العدد 456 -

السنة التاسعة و الثلاثون،  محرم 1446هـ الموافق آب 2024م

في العقيدة العسكريّة… ما الذي يحول دون نصرة جيوش المسلمين لغزّة؟ (1)

الأستاذ بسّام فرحات

 ولاية تونس

مرّةً أخرى تصبّ الحسابات السّياسيّة لكيان يهود في خانة العدوان على غزّة بوصفه شعارًا يستهوي الوسط السياسي ويوحّد كافّة أطيافه وينعش الرّصيد الرّوحاني الدّيني لشعب تقتات ذاكرته الدّموية على مذابح (يشوع وطالوت وداود) ضدّ القبائل الكنعانيّة باعتبارها (أمجادًا تاريخيّة).

قد تختلف التّسميات (عناقيد الغضب – حرب الفرقان – الرّصاص المسكوب – غلاف غزّة) إلاّ أنّ المسمّى يبقى واحدًا: سيناريو عسكريّ دمويّ وحرب وحشيّة شرسة غير متكافئة من طرف واحدٍ تشنّها القوّة العسكرية السادسة عالميًّا والعضو في النادي النوويّ على بقايا شعبٍ مشرّد أعزل، تَستعمل فيها (الدّيمقراطيّة الوحيدة في الشّرق الأوسط) أعتى أنواع الأسلحة وأبشع أشكال الإبادة الجماعيّة، لتكشف عن حجم الحقد والبغض والقسوة والإجرام والتشفّي وسائر المخازي التي ضاقت بها الشّخصيّة اليهوديّة حتّى طفح كيلها. فللشّهر السّابع على التوالي تتواصل فصول المذبحة المفتوحة التي يشنّها كيان يهود على غزّة هاشم وأهلها المرابطين العزّل بساديّة مقرفة طالت الحجر والشّجر والإنسان والحيوان، لتسفر إلى حدود كتابة هذه الأسطر عن 40 ألف شهيد و80 ألف جريح معظمهم من الرضّع والأطفال والنّساء والشيوخ مع دمار شامل للبنية التحتيّة. والمعضلة أنّ هذا التّجفيف الممنهج لمقوّمات الشّعب الغزّاويّ يحدث على الهواء بأعين العالم الحرّ ووحيه ودعمه، وبتواطؤ ومباركة مخزيين من الأنظمة العربيّة التي لم تكتفِ بالتّقاعس عن واجب النّصرة، بل لم تتورّع عن دعم كيان يهود لوجستيًّا وإمداده بأسباب الحياة (الغذاء والمحروقات). وإحقاقًا للحقّ فإنّ هذا السّلوك الذي تستنكف عنه الوحوش في آجامها يفتقر إلى عنصر المفاجأة؛ فما هو إلاّ غيض من فيض إجرام بني إسرائيل الذين لم يزيدوا عن تكرار أنفسهم بحرفيّة ما فتئت تجوّد أداءها من مذبحة إلى أخرى، إلى أن التحمت بالمشروع التّوراتيّ (إسرائيل الكبرى) في أهمّ وأبشع مفصل من مفاصله (التّهجير/الترانسفير) الذي يفترض التّطهير الإثني والعرقي لنقطة ارتكاز (إسرائيل الكبرى) ألا وهي الأرض المباركة فلسطين. لكن (ربّ ضارّة نافعة)، فمن مزايا هذا العدوان الغاشم أنّ الأمّة الإسلاميّة بدأت تستعيد ثقتها في جيوشها وتتوجّه إليها بالخطاب بعد عقود من الجفاء وانعدام الثّقة والعداء المستحكم. فهل المؤسّسة العسكريّة في بلاد المسلمين جديرة بهذه الثّقة مهيّأة لها؟ وإن لم تكن كذلك، فكيف السّبيل إلى استنقاذها من براثن الاستعمار واستعادتها إلى حضن أمّتها واستنفارها للذّود عن قضاياها؟

عزل الأمّة عن شوكتها

1- تثبيط وتيئيس: فمنذ أواسط القرن المنصرم، دأب خطاب التّثبيط والتّيئيس – الرسمي منه كما الحزبيّ والشّعبي – على تقزيم جيوش الأمّة والتّهوين من شأنها والطّعن في قدراتها القتاليّة، بل والتّشكيك في ذمّتها بوصفها إمّا طاغوتًا كافرًا تحرُم الاستعانة به أو أداة لقمع الشّعوب وحماية الحكّام العملاء، فلا يرجى منها خير ولا يحصل التحرّر إلا بإزالتها. والملاحظ أنّ هذا الادّعاء المسموم مخالف أوّلا للسُّنن الاجتماعيّة والنّواميس السياسيّة: فالتحرُّر والانعتاق من ربقة الاستعمار لا يتحقّق على أرض الواقع إلاّ إذا كان مدعومًا بشوكة عسكريّة تسنده وتحميه وتزيل الحواجز الماديّة التي تحول دونه. فالوعي والرّغبة وحدهما – بمعزل عن أهل القوّة والمنعة – لا يكفيان لإحداث التّغيير المنشود، والكيانات الماديّة العسكريّة لا تزيلها عمليًّا إلا كيانات عديدة من جنسها. وهو أيضًا مخالف لواقع تلك الجيوش: فهي جزء لا يتجزّأ من الأمّة الإسلاميّة مؤثَّثة من خيرة أبطالها الذين يقاسمونها همومها وانتصاراتها ويغارون مثلها على المقدّسات، ويتوقون إلى التحرّر وإعلاء كلمة الله. صحيح أنّ المؤسّسة العسكريّة في بلاد المسلمين معادية للدّين بامتياز وأنّها غير مهيّأة – سياسيًّا ونفسيًّا وعقائديًّا – لا لطلب النّصرة ولا لنجدة المسلمين، فهي أداة لقمع الشعوب ومحاربة الله ورسوله وحماية مصالح الاستعمار وتنفيذ مشاريعه وتثبيت عملائه على العروش، ولكن يجب التّفريق هنا بين المؤسّسة العسكريّة بوصفها جهة رسميّة وصنيعةً استعماريّة – إنشاءً وتدريبًا وتسليحًا وولاءً – وبين أشخاص العسكريّين بوصفهم جزءًا من الأمّة الإسلاميّة يشاطرونها العقيدة والغيرة على الدّين والاكتواء بنار الرّأسماليّة، فيمكن بالتّالي مخاطبة العقيدة الإسلاميّة الكامنة فيهم وإثارة امتعاضهم من فساد الوضع القائم واستمالتهم لصفّ المشروع الإسلاميّ.

2- مناورة استعماريّة: لذلك فقد سعى الكافر المستعمر إلى تحييدها عن حراك أمّتها وتوظيفها لإخضاع شعوبها وكبح جماحها والحيلولة دونها واستئناف الحياة الإسلاميّة. وكان واضحًا أنّها مناورة استعماريّة خبيثة لفصل الأمّة عن شوكتها وعزلها عن جيوشها وبناء حاجز (نفساسياسيّ) يفصلها عن مصدر القوّة والمنعة فيها لتأبيد تبعيّتها وإحباط أيّ نفس تحرّريّ لديها، وللمفارقة أنّها وجدت ما يذكيها ويصدّقها عمليًّا ميدانيًّا على أرض الواقع، ودونكم أحداث غزّة: فرغم أنّ فظاعات يهود الوحشيّة قد أثارت الاعتبارات الإنسانيّة لدى الأعداء أنفسهم – أنظمةً وشعوبًا – وحرّكت كبرى مدن القارّة العجوز، بل وكسرت حاجز الرّأي العامّ الغربيّ الموالي تقليديًّا لليهود في أعتى قلاع الصّهيونيّة وكبرى جامعات النّخبة السياسيّة الأمريكيّة والأوروبيّة، إلا أنّها ظلّت صرخة في قعر وادٍ، ولم تجد آذانًا صاغية لدى جيوش المسلمين الذين انخرطوا في قمع تحرّكات شعوبهم ومشاركة كيان يهود حصار الغزّاويّين والتّنكيل بهم. إنّ هذه المعطيات الصّادمة العصيّة على التّصديق تخلخل مسلّماتنا العقائديّة وتثير فينا تساؤلات محرقة: ما الذي يحول دون نصرة جيوش المسلمين لإخوانهم في غزّة؟ ألا توحّدهم العقيدة الإسلاميّة؟ ألا تجمعهم حتّى الرّوابط المنحطّة العرقيّة والقبليّة والوطنيّة؟ ألا تستفزّهم صيحات الثكالى والأرامل وأنين المغتصبات وبكاء الأطفال والرضّع وتحرّك فيهم النّخوة والعزّة والنّجدة؟ ألا تثير فيهم مناظر الدّماء والأشلاء والجثث المتفحّمة والمتحلّلة حتّى المشاعر الإنسانيّة؟ أيقدم جنديّ أمريكيّ نصرانيّ على الانتحار حرقًا احتجاجًا على فظاعات يهود ويحجم جنديّ مسلم على الذّود عن أعراض المسلمين ودمائهم؟!

لوحة القيادة

1- شخصيّة الجيش المعنويّة: ورغم عواصة هذه الأسئلة وقيامها على مفارقات عجيبة، فإنّ الإجابة عنها بسيطة ومنطقيّة بل ساذجة. لقد تحكّم الاستعمار في لوحة القيادة للمقاتلين المسلمين ألا وهي عقيدتهم العسكريّة القتاليّة فأضحوا طوع بنانه ورهن إشارته: فتمامًا كما أنّ للإنسان شخصيّةً ماديَّةً حقيقيّةً متكوّنة من عقليّة ونفسيّة تحدّد تفكيره وإدراكه وميوله وسلوكه ونظرته للمصلحة ودرجة رقيّه، فإنّ للأمم وللجيوش أيضًا شخصيَّةً معنويَّةً افتراضيّة اعتباريّة لها مكوّنات شخصيّة الإنسان نفسها ونفس التأثير على واقعها وصفتها – فكرًا وإدراكًا وسلوكًا وميولًا ومصلحَةً ورقيًّا – ولا يخفى علينا هنا ما للقاعدة الفكريّة المعتمدة في القياس حين ربط الواقع بالمعلومات والدّوافع بالمفاهيم من أهميّة قصوى وأثر فعّال في تكوين الشخصيّة بشقّيها تكوينًا متميّزًا؛ فهي التي تبلور المعنى ليصبح مفهومًا يدفع ويعيّن السّلوك، وهي التي تبلور الدّفع ليصبح ذوقًا وميلًا يحدّد كيفيّة الإشباع. هذه المعادلة (النفسا – ثقافيّة) منزّلَةً على واقع القوّات المسلّحة تُترجم بمصطلح (العقيدة العسكريّة للجيش)؛ فهي بمثابة القاعدة الفكريّة التي تعتمدها المؤسّسة العسكريّة في القياس والتي تنحت معالم شخصيّتها الاعتباريّة عقليّة ونفسيّة، فتزوّدها بمجموعة من المبادئ الأساسيّة حول طريقة تفكير الجيوش خلال المواقف القتاليّة المتنوّعة بما يضمن نجاعتها وولاءها وطاعتها وانضباطها وانقيادها، ولكن للطّرف الذي يحدّد عقيدتها العسكريّة وهذا مكمن المعضلة.

2- مفاتيح الجيوش: فللجيوش الحديثة ثلاثة مفاتيح تُمكّن من التحكّم فيها (البناء الهرمي التّراتبي – النظام العقابي الصّارم – العقيدة العسكريّة)، هذا الثالوث هو بمثابة لوحة القيادة التي تمكّن من إخضاع المؤسّسة العسكريّة وتسييرها وتوجيهها وتوظيفها لتحقيق الأهداف السياسيّة للدّولة وضمان أمنها ومصلحتها العليا.

 وإنّ ذوي الرّتب العسكريّة العليا يحتكرون الوصفة السحريّة للسيطرة والقيادة (الولاء التّام – الطّاعة العمياء – الانقياد الكلّي)، وهي في نسختها العسكريّة الحديثة قائمة على تنظيم إداري محكم وجهاز تأديبي عقابي صارم؛ فالمؤسّسة العسكريّة مبنيّة بناءً هرميًّا تراتبيًّا ينطلق من الأعلى إلى الأسفل في شكل تنظيم هيكليّ شجريٍّ متفرّعٍ تتحكّم في مفاصله قيادات ورتب مختلفة، وكلّما نزلنا في الرتبة اتّسعت القاعدة والعكس صحيح (لواء – فريق – عقيد – ملازم… وصولًا إلى الجنديّ) بحيث يكفي استهداف الرّتبة المناسبة واستمالتها للسيطرة على المؤسّسة برمّتها أو على أجزاء واسعة منها (فرق – ألوية – كتائب). وهذه القيادات طاعتها واجبة وأوامرها مستجابة ممّن هم دونها رتبةً (دون تردّد ولا ترمرم) تحت طائلة العقاب الشديد الذي قد يصل حدّ الإعدام لا سيما إذا كانت البلاد في حالة حرب (خيانة عظمى). وهذا ممّا يحبط نيّة التمرّد لدى العمود الفقري للجيش ومكوّنه الأساسيّ (الجنود) ويساهم في تطويعهم وتوظيفهم.

3- الرّكن الأساسيّ: وممّا لا شكّ فيه أنّ أهمّ ضلع في هذا الثالوث هو العقيدة العسكريّة لأنّه هو الذي يصوغ الناحية الفكريّة الثقافيّة المبدئيّة للجيوش، وما الضلعان الآخران إلاّ مكمّلان له تنظيميًّا وإداريًّا؛ فهناك علاقة جدليّة ترابطيّة بين مبدأ الجيش وثقافته وعقيدته وبين طاعته وخضوعه والتزامه، وتأثير العقيدة العسكريّة على ولاء الجيش ونجاعته كبير وحتميّ وآليّ؛ فهي التي تملي تلك النّواحي وتوجب الالتزام بها وتحدّد مدى الخضوع لها، فالعسكريّ مهما كانت رتبته يبقى إنسانًا وكائنًا بشريًّا، قبل كلّ شيء سلوكه مرتبط بمفاهيمه عن الحياة ومقاييسه وقناعاته، فهي تعيّن له نوع المشاعر التي تدفع وكيفيّة السّير، وبحسبها ينظّم مصالحه وينشئ علاقاته مع غيره. من هذا المنطلق شكّلت العقيدة العسكريّة الركن الأساسي في رسم السياسة العسكريّة لأيّ تجمّع بشري بصرف النّظر عن تطوّره أو تخلّفه (إمبراطوريّة – دولة – قبيلة – عصابة)، ولا يمكن لأي شكل من أشكال التنظّم العسكريّ أن يتحرّك ويحقّق أهدافه دون عقيدة عسكريّة مهما كانت منحطّةً أو غريزيّة (سلب ونهب – ثأر وانتقام) المهمّ أن يتحرّك وفق فكرة ورؤية ووجهة نظر وغاية يروم تحقيقها، وإلاّ عمّت الفوضى وانعدم التّجانس وكانت الهزيمة والفشل. فلا مناص إذًا لمن يريد بناء جيش أو كسب ولائه وتأييده ونصرته من استهداف عقيدته العسكريّة – إن بالوضع والصّياغة أو بالتعهّد والتركيز أو بالتحوير والنّسخ – هذا إجمالًا، أمّا تفصيل ذلك فيقتضي منّا الإجابة عن التّساؤلات التالية: ما المقصود بالعقيدة العسكريّة؟ ما هي مستوياتها ومصادرها؟ ما مكانة الجانب الثقافي المبدئي فيها؟ ما علاقتها بالعقيدة السياسيّة للدولة؟ كيف تساهم في السيطرة على الجيوش وتطوير نجاعتها القتاليّة؟ كيف يمكن استهدافها وتوظيفها؟

في العقيدة العسكريّة

1- حدّها وتعريفها: ككلّ أمر ذي شأن وأهميّة قصوى عُرِّفت العقيدة العسكريّة تعريفات شتّى تناولتها من عدّة زوايا (فنيّة – تقنيّة – إجرائيّة – استراتيجيّة – سياسيّة – أخلاقيّة – عقائديّة) ورغم تعدّد هذه التعريفات فإنّها تشترك جميعها في خطّ عريض يدور حول العقيدة السياسيّة للدّولة وأمنها القومي وسياستها العسكريّة العامّة، كما تشترك في الإجابة عن التّساؤلات المركزيّة التّالية: متى نقاتل؟ من نقاتل؟ مع من نقاتل؟ كيف نقاتل؟ لِمَ نُقاتل؟ حتّامَ نقاتل؟ أمّا أوجز وأشمل تعريف للعقيدة العسكريّة فهو (فنّ وعلم إدارة الصّراع المسلّح لتحقيق العقيدة السياسيّة للدّولة)، وهو تعريف يجعل من العقيدة العسكريّة خادمًا وحاميًا ومؤمّنًا ومكرّسًا للعقيدة السياسيّة للدّولة بما هي (مجموع التعاليم والقيم السامية والمبادئ السياسيّة والعسكريّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والرّوحيّة التي نبعت من حضارة الشعب ورسخت في وجدانه وعقد عليها قلبه وضميره). وبمقتضى هذا التعريف تتغذّى العقيدة العسكريّة من مصادر شتّى أهمّها على الإطلاق: عقيدة الدّولة، سواء أكانت دينيّة أم أيديولوجيّة أم فكريّة مبدئيّة من وضع القادة السياسيّين. القيم والمبادئ والعادات والتقاليد والأعراف السائدة في الدّولة والشائعة في شعبها. التاريخ العسكري للدّولة بما هو حصيلة خبرات وتجارب وقراءات متراكمة عبر السنين. كما تتغذّى من التطوّر التقني والتكنولوجي والفنّي وما يتطلّبه من تحديث ومواكبة. ومن ثوابت الأمن القومي أي مصادر التهديد والتغيّرات المستمدّة في النّظام العالمي والحروب المتوقّعة من حيث نوعها وشكلها ومستوياتها ومداها. وتتغذّى أيضًا بالناحية الجيوستراتيجيّة للدّولة من حيث الموقع والموارد والحالة الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة بما هي محدّد رئيسي لحجم تنظيماتها العسكريّة ونوعيّتها وطريقة استخدامها ومدى تأثيرها على سياساتها الدّاخليّة والخارجيّة. وعلى هذا الأساس فإنّ العقيدة العسكريّة شأن سياديّ ذاتي خاصّ يهمّ دولة معيّنة دون غيرها، فلا توجد عقيدة عسكريّة واحدة صالحة لكلّ الدّول (standard) بل هناك عقيدة عسكريّة لكلّ دولة تختلف باختلاف واقع وظروف وخصوصيّات كلّ دولة. فقمّة الإجرام ومنتهاه أن تتولّى دولة أخرى صياغة العقيدة العسكريّة لدولة ما؛ لأنّ ذلك بمثابة عقد استعمارها ونهبها ومسخها وتسخيرها لمصلحة تلك الدّولة.

2- مستوياتها: وعلى ضوء هذه المغذّيات يمكن أن نميّز بين خمسة مستويات للعقيدة العسكريّة:

أوّلًا: المستوى المبدئي العقائدي الذي يحدّد البناء الفكري الثقافي والخلفيّة الأيديولوجيّة للجيش إجمالًا ولجنوده تفصيلًا.

ثانيًا: المستوى الاستراتيجي الذي يحدّد ويعرّف التهديدات والمخاطر والتحدّيات التي تواجه الدّولة أو تستشرف مواجهتها، أي تطويع العقيدة العسكريّة للعقيدة الأمنيّة واستراتيجيّة الأمن القومي للبلد.

ثالثًا: المستوى الفنّي التكنولوجي الذي يُعنى بتحديث الأسلحة والعتاد وتمكين الجيش من مواكبة التطوّر التكنولوجي والتقني على مستوى التسليح والتدريب والنّواحي اللّوجستيّة.

رابعًا: المستوى العملي التعبوي ويُعنى بالمجهود الحربي لتعبئة موارد الدّولة والقوّات المسلّحة للحرب، أي بناء العقيدة القتاليّة للجيش من حيث التنظّم والخطط والإعداد والتجهيز والتدريب لخوض المعارك وتحقيق الأهداف العسكريّة.

خامسًا: المستوى الأخلاقي الذي يُعنى بالجانب الإنسانيّ القيميّ للعقيدة العسكريّة ويزوّد الجيوش برصيد من القيم السامية ويوجّهها نحو الفضائل ويقيّد سلوكيّاتها أثناء تنفيذ مهامّها بضوابط وقيم دينيّة وإنسانيّة وأخلاقيّة.

هذه المستويات الخمسة مرتبطة ببعضها ارتباطًا وثيقًا فلا يمكن الفصل بينها أو الاستغناء عن بعضها؛ لأنّ كلّ مستوى مكمّل للآخر بحيث تشكّل بمجموعها العقيدة العسكريّة في أكمل صورها بما هي (مجموعة من القيم والمبادئ الفكريّة التي تهدف إلى إرساء نظريّات العلم العسكري وفنّ الحروب وتحدّد بنية واستخدامات القوات المسلّحة زمن السّلم والحرب بما يحقّق المصالح والأهداف العليا للدّولة). ورغم أنّ أغلب هذه المsستويات ذو طابع فنّي تقني إلاّ أنّ الجانب الثقافي والمبدئي العقائدي هو الخيط الرّابط بينها، فهي لا تحدّد كيفيّة القتال فقط بقدر ما تحدّد مجموعة من المبادئ الأساسيّة حول طريقة تفكير القوّات المسلّحة خلال المواقف القتاليّة المتنوّعة، وتعيّن لها من توالي ومن تعادي ومن تقاتل وكيف ومتى ولِمَ وإلى أيّ مدى تقاتل، فهي عقل المؤسّسة العسكريّة ومشاعرها وأحاسيسها، وبالتّالي فهي بوّابة رئيسيّة لمن يروم استهداف تلك المؤسّسة بالاستقطاب والاستنفار والنّصرة شرط أن يستند على عقيدة الجند والشّعب، أمّا أن يكون الجسد مسلمًا والعقل والمشاعر والأحاسيس غربيّة نصرانيّة صهيونيّة فهذا مشروع استعمار وفناء وانتحار سياسيّ.[يتبع]

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *