ظهور الدولة الإسلامية كدولة أولى في العالم بدون منازع
2006/09/01م
المقالات
2,160 زيارة
ظهور الدولة الإسلامية كدولة أولى في العالم بدون منازع
إن وجود الدولة الإسلامية يعني أنها الدولة الأولى، أو التي تنافس على مركز الدولة الأولى، ولا يمكن أن توجد الدولة الإسلامية ولا تُنافس أو تُنازع مطلقاً، أو ترضى الدولة الإسلامية أن تكون تابعاً لغيرها، أو تقبل أن تكون وصيفة، فوجودها يعني أنها الأولى أو التي تنافس لتكون الأولى، وليست دولة إسلامية تقبل أن تكون وصيفة أو تابعة، وشعار دولة الإسلام وشعار كل مسلم:
ونحن أناس لا توسط بيننا لنا الصدر دون العالمين أو القبر
أرسل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الرسل يحملون رسالة محددة بخطاب لا لبس فيه، ألفاظه لا تحتمل أكثر من معنى بل واضحة كل الوضوح، فالدولة الفتية التي بناها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عمرها ست سنوات، ومكة ما زالت تحمل العداء، وأطراف من القبائل العربية دخلت في حلف المصطفى، ومع ذلك لا بد من أن تكون الصورة واضحة جلية، ولغة الخطاب لغة القوي الواثق وليست لغة المستجدي ولا الخائف، نعم إن هرقل هو عظيم الروم، ومع ذلك كان الخطاب له بنفس القدر من القوة والوضوح لغيره، وإليك النص (بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد الله ورسوله إلى هرقل قيصر الروم، السلام على من اتبع الهدى، أما بعد، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين وإن تتولَّ فإن إثم الأكاريين (الأريسيين) عليك: ( قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) [آل عمران 64].
ودولة الروم في ذلك الوقت هي الدولة الأولى في العالم وهرقلها هو الحامي للدين وتنافسها فارس، ومع ذلك كان الخطاب لفارس بنفس القوة والثقة ولو كان المخاطب كسرى، وإليك نص رسالة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لكسرى، (من محمد بن عبد الله إلى كسرى عظيم فارس، السلام على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله، وأدعوك بدعاية الله عز وجل، فإني رسول الله إلى الناس كافةً ولأنذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين، وأسلم تسلم فإن توليت فإن إثم المجوس إليك) ولا يهم إن غضب كسرى، فهمُّنا ليس غضب كسرى بل همنا رضوان الله عز وجل فحسب.
وأمام هذا الكلام لنا الملاحظات التالية:
أولاً:
إن الرسائل إلى الملوك تعتبر خطاباً يعبر عن وجود كيان دولة له دوافع للمزاحمة، فالرسائل التي بعث بها المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الملوك والرؤساء تدل على أن هذه المزاحمة مزاحمة قوية، فالخطاب وهو (أسلم تسلم) ليس خطاب ودّ لنيل صداقة أو لبناء علاقة أو لتجنب أذىً، بل هو صيغة إخضاع وطلب طاعة، فكانت رسائله إلى الملوك هي بداية المزاحمة وقد كانت هذه الرسائل على الأغلب في العام السابع للهجرة.
ثانياً:
إن المزاحمة تقتضي الجدية ووضوح الخُطة والطريقة بل والدفاع عن موقعه في هذه المزاحمة، وإن لم يفعل ما يجب عليه فعله كان البون واسعاً شاسعاً بين قوله وفعله، وبقي كلامه في دائرة الكلام لا يتعداه، بغض النظر عن تسميته لنفسه أو لدولته.
لقد بعث المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) بعثاً عليهم كعب بن عمير الغفاري إلى أرض الشام، فقُتلوا خلا واحداً عاد وأخبر الرسول بما فعل أهل الشام، ثم تعرض شرحبيل بن عمرو الغساني رسول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى القتل أيضاً في الشام. فكان الردّ من الذي يُزاحم على مركز الدولة الأولى أو الذي دخل إلى بؤرة الصراع أن جهّز جيشاً في العام الثامن للهجرة ليذهب هذا الجيش إلى الروم و يؤدبهم… فكانت معركة مؤتة.
لقد جاءت معركة مؤتة في الوقت الذي كان فيه الروم في أوج قوتهم وزهوهم، بل كانوا مع هرقل في بيت المقدس في زيارة الشكر لأنهم انتصروا على الفرس لتوهم، وكانت هذه رداً على انتصار الفرس عليهم قبل سنين حين شمت الكفار بالمسلمين في مكة ونزلت سورة الروم ( غُلِبَتِ الرُّومُ @ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ @ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ) [الروم 2-4] وها هي قد انتهت وجاءت البشرى وانتصر الروم.
ورغم ذلك لم تختلف الحسابات بل كان الأمر واضحاً من أن مقتضيات عمل الدولة التي تزاحم أن تفرض نفسها فرضاً بغض النظر عن واقع حال الدولة الأخرى… ثم جاء بعد ذلك خبر إلى المدينة يفيد بأن هناك تجمع لأعوان الروم من العرب المتنصرة يريدون أطراف المدينة، فجهز المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) جيش العسرة في العام التاسع للهجرة وكان جيشاً عرمرماً لم تألفه الجزيرة من قبل إذ إنه كان يحوي ثلاثين ألفاً منهم عشرة آلاف فارس.
وجزاء هذه الأعمال العسكرية أصبح لهذه الدولة التي تزاحم حزاماً أمنية أو مجالاً حيوياً يمتد من جرش في الأردن ثم البلقاء حتى خليج العقبة غرباً إلى دومة الجندل شرقاً.
ولم يتوقف هذا الأمر عند ذلك الحد، إذ إن التوقف بحد ذاته للدولة التي تزاحم هو انهزام وانحسار. فشحنت أربعة جيوش في العام الثاني عشر للهجرة لفتح بلاد الشام ثم كانت الخاتمة لهذه الفتوح في اليرموك في 5 رجب سنة 15هـ الموافق 12/8/636م، فانحسرت دولة الروم إلى أدنى حدودها بعد أن كانت قبل أعوام قليلة هي الدولة الأولى.
و قد كان هذا الانحسار بعد هزيمتها وانكسار شوكتها، فهي وإن بقيت دولة فإن تأثيرها في الموقف الدولي قد انتهى كدولة كبرى، و لكن تأثيرها الإقليمي في مجالها الغربي في دول البلقان بوصفها الراعي الديني بقي على حاله.
إن معركة اليرموك تعتبر بحق معركة عالمية فاصلة كان لها ما بعدها، أو قل إن شئت إن ما بعدها كان أهم، فسقوط النفوذ الروماني في بلاد الشام أسقط معه دولة الغساسنة التي كانت أداة لإمبراطور القسطنطينية هذا في بلاد الشام… أما بالنسبة لمصر فإنه قد فتح الباب على مصراعيه للمسلمين لفتحها بعد أن سقط الغطاء الروماني عن بلاد الشام فسقط عنها تلقائياً.
لقد كانت الدولة الإسلامية في موقع المزاحمة مع دولتين وليس مع دولة واحدة، فلقد تزامنت المعارك في بلاد الشام مع المعارك في العراق، فجيوش تحارب الروم في الشام، و جيوش تحارب الفرس وأعوانهم في العراق، وهذا يدل على أن هذه المزاحمة في وضع لا تُقبل فيه أنصاف الحلول أو المعاهدات.
واستمرت المعارك من السنة الثانية عشرة لا تهدأ في موقع إلا و تستعر في موقع غيره حتى كانت معركة القادسية في 13 شعبان سنة 15هـ الموافق 19/ 9/636م.
وبالتمعن في تاريخ كل من معركة اليرموك ومعركة القادسية يرى أن الفارق بينهما كان سبعاً وثلاثين يوماً فقط، وهو زمن لا يُكاد يُصدق للوهلة الأولى، فإنهما تعتبران معركتين عالميتين بكل ما تعنيه الكلمة.
كان لابد من القراءة السياسية للأحداث وتسلسلها حتى تكون الخلاصة التي نبغيها ونطلبها خلاصة تعبر عن قراءة أحداث ولا تعبر عن سرد وقائع تاريخية.
إن قراءة الأحداث ومواقف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن بعده أبو بكر وعمر تشير إلى أن هذا الصراع والمزاحمة كانت جدية بكل المعاني وبكل قراءة للأحداث، أكان القارئ لهذه الأحداث مسلماً أم غير مسلم، أما المستشرقون فهم وإن لم يقدروا على تحريف أو تزييف هذه القراءة لهذه الأحداث فقد عمدوا إلى الدس والتحريف والتزييف في سرد الوقائع والدوافع.
هناك فرق بين قراءة الأحداث وبين سرد وقائع التاريخ، فإن أي حدث دقيق يتم سرده كحادث حدث يمكن أن يُزاد عليه أو ينقص منه.
أما قراءة أحداث التاريخ فإنه يقرأ وفق ضوابط من زاوية نظر محددة. فأي قائد عسكري يقرأ وقائع المعركة التي حدثت، فإنه كعسكري ومن خلال علمه العسكري قد قرأ هذه الأحداث قراءة لم يلغِ عقله وعلمه، وهو يقوم بدراستها بغض النظر عن حبه أو كرهه، فلم يقبل أحد لا من المسلمين أو من غيرهم أن عمل خالد في مؤتة هو عمل جبان أو أن تخطيط خالد كان ينم عن جهل وهكذا.
لقد أصبحت الدولة الفتية في المدينة ابنة الخمسة عشر عاماً هي الدولة الأولى في العالم بلا منازع بعد معركة القادسية لا بل وقُل وأنت مطمئن بقولك إنه لم تعد هناك دولة تزاحم هذه الدولة الفتية.
فالدولة الرومانية قد رضيت بما نالته من هزيمة في اليرموك فعادت وانحسرت داخل محيطها، والفرس تراجعوا تحت ضغط جيوش المسلمين التي لم تكتفِ بهزيمتهم في القادسية بل تتابعت هذه الانتصارات حتى وصلت إلى المدائن وداست عرش كسرى بسنابك خيلها.
وكذلك الأمر مع الرومان، فلم تتوقف الجيوش عن الاندفاع في شن هجومها عليهم بعد اليرموك حتى وصلت إلى القسطنطينية وحاصرتها، ودفن أبو أيوب على أطراف سورها ليعود غيره.
إن الدولة الفتية قد قامت على أساس حمل الإسلام قيادة فكرية للعالم، وهذا الأمر يقتضي دوام الحركة، وهذا ما فعله الرسول المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) منذ وصوله إلى المدينة فكان يبعث السرايا ويقود الغزوات ويبعث الرسائل، وكلها تدور في دائرة خدمة المبدأ وطريقته العملية في نشره.
وبقي الخلفاء من بعده (صلى الله عليه وآله وسلم) ينتهجون نهجه في نشره لهذه الدعوة، فلم تتوقف الجيوش بل كانت في حال هجوم دائم وغيرها في حال انحسار وتراجع، فهي وإن كسبت معركة تحاول استثمار هذا الانتصار لصالح المبدأ فتنتقل من عليّ إلى أعلى في حركة دائبة حتى يكون النصر منتجاً لنصر، ولا يكون النصر مدعاة لخمول أو لدعة أو لتجمّد، فالناظر الذي يقرأ الأحداث يرى أن دوام الحركة هو الطابع السائد و السمة لهذه الدولة.
ثالثاً:
لقد انتهت مرحلة المزاحمة التي قامت بها هذه الدولة الفتية، وأصبحت هي الدولة الأولى بلا منازع، ولم تعد هناك قوة تقف في وجهها أو تنافسها لا على موقعها ولا على مركزها.
وهنا نحاول أن نلقي الضوء على نجاح هذه الدولة واستمرارها كدولة أولى بدون منازع، منذ معركة القادسية ليوم سقوط القدس في أيدي الصليبيين، وظهورهم كمنازع و منافس سنة 492هـ – 1097م و هذا يعني 477 سنة هجرية أو 461 سنة ميلادية، وهذا زمن ليس بالقليل، فكيف حافظت هذه الدولة على هذا الموقع طيلة هذه السنين؟…
إن الوصول إلى مركز الدولة الأولى هو أمر صعب جداً، و لكنّ الأصعب منه فعلاً هو المحافظة على هذا الموقع طيلة سنين عديدة دون وجود مجرد منافس لهذه الدولة.
ومع محاولة دراسة هذه العوامل نرى:
1- إن هذه الدولة قد حملت الإسلام كمبدأ لها بطريقته العملية، وهو الجهاد لكسر الحواجز المادية التي تقف في وجه هذه الدعوة، وحمل الإسلام قيادة فكرية للعالم، وليس لأجل سلب العالم المفتوح ثرواته وامتهان أهله أو إذلالهم وإنما لحمل النور لهم.
بعكس غير المسلمين حين انتصروا على غيرهم فقد سلبوهم ثرواتهم وطمسوا ما علا لهم وأذلوهم واستعبدوهم وعاملوهم بكل قسوةٍ، وقد اعتبر المنتصرُ المهزومَ عبداً له يفعل به ما يشاء، وأما المسلمون فإن جهادهم كان لكي تصل هذه الدعوة إلى الناس دون إكراه أو تهديد و قيدهم خطاب ربهم لهم: ( لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) [البقرة 256] فلا يكره أهل البلد المفتوح على تغيير دينهم.
2- صهر كل من دخل الإسلام في بوتقته فلا توجد قومية عربية أو أعجمية أو فارسية، و لا يوجد عرق أبيض أو أحمر أو أسود، فكان كل من دخل الإسلام أصبح مسلماً، له ما للمسلمين وعليه ما عليهم، ولا فرق بين هذا وذاك إلا بالتقوى.
وهذا ما حدث و لم يألفه العالم من قبل ولم تسمع به الأمم، كل من دخل الإسلام أصبح هو نفسه المدافع عنه والحامي له، حتى الذين دخلوه من غير العرب كالبخاري ومسلم. و قد كانت المؤاخاة في العقيدة في قول الحق ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات 10] هي الصورة الحقيقية لهذا الصهر في بوتقة المبدأ فكانوا جراء ما حملوا هم الكل الشعوري، وهم الأولياء في النصرة.
لقد كانت العقيدة الإسلامية والولاء لها هي الرابطة الأقوى دون غيرها من روابط الجنس والأرض واللون واللغة والمصالح والحدود، ودفعت هذه العقيدة حامليها على الرغم من اختلاف أعراقهم وألوانهم بأن يتوحدوا في الدفاع عنها، فتكونت هذه الكتلة المتجانسة المصهورة في بوتقة المبدأ، فأنتجت حضارة وأنبتت دولة لم يوجد منازع ومنافس لها طيلة 477 عاماً.
لقد اجتمع داخل هذا المجتمع المتنافس العربي والفارسي والرومي والبربري والتركي والهندي والصيني والأفريقي، وحملوا نفس الأفكار والمفاهيم وتوحدوا عليها، فكانت المشاعر والأحاسيس تنبثق عن هذه المفاهيم الواحدة، وكلهم يدافعون عن الإسلام ونظامه دفاعهم عن وجودهم، ولم يكن هذا المجتمع يوماً مجتمعاً عربياً بل كان على امتداد هذه السنين هو المجتمع الإسلامي، ولم تكن هذه الحضارة يوماً عربية بل كانت دوماً إسلامية.
وهذا لم يكن معلوماً أو معروفاً عند أهل هذه الأمم، فعندما قارنوها بالروم أو الفرس وجدوا الفرق، فلقد كانت إمبرطورية الروم قبل الإسلام قد تضمنت أجناساً متعددة ولغات كثيرة وألواناً وشعوباً وقبائل وأراضٍ واسعة، ولكنها لم تقم على أساس عقيدة واحدة أو ولاءٍ واحد، فلقد كانت على أساس طبقي، أشراف وعبيد، أو كل تجمع عنصري على أساس سيادة العِرق الروماني أو سيادة الجنس الفارسي، وقد كان هذا المجتمع مختلف المشارب ومتعدد الولاءات، فانهار بعد معركة واحدة كبرى ولم يكن عنده القدرة على احتمال الضربات المتلاحقة لهشاشته.
ونحن اليوم نرى في التاريخ الحديث تجمعاً يشبه التجمع الروماني والفارسي كالإمبرطورية البريطانية فإنها قامت على أساس الاستغلال والاستعباد؛ فهو تجمع لا يهمه إلا صالح التاج، وكذلك الإسبان والفرنسيين وغيرهم… وهم وإن وصلوا إلى مرتبة الدولة الأولى أو المنافس والمنازع لها لكنهم لم يحافظوا على مركزهم هذا، بل ولم تكن عندهم القوة والصلابة والقدرة على الاستمرار في كونهم دولة أولى أو دولة تنازع وتنافس الدولة الأولى.
وبعكس الرومان تماماً، قام في التاريخ الحديث تجمع آخر وهم الشيوعيون فهم تخطوا حواجز العرق واللون والقوم والأرض واللغة، ولكنّ هذا التجمع لم يقم على أساس عقيدة وولاء واحد بل على أساس الطبقية لمحاربة طبقة الأشراف والإقطاع والرأسمالية، وقد سادته عاطفة الحقد الأسود على كافة الطبقات. ورغم وصوله لمركز المنازع والمنافس على مركز الدولة الأولى، لكنه سرعان ما انهار كألعاب الأطفال رغم امتلاكه وسائل القوة والردع النووي، وكان عمره من ولادته لنهايته أقل من ثمانين عاماً.
وقد حاولت أميركا اليوم، وتحاول، أن تتميز عن غيرها بأن توجد نوعاً مختلفاً من الإمبراطوريات التي سبقتها، وذلك بجعل من يحمل جواز سفرها أو تابعها يتميز عن غيره من البشر بأنه لا يحاكم ولا يُقاضى على غير أراضيها، وأن لها الحق في التدخل في كل الدول، وليس لأي دولة الحق بأن تتدخل بأي شيء في أميركا.
وعلى الرغم من امتلاكها الكثير من أسباب القوة ولكنها تفتقد مقومات المجتمع في داخلها؛ وهي وإن بدت في الخارج، من خلال طائراتها وسفنها، قويةً متماسكةً، فإن في داخلها انهياراً حقيقياً لكل المثل العليا والقيم والأخلاق، هي وإن كانت الدولة الأولى بلا منازع، فإنها تحمل في داخلها أسباب انهيارها.
إن أميركا بكل ما تملك من أسباب القوة والمال والتكنولوجيا، فإنها لم تستطع معالجة مشكلة اختلاف الأعراق والألوان والجنس واختلاف المشارب وتعدد الولاءات، فعلى الرغم من اجتماعهم في أميركا وحملهم لجواز سفرها فما زالت مشكلة الأقليات قائمة فيها.
بعكس دولة الإسلام التي قامت و أشرقت أنوارها في كل مكان، فلم تكن فيها أي مشكلة لا لأقليات ولا لقوميات ولا للون أوجنس، فالصهر في بوتقة المبدأ هو الذي حل هذه المشاكل بل وأوجد هذا الانسجام بين كافة من دخل في دين الله من أي عرق ولون.
3- تطبيق الإسلام بحذافيره على الأمم و الشعوب التي دخلت تحت سلطان الإسلام، وليس هناك من هو فوق الحكم الشرعي بل كل رعايا الدولة تحت الحكم الشرعي، والكل أمامه سواء، فلا شريف ولا حقير ولا رفيع ولا وضيع. وقد كانت سياسة الدولة، أو كما يُقال بلغة اليوم خطاب السياسة الداخلية، لهذه الدولة كما شرحه أبو بكر الصديق t في قوله: «قد وُليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، القوي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه، والضعيف عندي قوي حتى آخذ الحق له».
كان هذا هو الإطار العام لسياسة الدولة الداخلية والتي تحمي وتصون الأعراض والأموال والنفس والعلاقات وتضبطها لتتوافق مع الأحكام الشرعية، وليس هذا للمسلم وحده بل هو لكل من يحمل التابعية من مسلمين وغيرهم، والتاريخ الإسلامي على امتداده لم يعرف حادثة واحدة وقعت لأهل الكتاب على أيدي المسلمين بأنهم قد نقضوا عهداً أو خانوا أمانة، أو أنهم قد مارسوا الظلم الديني والإكراه ضد غير المسلمين.
لقد استمرت الدولة الإسلامية 477 سنة هجرية ولم يوجد من ينافسها على مركز الدولة الأولى حتى كان العام 492هـ الموافق 1097م، ذلك أن الحروب لم تتوقف على ثغور الدولة المترامية الأطراف، وكان بداية التراجع في الأندلس حين سقطت طليطلة و أُخرج المسلمون منها سنة 78 هـ 1085م في الوقت الذي كانت فيه ممالك الشمال النصرانية (ممالك نافار وليون وقشتالة) تتقوّى وتتعاظم، وقد حدث قبل ذلك أن النورمان حاولوا السيطرة على البحر الأبيض المتوسط ثم تمكنوا من السيطرة على صقلية (463هـ – 1070م) و ظهر الضعف البحري عند المسلمين. وبحدوث هذا الضعف وجد المنافس و المنازع على مركز الدولة الأولى.
4- إن حالة التفتت و التشرذم التي سادت الأمة الإسلامية في الأندلس والمغرب ومصر وبلاد الشام، وضعف الخليفة في العراق وعدم تمكنه من بسط نفوذه على أراضي هذه الدولة المترامية الأطراف، والانشغال عن حمل الدعوة الإسلامية، الأثر البالغ في ظهور المزاحم و المنافس بل الطامع في الدولة الإسلامية.
لقد كان لسقوط طليطلة أثر كبير عند الغرب النصراني ودوافع لهم لخطوة مقبلة ضد المسلمين، فكان هذا النصر الذي حققه النصارى دافعاً لهم حتى يتوحدوا، فكان العداء للإسلام ومحاربته سبباً أساسياً في توحدهم، إذ إن الانقسام بين الكنائس كان السمة البارزة، فقد كانت الكنيسة في روما تعمل جاهدةً لتنسيق العمل ضد المسلمين، ولكنّ انشغال أوروبا بخلافاتها الداخلية قد أضعف من قوة الكنيسة، أضف إلى ذلك ضعف الإمبرطورية البيزنطية وهزيمتها في معركة (ملازكرد) سنة 462هـ الموافق 1070م أمام السلاجقة بقيادة “ألب أرسلان” وفناء الجيش البيزنطي وأسر قائده “أرمانوس” وجاء أبان هذا الواقع خبر سقوط طليطلة فكان لذلك الخبر دويّ هائل في كل أنحاء أوروبا.
وخلال هذه الفترة ظهرت شخصية كنسية وهو البابا “إريان الثاني” (1042م – 1099م) وقد كان له دور أساسي وحاسم في توحيد الجهود الأوروبية وتوجيه الحرب الصليبية، وقد انتهت جهوده بعقد مؤتمر (كلير مونت 18 – 28 تشرين الثاني 1095م) وحثِّهم على ضرورة بذل المساعدة لإخوانهم في الشرق، وكان مما قاله (فالعالم المسيحي في الشرق التمس منه المساعدة لأن الترك مضوا في زحفهم في جوف البلاد المسيحية، وأخذوا يُسيئون معاملة السكان… ومن يلق مصرعه في المعركة يتحلل من ذنوبه ويغفر الله أخطاءه، فالحياة هنا أضحت تَعِسَة كثيرة الشرور، بعد أن أضنى البؤس أنفسهم في تدمير أجسامهم وأرواحهم… وسوف ينعمون هناك بالسعادة والرخاء ويكونون أصدقاء أوفياء لله).
وتجمع الجيش الصليبي في عيد العذراء 15/8/1096م في القسطنطينية، وقد ضمّ الجيش أفواجاً من فرنسا وإيطاليا وجمهورية جَنوى، وتحركت هذه الجموع حتى وصلت أنطاكيا واحتلتها سنة 1098م، ثم تحركت نحو معرة النعمان ومصياف ثم اللاذقية وطرابلس حتى وصلت القدس وحاصرتها في 7 حزيران سنة 1099م، واستمر الحصار حتى 14 تموز 1099م حيث سقطت المدينة بعد صراع مرير.
ويضيف ابن الأثير عن دخول الصليبيين القدس فيقول: «ملَكَ الفرنجة القدس ضحوة نهار الجمعة لسبعٍ بقين من شعبان، وركب السيف ولبث الفرنج في البلدة أسبوعاً يقتلون فيه الناس، واحتمى جماعة من المسلمين بمحراب داود فاعتصموا به و قاتلوا فيه ثلاثة أيام… و قتل الفرنج في المسجد الأقصى ما يزيد على سبعين ألفا منهم جماعة كبيرة من أئمة المسلمين وعلمائهم».
إن سقوط القدس في أيدي الصليبيين يعتبر العلامة الفاصلة بين كون الدولة الإسلامية دولة أولى بلا منازع و بين اعتبارها دولة قد وُجد المنازع والمنافس لها بعد 477 سنة هجرية.
إن المسافة الزمنية بين سقوط القدس سنة 492هـ الموافق 1099م في أيدي الصليبيين وبين دخول صلاح الدين الأيوبي القدس وانتصاره عليهم في معركة حطين سنة 583هـ الموافق 1187م هي مسافة تقارب التسعين عاماً، وهذه الفترة كانت فترةً تتأرجح بين صلح وحرب وهدنة وقتال، وقد كانت فترة صراع ومزاحمة، وكان كل فشل يزيد من تصميم المسلمين على النصر، فقد دفع المسلمون في حال النصر والهزيمة سيولاً من دماء الشهداء حتى تَتَوجَ ذلك بنصر الله للمسلمين في حطين.
لقد كان انتصار المسلمين في حطين نهاية فصل من فصول الصراع ومزاحمة الدولة الأولى وتصدّر الدولة الإسلامية لموقعها وعودة الأمر لما كان عليه قبل الحملة الصليبية الثانية، وبرغم استمرار وجود الصليبيين في بلاد الشام وسواحله إلا أن وجودهم بعد حطين ليس كوجودهم قبلها، فهم اليوم لا يشكلون الخطر الداهم والمحدق لدولة الإسلام.
ونستطيع القول بأن الفترة ما بين حطين حتى ظهور المغول كقوة تنافس وتهدد وتزاحم دولة الإسلام واحتلالهم بغداد سنة 656هـ الموافق سنة 1258م، ورغم الصراعات الداخلية التي حصلت بعد وفاة صلاح الدين سنة 589هـ الموافق 1193م وهي حوالى (73) سنة بقيت الدولة الإسلامية دولة أولى.
وبعجالة سريعة نستعرض فيها الوضع الداخلي في بلاد الشام ومصر، فهذه الدولة انفرط عقدها بين أولاد صلاح الدين السبعة عشر، وقد جاءت حملة صليبية إلى دمياط في مصر سنة 615هـ الموافق 1218م ولكنّ الله هزمهم، ثم جاءت حملة أخرى يقودها “لويس التاسع” ملك فرنسا سنة 647هـ الموافق 1249م وانتصر المسلمون عليهم وأسروا “لويس التاسع”، وقد كانت السمة التي ميّزت الحقبة الزمنية كثيرة الدسائس التي كانت تحصل بين سلاطين المماليك في مصر.
بالرغم من كثرة هذه الدسائس التي حصلت إلا أن الصورة الخارجية والرهبة في قلوب الصليبيين بقيت على حالها.
إن المغول بدخولهم إلى بغداد ظهروا كمنازع آخر غير الصليبيين للمسلمين. لقد استمرت فترة المنازعة والمنافسة والمزاحمة بين المسلمين والصليبيين تسعين سنة من دخولهم القدس وحتى معركة حطين، أما التتار فإن وضعهم مختلف جداً، إذ إنهم لم يلبثوا سوى عامين اثنين حتى هزمهم الله في عين جالوت سنة 658هـ فانطفأ نورهم وخبت نارهم.
وقد عادت الدولة الإسلامية لتكون الدولة الأولى بعد انتهاء معركة عين جالوت، ولكن الدسائس والمؤامرات لم تنتهِ بعد، فإن مكائد الحكم قد كانت تستنـزف أغلب طاقاتهم بعكس الصورة الخارجية لهم، إذ إنها قد بدت أقوى بكثير من صورتهم الداخلية. وقد استمر الوضع في بلاد الشام ومصر على هذا النحو حتى سنة 922هـ الموافق 1516م حين وقعت معركة مرج دابق بين السلطان سليم الأول العثماني و بين “قانصوه الغوري” المملوكي.
وبانتهاء معركة مرج دابق أصبحت الدولة الإسلامية المترامية الأطراف دولة قد ضُخ بها دم جديد جَدد حيويتها وجعل لهذا الجسد الكبير رأس واحد يُعرف به، وقد بايع الخليفة العباسي المتوكل السلطان سليم الأول وأصبح هو الخليفة.
2006-09-01