ ضوارٍ لا يهابون الموت ولا يصمد في وجوههم أحد؛ مصداقًا لقوله تعالى: (أَوَ مَن كَانَ مَيۡتٗا فَأَحۡيَيۡنَٰهُ وَجَعَلۡنَا لَهُۥ نُورٗا يَمۡشِي بِهِۦ فِي ٱلنَّاسِ). فهذه العقيدة تغرس في المقاتل المسلم روح التّضحية والفداء وتشحنه بطاقة جبّارة وقوّة خارقة مسنودة بنبع من الخيريّة دفّاق وتجعل منه مشروع شهادة؛ فالجهاد ذروة سنام الإسلام وهو عبادة من أرقى العبادات. والشّهادة منتهى غايات المؤمن ولا توجد أمّة يضحّي رجالها بأرواحهم ويقدّمون أنفسهم للموت في سبيل معتقدهم إلاّ الأمّة الإسلاميّة؛ لأنّ العقيدة الإسلاميّة تسلب من معتنقيها أهمّ مظاهر غريزة البقاء وتشحنهم بشجاعة فائقة وبسالة نادرة وتجعلهم يستخفُّون بالموت بل يحرصون عليه كما يحرص غيرهم على الحياة؛ فالموت بالنّسبة إليهم ليس نهاية للحياة بل شهادة وبداية للحياة الحقيقيّة الأبديّة في النّعيم المقيم؛ ما يجعلهم يتسابقون على نيل الشّهادة. والعقيدة الإسلاميّة تبلور النّظرة إلى العدوّ وتسِمُها بميسمها الرّوحي وتزوِّدها بشحنة من العداء الشديد على سبيل الفرض والواجب؛ فعداء المقاتل المسلم لعدوّه ليس عداءً شخصيًّا أو مصلحيًّا بل هو عداء مقدّس؛ لأنّ العدوّ يحارب الله ورسوله ويريد أن يطفئ نور الله من الأرض، فقتاله واجب كفرض الصّلاة، وهو نصر لله ولرسوله ولدينه بما يشحن المقاتل المسلم بطاقة قتاليّة جبّارة وقوّة وثبات واستماتة عصيّة على التّصديق. والعقيدة الإسلاميّة أيضًا تهوِّن من شأن العدوّ وتكشف هشاشته وضعف نفسيّته وتقلّل من شأنه وتجرِّئ المقاتل المسلم عليه، قال تعالى (لَن يَضُرُّوكُمۡ إِلَّآ أَذٗىۖ وَإِن يُقَٰتِلُوكُمۡ يُوَلُّوكُمُ ٱلۡأَدۡبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ ١١١) وقال: (لَا يُقَٰتِلُونَكُمۡ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرٗى مُّحَصَّنَةٍ أَوۡ مِن وَرَآءِ جُدُرِۢۚ بَأۡسُهُم بَيۡنَهُمۡ شَدِيدٞۚ تَحۡسَبُهُمۡ جَمِيعٗا وَقُلُوبُهُمۡ شَتَّىٰۚ) وقال: (وَلَا تَهِنُواْ فِي ٱبۡتِغَآءِ ٱلۡقَوۡمِۖ إِن تَكُونُواْ تَأۡلَمُونَ فَإِنَّهُمۡ يَأۡلَمُونَ كَمَا تَأۡلَمُونَۖ وَتَرۡجُونَ مِنَ ٱللَّهِ مَا لَا يَرۡجُونَۗ)، هذه الآيات وغيرها تفضح العدوّ وتسلبه ناموسه وهيبته وتجعله كتابًا مفتوحًا، مداده الجبن والوهن والهزيمة الحتميّة. هذه هي العقيدة العسكريّة للجيش الإسلامي وهذه هي جذورها العقائديّة وثمارها الميدانيّة التي أثّثت التّاريخ الإسلاميّ بملاحم وبطولات يستعصي على العقل تصديقها، فكيف استطاع الكافر المستعمر استهدافها؟
الاستعمار على خط ضرب العقيدة العسكرية:
1- استهداف شخصيّة الأمّة: وما كان لهذه المعادلة الذّهبية ومفعولها السّحري على التحكّم في الجيوش الإسلامية أن تغيب عن رؤوس الكفر ودهاقنة الاستعمار؛ لا سيّما وقد خبروا طوال قرون من الصّراع تأثير العقيدة العسكريّة الإسلاميّة على الطّاقة القتاليّة للجندي المسلم ونجاعته الميدانيّة؛ لذلك فقد أولَوها كلّ الاهتمام وجعلوها على رأس مشاريعهم الهدّامة إلى أن وقعت في حبائل مكرهم الكبّار ودسائسهم الخبيثة؛ فقد استهدفوها ابتداءً، وقبل إسقاط الدّولة العثمانيّة، بالتّحوير والنّسخ والمسخ بأيدي الماسون ويهود الدونمة وجماعة الاتحاد والترقّي وتركيا الفتاة الذين ميَّعوا عقيدته العسكريّة القتالية، وشوَّهوا مفهوم الولاء والبراء لديه بسموم القوميّة والتتريك والوطنيّة العفنة بما زجّ بالأمّة في أتون من الصّراعات الداخليّة؛ ما أنهك جسدها وخضَّد شوكتها وأصابها في مقتل. ثمّ استهدفوها بعد هدم الخلافة ونشوء الكيانات الوطنيّة بالوضع والصّياغة أو بالتعهّد والتركيز بما جنّد جيوش الأمّة لمصلحة الأعداء ووظّفها لحراسة أقفاص سايكس بيكو وقمع شعوبها ووأد نفَسها الإسلامي وفتح بلادها للنهب والمسخ. ولأنّ الحصون المنيعة لا تؤخذ إلاّ من الدّاخل، ولأنّ الجيش الإسلامي جزء من الأمّة الإسلاميّة؛ فقد مهّدوا لضرب عقيدته العسكريّة باستهداف شخصيّة الأمّة الاعتباريّة عقليةً ونفسيّةً؛ فعملوا على اختراق كيان المسلمين فكريًّا وسياسيًّا بالغزو الثقافي التبشيري المتستّر بالعلم والتطبيب والتحديث وتبادل الخبرات. ثمّ تولّت دول الانتداب مسخ الشعوب الإسلاميّة ومحو شخصيّة المسلمين وإعادة صياغة تفكيرهم وميولهم وولائهم على أساس الثقافة الغربيّة والرّوابط العرقيّة والقوميّة والوطنيّة والمذهبيّة بديلًا عن رابطة العقيدة الإسلاميّة والولاء لدولة الخلافة، مستخدمين في ذلك مناهج التعليم ووسائل الإعلام والنّخب العلمانيّة المرتهنة ورجال الدّين المضلّلين وكمًّا هائلًا من المناورات السياسيّة والعسكريّة. ولأنّ الجيوش من جنس شعوبها فقد ذلّلت هذه الخطوة المسمومة مهمّة استهداف عقيدتها العسكريّة وجعلتها تكلّل بنجاح منقطع النّظير، ناهيك وقد أضحت حربًا على أمّتها سلمًا لأعدائها. فكيف استطاع الكافر المستعمر تحقيق هذه المعادلة الصّعبة؟ وما هي تداعيات ذلك على واقع الأمّة ومستقبلها؟
2- علم الاجتماع العسكريّ: إزاء هذه المهمّة التي تبدو للوهلة الأولى مستحيلة، تسلّح الكافر المستعمر بما أثبتت التجارب الميدانيّة صحّته من نظريّات علم الاجتماع العسكري، فتولّى إعادة هيكلة الجيوش في بلاد المسلمين بشكل جذري – عقيدةً وولاءً وبنيةً وتنظيمًا وتدريبًا وتسليحًا ووظيفةً – ونفخ في جسد المؤسّسة العسكريّة الإسلاميّة روحًا غريبة عنها متنافرة معها إلى حدّ الشّطط، وجعل من عقيدتها العسكريّة والقتاليّة مخالفة لعقيدتها الدّينية بما أصاب شخصيّتها الاعتباريّة بشبه انفصام؛ فأفكارها أضحت غير ميولاتها ومشاعرها منفصلة عن إدراكها، فاستحالت أداة صمّاء بكماء في يد الاستعمار، ومعول هدم ذاتيّ فتّاكًا وعازلًا ماديًّا بين الأمّة وأعدائها وبينها وبين جلاّديها من الحكّام الخونة العملاء في مفارقة عجيبة وغريبة؛ فقد نسخ الكافر المستعمر مفهوم الولاء والبراء الذي يسيّر تلك الجيوش وحرف مقياس الأعمال ومفهوم السّعادة لديها وغيَّر اعتبارها للمصلحة ونظرتها للحياة والموت. كما عمل جاهدًا على تبليد حسّها وذوقها وإضعاف همّتها وقتل روح الشجاعة والتضحية والفداء لديها بما حوّلها إلى آلات قتل مأجورة تحت الطّلب وقطيع عسكريّ يركض وراء المصالح الدنيويّة، رائده في ذلك اللّذّة والمتعة والرّبح المادّي، يحتفي بالألقاب والنياشين والحوافز والترقيات والعلاوات والانتصارات الوهميّة على شعبه وجيرانه من الأمّة الإسلاميّة. وحرفها عن مهمّتها الرّساليّة النّبيلة (الفتح والجهاد في سبيل الله) بما حوَّل أحفاد الإنكشاريّة ليوث الوغى وأسود الشّرى إلى مجرّد جوقة لتأثيث الاستعراضات والمواكب الجوفاء ومدد يكلّف زمن السّلم بمهامّ الحماية المدنيّة ورجال المطافي وحفظ النّظام العامّ. أمّا عن عقيدتها القتاليّة التي أرعبت أعتى الجيوش وأثّثت أبهى الانتصارات عبر التّاريخ فقد حوّلها الكافر المستعمر من عقيدة هجوميّة إلى عقيدة دفاعيّة أصبح بمقتضاها الجيش الإسلامي الجهادي الرّسالي الفاتح جيشًا وطنيًّا جمهوريًّا وظيفته المحافظة على أقفاص سايكس بيكو وحماية النّظام الجمهوري وأشخاص الحكّام والدّفاع عن ثقافة الغرب وأنظمته ومفاهيمه ومصالحه وحدوده الوهميّة التي رسمها لتفتيت المسلمين وخِرَقِه التي صمّمها وجعلها أعلامًا بديلةً عن راية رسول الله صلى الله عليه وسلم.
3- إحكام القبضة: ولتأبيد هذا الوضع وحماية نفسه من صحوة ضمير مفاجئة تعيده إلى المربّع الأوّل، عمد الكافر المستعمر إلى مصادرة عقول تلك الجيوش ومواقفها السّياسيّة، فأشربها كره الإسلاميّين والتوجّس منهم ونَسَج خيوط العداء المستحكم بينهما (إرهابيّين/أعوان طاغوت) وحرص على حيادها السّلبي وعزلها عن الشّأن السياسيّ وعن التّداول على السّلطة في البلاد، وجعل منها مكوِّنا ثالثًا لا لون له ولا طعم ولا رائحة، مزروعًا في خاصرة الأمّة يردع به المكوّنين الأساسيّين (الشّعب والسّلطة) ويلزمهما بموقف الاستعمار ومشاريعه ومصالحه. كما عمد إلى بنيتها وهيكليّتها فكرّس فيها التراتبيّة الصّارمة، وأثّث مفاصل تلك التراتبيّة بالأشخاص الأكثر ولاءً له والأبعد عن الشخصيّة الإسلاميّة والأقلّ احتضانًا من الشعوب على غرار الأقليّات العرقية والمذهبيّة (النّصيرية في سوريا، والقاديانيّة في باكستان، والسنّة في البحرين نموذجًا) ليكون ولاؤها له أعمى وارتباطها به حيويًّا ارتباط الجنين بالحبل السرّي لأمّه، ثمّ أسندها بنظام تأديبيّ عقابيّ صارم لردع كلّ من تسوّل له نفسه رفض الأوامر العسكريّة مهما كانت جائرة ولا إنسانيّة أو مخالفة للعقيدة الإسلاميّة ومجانبة لمصلحة المسلمين. ولمزيد تعميق الهوّة بين الجيش والأمّة عمد الكافر المستعمر إلى توريط الجيوش مع شعوبها (رابعة – العشريّة السّوداء في الجزائر – حماة – الأمن الوقائيّ الفلسطينيّ) ومع جيرانها من الشّعوب الإسلاميّة في مناورات عسكريّة دمويّة لبناء حاجز نفسيّ بين الأمّة وشوكتها يحول دون التحامهما ضدّه (العراق وإيران – المغرب والجزائر – السعوديّة واليمن – سوريا ولبنان – ليبيا وتشاد – مصر وليبيا – العراق والكويت – باكستان وأفغانستان – مصر والسّودان)، كما عمد إلى عزل العسكريّين والأمنيّين في شبه (غيتوات) منفصلة عن الشّعب وأسّس لهم مدنا خاصّة بهم (السعوديّة نموذجًا) ونقَّاهم من كلّ ما تشتمُّ فيه رائحة الإسلام وتتبّعهم حتّى في أصهارهم وزوجاتهم (تونس نموذجًا). كما أطلق أيديهم في اقتصاد البلاد وأغرقهم بالمنافع الماديّة ولوّثهم بالجشع الرّأسماليّ ليتعمّق ولاؤهم الدّائم له ويتماهى مع مصالحهم الشّخصيّة فيستميتون في الدّفاع عنه وعن مصالحه بوصفها ضمانة لمصالحهم تدور معها حيث تدور وجودًا وعدمًا (الجيش المصريّ نموذجًا).
4- نزع المخالب: وللحيلولة دون خروجها عن السّيطرة أو استغلال الإسلاميّين لها في مشروعهم عمد الكافر المستعمر إلى قصقصة أجنحة تلك الجيوش ونزع مخالبها فحال دونها والتخصّصات القتاليّة الخطيرة (الطّيران – البحريّة – الغوّاصات – التكنولوجيا النوويّة) وعمل على استمالة واستقطاب النّوابغ منها بالإغراءات الماديّة أو يتولّى تصفيتهم جسديّا (علماء البرنامج النوويّ العراقي والمصريّ – محمّد الزواري). كما ربطها بالغرب ربطًا محكمًا وجعلها عالة عليه مرتهنة إليه – تعليمًا وتقنيةً وتسليحًا وتدريبًا ومناورات – فلا يسلّحها ولا يمدّها بالتكنولوجيا العسكريّة إلاّ بقدر المهامّ المنوطة بعهدتها: فإن كانت هذه المهمّة حماية النّظام القائم من شعبه زوّدها بأسلحة حرب الشّوارع والمدن (رشّاشة شطاير للجيش التونسيّ نموذجًا)، وإن كانت مجرّد مناورة عسكريّة لحماية كيان يهود زوّدها بأسلحة مغشوشة (الجيش الأردنيّ في حرب 1948م) أو تولّى بنفسه إتلاف ترسانتها العسكريّة (الطيران المصريّ في حرب 1967م) أو جعلها تدفع ثمنها ولا تُحسن استخدامها ولا تتصرّف فيها (طائرات الأواكس السعوديّة)، وإن كانت مسرحيّة عسكريّة لامتصاص غضب الأمّة وتثبيت كيان يهود أطلق العنان لعقيدتها الإسلاميّة وزوّدها بأفضل الأسلحة (حرب 1973م وفرض معاهدة كامب ديفيد).
أمّا إذا ما كانت مهمّتها الدّاخليّة أو الإقليميّة جسيمة ومتعلّقة بمصالحه الحيويّة والصّراع الدوليّ على النفوذ والمناطق الجيوستراتيجيّة ومكافحة الإسلام السياسيّ فإنّه يزوّدها بأعتى الأسلحة وأشدّها فتكًا بعد أن يكبِّلها بالضَّمانات التي تقصر استعمالها على تلك المهمّة فحسب (صواريخ ستنغر للمجاهدين الأفغان لدحر الجيش السوفياتي – السّلاح الكيماوي السّوريّ لإبادة المطالبين بالخلافة – السّلاح النوويّ الباكستانيّ لردع الهند والصّين – مشروع السّلاح النوويّ الإيرانيّ فزّاعة للقطيع السنّي تدفعه إلى حضن الاستعمار) وهكذا… وما كان للكافر المستعمر أن يقدم على مثل هذه المغامرات الخطيرة وغير مأمونة العواقب عليه وعلى كيان يهود لولا إحكام قبضته على العقيدة العسكريّة لتلك الجيوش، ناهيك وأنّها تكدّس الترسانات المرعبة على مرمى حجر من كيان يهود دون أن تحرّك ساكنًا حتّى لاسترداد ما اغتصبه من أرضها (هضبة الجولان – رفح) ولم تستعملها إلاّ ضدّ شعبها المسلم (مصر – سوريا – العراق – السعوديّة) أو لتحقيق مشاريع الاستعمار على جثث المسلمين (الحرب العراقيّة الإيرانيّة – التحالف العربيّ في اليمن – الجيش التّركي في سوريا وليبيا).
5- وبالمحصّلة: على هذا الأساس أجمعت دساتير بلاد المسلمين كلّها في موادّها المتعلّقة بالشّأن العسكريّ على ستّة ثوابت: أوّلها: فصل الدّين عن العقيدة العسكريّة للجيش. ثانيها: التزام الجيش بمحاربة الإرهاب/الإسلام بجميع أشكاله وحماية أراضي الدّولة من أن تكون مقرًّا أو ممرًّا أو ساحة لنشاطه. ثالثها: أن لا يتدخّل الجيش في الشّأن السياسي. رابعها: أن لا يكون للجيش دور في التّداول على السّلطة. خامسها: أن يلتزم الجيش بمبدأ حسن الجوار مع الدول المجاورة وأن لا يتدخَّل في شؤونها الدّاخليّة. سادسها: أن يحترم الجيش التزاماته الدوليّة مهما كانت الظّروف. هذا فضلًا عن بعض الفصول الخاصّة بكلّ دولة حسب وضعيّتها وواقعها وظروفها. هذه هي العقيدة العسكريّة التي ركّزها الكافر المستعمر في جيوش بلاد المسلمين الحاليّة، وواضح من خلال ثوابتها أنّ الاستعمار قد صاغ من خلالها شخصيّة الجنديّ المسلم ومؤسّسته العسكريّة صياغة خبيثة جعلتها طوع بنانه ورهن إشارته؛ فقد صادر عقيدتها الدينيّة ونسخ مبدأ الولاء والبراء لديها وغيّر اعتبارها للمصلحة والمفسدة ونظرتها للعدوّ والصّديق ورهنَها إليه تسليحًا وتدريبًا. كما صادر عقلها ورأيها وموقفها السياسيّ وعزلها عن محيطها الإقليميّ وعن شعوبها وأمّتها وجيَّرها – وظيفةً ودورًا – لخاصّة نفسه وقود احتراب في صراعه الدوليّ على مقدّرات الشّعوب، وحوّلها إلى مجرّد أداة ماديّة صمّاء بكماء لحماية مصالحه وعملائه وتحقيق مشاريعه الهدّامة المستهدفة للإسلام والمسلمين وللمحافظة على تمزيق الأمّة وكتم أبسط نفس أو تطلّع إسلاميّ فيها والحيلولة دون اتّحادها على أساس العقيدة الإسلاميّة. وبالمحصّلة فقد سيطر الكافر المستعمر على شوكة الأمّة وفصم شخصيّتها العسكريّة واستعداها على دينها وحضارتها وثقافتها وشعوبها وحوّلها إلى جثث هامدة لا روح فيها ولا خير يُرجى منها، ثمّ جعلها تستعمر نفسها بنفسها استعمارًا ذاتيّا بقفّازات محليّة.
وما كان لهذه المفارقة العجائبيّة العصيّة عن التّصديق أن تتحقّق لولا تحكّمه في عقيدتها العسكريّة بحيث استقرّت بها الحال على الشّكل التّالي: علمانيّة بالأساس وطنيّة في العموم مع بعض الاستثناءات (قوميّة – مذهبيّة)، عدوّها المشترك الإسلام السياسيّ، وسياستها – داخليًّا وإقليميًّا ودوليًّا – تدور مع مصلحة أسيادها الغربيّين حيث تدور، ما جعل منها حربًا على الأمّة سلمًا لأعدائها. فهل نستغرب بعد كلّ هذا أن تُحجم جيوش المسلمين عن نجدة إخوانهم في غزّة ونصرتهم على كيان يهود الغاصب؟!.
إلى حضن أمّتها من جديد
1- في دائرة الممكن: بعد تحقيقنا لمناط جيوش المسلمين وتشخيصنا للدّاء الذي ينخر تركيبتها ويشلّ حركتها ويجفّف نبع الخيريّة فيها ويستعديها على أمّتها ويحرفها عن رسالتها النّبيلة ويجيّرها لخدمة الأعداء، نصل الآن إلى السّؤال المركزيّ: هل من سبيل لكسر هذا الطّوق الاستعماريّ المضروب حول جيوش المسلمين وإعادتها إلى حضن أمّتها وتسخيرها لخدمة قضاياها المصيريّة؟ وهل هذه المهمّة متيسّرة داخلة في دائرة الممكن أم أنّها عصيّة واقعة في دائرة المستحيل؟ وقبل الإجابة نؤكّد ابتداء أنّ ما قام به الاستعمار مع جيوش المسلمين ليس من قبيل الخوارق والمعجزات ولا يتطلّب شخصيّات نوعيّة لتحقيقه؛ لا سيّما بالنّظر إلى غياب الدّولة وحجم الخيانات وواقع الجهل والتخلّف والفقر والبعد عن الفهم الصّحيح للإسلام الذي ساد الأمّة في تلك الحقبة. فالعقيد (لورانس) ليس شخصًا خارقًا بنجاحه في إثارة أعراب الجزيرة ضدّ دولتهم الإسلاميّة، وإنّما عزف على وترهم الحسّاس بتحوير طفيف في مبدأ الولاء والبراء لديهم (من خلافة إسلاميّة إلى خلافة عربيّة) بما أودى بالأمّة إلى المهالك، وقس على ذلك ما قامت به فرنسا وروسيا وإيطاليا من توظيف جيوش المسلمين في إخضاع بلاد الإسلام. فهذا الإنجاز الجريمة داخل في دائرة الممكن السياسيّ بامتياز، فقد طبّق الاستعمار نظريّات علم الاجتماع العسكريّ على جيوش المسلمين وسبر أغوارها وعرف من أين تؤكل كتفها وسخّر العملاء وأغدق الأموال ومسك بالخيوط التي تحرّك المؤسّسة العسكريّة، ثمّ أحكم القبضة على لوحة القيادة للمقاتلين المسلمين ألا وهي عقيدتهم العسكريّة القتاليّة، فصاغ شخصيّتهم العسكريّة – عقليّة ونفسيّة – بما يتنافر مع معتقدهم الدّيني ونسخ مبدأ الولاء والبراء لديهم وغيَّر اعتبارهم للمصلحة العامّة وحرف نظرتهم للحياة والموت ونسخ مفهومهم للسّعادة فأضحوا طوع بنانه ورهن إشارته.
2- تشخيص العلّة: إنّ موقف جيوش المسلمين المتخاذل والمتواطئ من قضايا المسلمين عمومًا ومن أحداث غزّة خصوصًا لا يعبّر البتّة عن حقيقة مواقفهم ومشاعرهم، فهم يمرُّون بحالة امتعاض شديدة وينفِّذون التّعليمات الجائرة مرغمين على مضض تحت تهديد الجهاز العقابيّ الصّارم، كما يتحرَّقون شوقًا لنجدة إخوانهم في غزّة وتحطيم كيان يهود؛ إلاّ أنّهم عاجزون عن كسر الهيكليّة التراتبيّة المحكمة التي تحول دون تحريك الجيش بأكمله، والأعمال الفرديّة غير مجدية وهي مجهضة ابتداء ومآلها الإعدام. ففي الواقع إنّ المؤسّسة العسكريّة برمّتها هي التي تتحمّل مسؤوليّة الخذلان، وما الجنود وصغار الرّتب إلاّ سنّ في دولابها يدورون معها حيث تدور بوصفهم أدوات تنفيذ لا مصدر قرار. الملاحظة نفسها تعمّم على قادة الجيوش وأصحاب الرّتب العليا إلا من شذَّ منهم، لكن مع وقوعهم تحت تأثير الوازعين العقائديّ والإنسانيّ إلا أنّ قراراتهم تصطدم بعائقين: عائق المبادرة، فهم يتدافعون المسؤوليّة فيما بينهم وينتظرون مبادرة غيرهم بتأثير غريزة البقاء واستجابتهم مضمونة، وحاجز الارتماء في المجهول، فهم يتساءلون عن المآلات والضمانات وعمّا بعد التحرّك، ويبحثون عن جهة قويّة يستندون إليها ولا يريدون أن تكون مبادرتهم مجرّد ردّ فعل غريزيّ غير مأمون العواقب.
إنّ الجيوش الإسلاميّة – كانت وما زالت وستظلّ – تنضح بنبع من الخيريّة دفّاق ما دام صمّام الأمان لديها (العقيدة الإسلاميّة) حيًّا نابضًا.
إنّها الجيوش نفسها التي فتحت البلدان ودوّخت الأمم وأسقطت أقوى الإمبراطوريّات وقهرت أعتى الجيوش وأنجبت خيرة الأبطال وحقّقت أبهى الانتصارات. فقط يحول دون شخصيّتها العسكريّة المتميّزة حاجزان: حاجز يكبّل نفسيّتها (الخوف من القتل والتّنكيل والتّشريد وقطع الأرزاق وزوال النّعم والمصالح) وآخر يكبّل عقليّتها (تشويه الإسلام وغياب الفهم الصّحيح لأحكامه وأنظمته).
ومثل هذه الحواجز إزالتها داخل في دائرة الممكن السياسيّ بقوّة، وسبيله مخاطبة العقيدة الإسلاميّة فيهم وإدراكهم صلتهم بالله وتذكيرهم بآخرتهم وترغيبهم في الجنّة وترهيبهم من النّار وتزويدهم بالثّقافة الإسلاميّة الصّافية النقيّة وبالفهم الصّحيح للشرع الإسلاميّ مع تعديل نظرتهم للمصلحة وللرّزق وللأجل ولمفهوم السّعادة بما يصحّح مبدأ الولاء والبراء لديهم ويشحنهم بالطّاقة نفسها التي شحنت خالدًا والقعقاع وقطز وعمر المختار ومقاتلي حماس هذه الأيّام.
وهي مهمّة سهلة مقارنةً بما قام به الكافر المستعمر مع جيوش المسلمين، فهل نعجز عن إصلاح عقيدتهم العسكريّة بما يتجانس مع عقيدتهم الدينيّة حيث نجح الكافر المستعمر في إعطابها وفصمها بما يتنافر مع عقيدتهم الدينيّة؟.
3- خطوات عمليّة: هذا إجمالًا، أمّا تفصيل ذلك فإنّ إحياء مؤسّسة المسلمين العسكريّة ونفخ الرّوح فيها يقتضي محو مقوّمات العقيدة العسكريّة الاستعماريّة من عقول وقلوب المنتسبين إليها وإرساء العقيدة العسكريّة الإسلاميّة فيها، ونحت شخصيّة جيش المسلمين الاعتباريّة عقليّةً ونفسيّةً، وتركيز مجموعة من المبادئ الأساسيّة حول طريقة تفكير القوّات المسلّحة خلال المواقف القتاليّة المتنوّعة تعيّن لها: من توالي، ومن تعادي، ومن تقاتل، وكيف، ومتى، ولِمَ، وإلى أيّ مدى تقاتل، أي بناء عقل المؤسّسة العسكريّة ومشاعرها وأحاسيسها على أساس العقيدة الإسلاميّة لتكون مهيأة للاستقطاب والاستنفار لصالح المشروع الإسلاميّ. وسبيل هذه المهمّة الجسيمة هو الخطاب العقائديّ المباشر والنّاحية العمليّة، أمّا خطواته الميدانيّة فهي كالآتي:
أوّلًا: تكثيف الاتّصال الحيّ المباشر بأشخاص المجنّدين على اختلاف رتبهم واستهداف المساجد القريبة من الثّكنات؛ لانتقاء الخيّرين منهم ورفع هممهم وشحذ عزائمهم واستجاشة حفائظهم.
ثانيًا: تولّي حلّ العقدة الكبرى لديهم وتمييز العقيدة الإسلاميّة عن سائر العقائد الأخرى في سموّها ورقيّها ولدنيَّتها وصحّتها ومطابقتها للعقل وموافقتها للفطرة مع تنقيتها ممّا ران عليها من شوائب وأدران.
ثالثًا: تعريفهم بالمشروع الإسلاميّ لحزب التّحرير واستمالتهم إليه وتوضيح أهميّة الدّور المنوط بعهدتهم (النّصرة) وكونهم في مقام الأنصار وبمثابة سعد بن عبادة رضي الله عنه.
رابعًا: تحسيسهم أنّ وراءهم حزبًا عريقًا ومشروعًا إسلاميًّا عالميًّا وأمّة بأكملها تتحرّق شوقًا لمبادرتهم ومستعدّة للالتحام بهم وتأييدهم حتّى تطمئنّ قلوبهم باستنادهم إلى ركن ركين.
خامسًا: فتح عيونهم وعقولهم على مخطّطات الأعداء التي تطبّق على أمّتهم وتحاك لها لعرقلة مشروعهم الإسلاميّ وتأبيد تخلّفهم واستغلالهم وتبعيّتهم.
سادسًا: تركيز مفهوم الولاء والبراء لديهم حتّى يكون خالصًا لله تعالى فتصغر في عيونهم أوامر رؤسائهم فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
سابعًا: التّرغيب والتّرهيب: بإذكاء شوقهم إلى الجنّة ونعيمها المقيم ونفورهم من النّار وعذابها الدّائم مع ترغيبهم في الشّهادة وما أعدّه الله للشّهداء وأنّهم يترسّمون خطا الصّحابة الأوائل رضوان الله عليهم.
ثامنًا: توضيح مفهوم الرّزق وأنّه خالص من عند الله ولا يملك أحد دفعه أو قطعه أو حتّى جلبه ولو اجتمعت الإنس والجنّ على ذلك إلا بإذنه تعالى حتّى يزول تخوّفهم من قطع الأرزاق.
تاسعًا: توضيح مفهوم الأجل وأنّه السّبب الوحيد للموت وأنّه بيد الله وحده وأنّه إذا جاءهم (فَلَا يَسۡتَٔۡخِرُونَ سَاعَةٗ وَلَا يَسۡتَقۡدِمُونَ) حتّى يزول خوفهم من تهديد الإعدام.
عاشرًا: توضيح مفهوم السّعادة لديهم وأنّ الاطمئنان الدّائميّ الذي ينشدونه لا يتحقّق بالمال أو الجاه والمناصب أو المتع واللذّات الزّائلة بل برضوان الله تعالى الذي لن ينال إلا بالتقيُّد بأوامره واجتناب نواهيه جلّ وعلا.
هذا مع الحرص على تخيّر الوسائل والأساليب والظّروف والوضعيّات حتّى لا نثقل على المستهدفين ونستدرّ نبع الخيريّة الدفّاق الكامن فيهم، والله من وراء القصد وهو حسبي وحسبكم ونعم الوكيل. [انتهى]
2024-08-20