هل بات العلماء بيضة القبان؟ (3)
2023/10/26م
المقالات
2,273 زيارة
عبد الرحمن العامري – اليمن
بين العزِّ بن عبد السلام ونجم الدين أيوب:
كان لمماليك الأراك نفوذ في الدولة الإسلامية في أواخر حكم العباسيين، وامتد نفوذهم حتى أصبحوا أمراء في الدولة أيام حكم نجم الدين أيوب في مصر، وكان الشيخ العزّ قاضيًا للقضاة فيها، وقام (رحمه الله) مصلحًا لأمر القضاء منفِّذًا بحزم أحكام الشرع، لا تأخذه في ذلك لومة لائم، فنظر في حقيقة قضية أولئك الأمراء التي أثارها هو ثم أصدر قضاءه الآتي: قال السبكي: ذكر كائنة الشيخ مع أمراء الدولة من الأتراك وهو جماعة، ذكروا أن الشيخ لم يثبت عنده أنهم أحرار وأن حكم الرق مستصحب عليهم لبيت مال المسلمين. فبلغهم ذلك، فعظم الخطب فيه واحتدم الأمر، والشيخ مصمم لا يصح لهم بيعًا ولا شراء ولا نكاحًا، وتعطلت مصالحهم بذلك، وكان من جملتهم نائب السلطنة فاشتاط غضبًا واجتمعوا وأرسلوا إليه. فقال: نعقد لكم مجلسًا وينادى عليكم لبيت مال المسلمين ويحصل عتقكم بطريق شرعي، فرفعوا الأمر إلى السلطان، فبعث إليه فلم يرجع، فجرت من السلطان كلمة فيها غلظة، حاصلها الإنكار على الشيخ في دخوله في هذا الأمر، وأنه لا يتعلّق به، فغضب الشيخ وحمل حوائجه على حمار، وأركب عائلته على حمير أخرى، ومشى خلفهم من القاهرة قاصدًا الشام، فلم يصل إلى نحو نصف بريد حتى لحقه غالب المسلمين، لم تكد امرأة ولا صبي ولا رجل لا يؤبه له يتخلف، ولا سيما العلماء والصلحاء والتجار وأنحاؤهم، فبلغ السلطان الخبر، وقيل له متى راح ذهب ملكك قبله، فرجع واتفق معه على أن ينادى على الأمراء، فأرسل نائب السلطنة بالملاطفة، فلم يُفِد فيه، فانزعج النائب. فقال: كيف ينادي علينا هذا الشيخ ويبيعنا ونحن ملوك الأرض؟ والله لأضربنّه بسيفي هذا. فركب بنفسه في جماعة، وجاء إلى بيت الشيخ والسيف مسلول في يده، فطرق الباب، فخرج ولد الشيخ… فرأى من نائب السلطنة ما رأى فعاد إلى أبيه وشرح له الحال، فما اكترث لذلك ولا تغيّر. وقال: يا ولدي، أبوك أقلّ من أن يقتل في سبيل الله، ثم خرج كأنه قضاء الله قد نزل على نائب السلطنة، فحين وقع بصره على النائب وسقط السيف منها ارتعدت مفاصله، فبكى وسأل الشيخ أن يدعو له، وقال: يا سيدي، خير أي شيء تعمل؟. قال: أنادي عليكم وأبيعكم. قال: ففيم تصرف ثمنًا؟. قال: في مصالح المسلمين. قال: من يقبضه؟. قال: أنا. فتمّ له ما أراد ونادى على الأمراء واحدًا واحدًا وغالى في ثمنهم وقبضه وصرفه في وجوه الخير، وهذا لم يسمع قبله أحد رحمه الله ورضي عنه.
بين العزِّ بن عبد السلام والصالح إسماعيل:إن خلافًا نشأ واشتدَّ، وخصامًا طفق منذرًا بالكيد والحرب بين الأخوين: سلطان الشام الملك الصالح إسماعيل، وسلطان مصر الصالح نجم الدين أيوب، وقد أوجس إسماعيل خيفة من نجم الدين أيوب فاستعان بالصليبيين أعداء الإسلام، وتحالف معهم على قتال أخيه، وأعطاهم مقابل ذلك مدينة صيدا على رواية المقريزي وغيره، وأمعن إسماعيل في هذه الخيانة، فسمح للصليبيين أن يدخلوا دمشق ويشتروا منها السلاح وآلات الحرب وما يريدون، وأثار هذا الصنيع المنكر استياء المسلمين وعلمائهم. فهبَّ الشيخ العزُّ بن عبد السلام واقفًا في وجه الخيانة والخائنين، وأفتى بتحريم بيع السلاح لهم، وصعد على منبر جامع الأموي بدمشق في يوم الجمعة؛ حيث كان خطيبه الرسمي وأعلن الفتوى وشدد في الإنكار على السلطان يومئذ، وصار يدعو بدعاء «اللهم أبرم لهذه الأمة إبرام رشد يعز فيه أولياؤك ويذل فيه أعداؤك، ويعمل فيه بطاعتك وينهى فيه عن معصيتك» والمصلون يضجون بالتأمين على دعائه، ولم يكن السلطان حاضرًا لتلك الخطبة؛ إذ كان خارج دمشق، ولما أعلمه رجاله بذلك أمر بعزل الشيخ عن خطبة الجمعة واعتقاله مع صاحبه الشيخ ابن الحاجب المالكي لاشتراكه معه في هذا الإنكار.
وكان أنصار الشيخ قد أشاروا عليه بأن يغادر البلاد وينجو بنفسه من يد السلطان وأعدوا له وسائل الهرب، ولكنّه أبى ذلك، وألحّوا عليه، فأصر على الإباء، فعرضوا عليه أن يختبئ في مكان أمين لا يهتدي إليه السلطان ورجاله، فرفض هذا العرض أيضًا وقال: «والله لا أهرب ولا أختبئ، وإنما نحن في بداية الجهاد، ولم نعمل شيئًا بعد، وقد وطنتُ نفسي على احتمال ما ألقى في هذا السبيل، والله لا يُضيع عمل الصابرين» ثم لما قدم إسماعيل إلى دمشق أفرج عنهما بعد الاعتقال، ولكن العزَّ بن عبد السلام أمر بملازمة داره وأن لا يفتي ولا يجتمع بأحد البتة، فاستأذنه في صلاة الجمعة مؤتمًّا بإمامها وأن يعيد إليه طبيب أو مزين اذا احتاج إليهما، وأن يدخل الحمام فأذن له في ذلك، ومرّت الأيام والشيخ في إقامته الجبرية وقد منع من الإفتاء والاتصال بأحد من إخوانه أو طلابه، وتعطلت هوايته المفضلة وواجبه المقدّس، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فطلب الهجرة من دمشق قاصدًا مصر. وأفرج عنه بعد محاورات ومراجعات فأقام بدمشق ثم انتزع منها إلى بيت المقدس. فوافاه الملك الناصر داود في الفور فقطع عليه الطريق وأخذه وأقام بنابلس مدة وجدت لها معه خطوب، ثم انتقل إلى بيت المقدس حيث أقام مدة، ثم جاء الصالح إسماعيل والملك المنصور صاحب حمص وملوك الفرنج بعساكرهم وجيوشهم إلى بيت المقدس يقصدون الديار المصرية، فسيَّر الصالح إسماعيل بعض خواصه إلى الشيخ بمنديله، وقال له: تدفع منديلي إلى الشيخ وتلطَّف له غاية التلطف وتستنزله وتعده بالعودة إلى مناصبه على أحسن حال، فان وافقك فتدخل به عليّ، وإن خالفك فاعتقله في خيمة إلى جانب خيمتي. فلما اجتمع الرسول بالشيخ، شرع في مسايسته وملاينته. ثم قال له: بينك وبين أن تعود إلى مناصبك وما كنت عليه زيادة أن تنكسر للسلطان وتقبل يده لا غير. فقال الشيخ: والله يا مسكين ما أرضاه أن يقبل يدي فضلًا عن أقبّل يده، يا قوم أنت في وادٍ وأنا في وادٍ، الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به. فقال الرسول: يا شيخ قد رسم لي أن توافق على ما يطلب وإلا. فقال الشيخ: افعلوا ما بدا لكم. فأخذه واعتقله في خيمة إلى جانب خيمة السلطان، وكان الشيخ يقرأ القرآن في معتقله والسلطان يسمعه. فقال يومًا لملوك الفرنج: تسمعون هذا الشيخ الذي يقرأ القرآن؟. فقالوا: نعم .قال: هذا أكبر قسوس المسلمين، وقد حبسته لإنكاره علي تسليمي لكم حصون المسلمين وعزلته عن الخطابة بدمشق وعن مناصبه، ثم أخرجته فجاء إلى القدس وقد جددت حبسه واعتقاله لأجلكم!!. فقالت له ملوك الفرنج: «لو كان هذا قسيسنا لغسلنا رجليه وشربنا مرقتها». (واإسلاماه لأحمد باكثير، 100 وانظر الطبقات للسبكي).
بين النووي والظاهر بيبرس :
لما خرج الظاهر بيبرس إلى قتال التتار بالشام، أخذ فتاوى العلماء بجواز أخذ مال من الرعيّة يستنصر به على قتالهم، فكتب له فقهاء الشام بذلك فأجازوه. فقال: هل بقي أحد؟. فقيل له: نعم بقي الشيخ محيي الدين النووي. فطلبه فحضر. فقال له: اكتب خطابك مع الفقهاء، فامتنع. فقال: ما سبب امتناعك؟. فقال: أنا أعرف أنك كنت في الرق للأمير (بندقار) وليس لك مال، ثم منّ الله عليك وجعلك ملكًا، وسمعت عندك ألف مملوك، كل مملوك له حياصة من ذهب، وعندك مئتا جارية لكل جارية حق من الحليّ، فاذا أنفقت ذلك كله وبقيت مماليكك بالبنود والصرف بدلًا من الحوائص وبقيت الجواري بثيابهن دون الحليّ، أفتيتك بأخذ المال من الرعية. فغضب الظاهر من كلامه. وقال: أخرج من بلدي _ يعني دمشق. فقال: السمع والطاعة، وخرج إلى نوى. فقال الفقهاء: إن هذا من كبار علمائنا وصلحائنا وممن يُقتدى به، فأعده إلى دمشق. فرسم برجوعه، فامتنع الشيخ وقال: لا أدخلها والظاهر فيها، فمات بعد شهر. (من أخلاق العلماء الجزء التاسع).
بين ابن تيمية وغازان :
وردت الأنباء في أواخر سنة 698هـ، بزحف غازان التتري وجيشه من ايران نحو حلب. وفي وادي سليمة يوم 27 ربيع الأول سنة 699ه. التقى جمع غازان بجمع الناصر بن قلاوون، وبعد معركة حامية الوطيس هُزم جمع الناصر وولَّى الجند والأمراء الأدبار، ونزح أعيان دمشق إلى مصر يتبعون سير الناصر، حتى خلت دمشق من حاكم أو أمير أو أعيان البلاد؛ لكن شيخ الإسلام ابن تيمية بقي صامدًا مع عامة الناس، فاجتمع شيخ الإسلام مع من بقي من أعيان البلاد، واتفق معهم على تولي الأمور، وأن يذهب هو على رأس وفد من الشام لمقابلة غازان. فقابله في بلدة البنك، وقد دارت بينهما مناقشة عنيفة. قال البالسي: قال الشيخ ابن تيمية لغازان وترجمانه يترجم كلام الشيخ: أنت تزعم أنك مسلم ومعك قاضٍ وإمامٌ وشيخٌ ومؤذنون على ما بلغنا، فغزوتنا وبلغت بلادنا على ماذا؟ وأبوك وجدك كانا كافرين وما غزوا بلاد الإسلام بعد أن عاهدونا، وأنت عاهدت فغدرت، وقلت فما وفيّت.
وجرى مع ابن تيمية وغازان أمور قام بها ابن تيمية كلها لله، ثم قرب غازان إلى الوفد طعامًا فأكلوا إلا ابن تيمية فقيل له: ألا تأكل؟. فقال: كيف آكل من طعامكم وكله مما نهبتموه من أغنام الناس وطبختموه بما قطعتم من أشجار الناس؟. وغازان مصغٍ لما يقول شاخص إليه لا يعرض عنه، وإن غازان من شدة ما أوقع في قلبه من الهيبة والمحبة سأل: من هذا الشيخ؟ إني لم أرَ مثله، ولا أثبت قلبًا منه، ولا أوقع من حديثه في قلبي، ولا رأيتني أعظم انقيادًا لأحد منه… فأخبر بحاله، وما هو عليه من العلم والعمل. ثم طلب منه غازان الدعاء، فقام الشيخ يدعو فقال: اللهم إن كان عبدك هذا إنما يقاتل لتكون كلمتك العليا وليكون الدين كله لك، فانصره وأيّده، وملّكه البلاد والعباد، وإن كان قد قام رياء وسمعة وطلبًا للدنيا ولتكون كلمته هي العليا وليذل الإسلام وأهله فاخذله وزلزله ودمّره واقطع دابره، وغازان يؤمّن على دعائه ويرفع يديه. قال البالسي: فجعلنا نجمع ثيابنا خوفًا من أن نتلوّث بدم ابن تيمية إذا أمر بقتله، فلما خرجنا من عنده قال قاضي القضاة نجم الدين وغيره: كدت تهلكنا وتهلك نفسك، والله لا نصحبك من هنا، فقال: وإني والله لا أصحبكم. قال البالسي: فانطلقوا عصبة وتأخر هو في خاصة نفسه ومعه جماعة من أصحابه، فتسامعت به الخواتين والأمراء وأصحاب غازان فأتَوه يتبرّكون بدعائه وهو سائر إلى دمشق، ووالله ما وصل إلى دمشق إلا في نحو ثلاثمائة فارس في ركابه. وكنت أنا من جملة من كان معه، وأما أولئك الذين أبَوا أن يصحبوه، فخرج عليهم جماعة من التتار فشلحوهم أي سلبوهم ثيابهم وما معهم. (مختصر منهاج السنة للذهبي، ص: 332).
نعم، هذه شذرات من قصص رائعة مؤثرة تدمع المقل وتدمي الأفئدة من هول مواقف هؤلاء العلماء فعلًا وقولًا لا يخشون في الله لومة لائم، فذاك يستعد للموت، وذاك يأبى المال، وذاك يتحين الفرصة للقاء الخليفة لقول كلمة الحق دون خوف، وذاك يتوعده الخليفة وحين اللقاء يرتعب منه مهابة من الله زرعها فيه، وذاك يرفض القضاء خوفًا من الله يرجو الآخرة لا الدنيا الفانية، وذاك يحارب الخونة وينكر على من يتعامل معهم، وذاك يرفض الاعتذار على أن ينال من التكريم والعطاء والمال ويمدحه أعداؤه من الكفار على أن مثله عندهم لشربوا مرق قدميه، وذاك يرفض جمع الأموال من الرعية لوجود الأموال عند الحكام، وذاك وذاك وذاك… نعم، هكذا كان دور العلماء: قول كلمة الحق وإحقاق الحق وإبطال الباطل بكل جرأة ودون خوف ابتغاء رضوان الله ونهضة الأمة… فكانوا فقهاء شريعة وفقهاء واقع قامت دولتهم دولة الخلافة واستقامت أمتهم وانتشرت دعوتهم بما في ذلك فقههم في واقع أمتهم السياسي بل واقع العالم من حولهم السياسي والفكري والاقتصادي والنفسي والعلمي وغيرها، فكانوا يعلمون من واقع أمرائهم وحكامهم ومداخلهم ومخارجهم، وكانوا يُعَلِّمُون المسلمين الواقع السياسي لمن حولهم من الأعداء، وكذلك خططهم وتوجهاتهم وتآمرهم وخداعهم وألاعيبهم ما يجعلهم يقفون في مقدمة الأمة في مواجهة أعدائها والتصدي لها، فلم يكن علماء الأمة السابقين ينغمسون في فقه الكتاب والسنة المتعلق بعبادات الناس ومعاملاتهم ويتركون السياسة للحكام من غير نصح أو مشاورة أو مشاركة أو الحث على الحق أو يهتمون بالمال والجاه من أجل دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها أو منصب يتقلده، بل كان كل منهم يحمل كفنه في يده ولا يرى إلا الله والآخرة والجنة، وشعاره: اقضِ ما أنت قاضٍ، إنما تقضي هذه الحياة الدنيا. نعم، هذا لم يحدث بهذه الكثرة والعموم إلا في زمننا هذا، علماؤنا اليوم متناسون لدورهم الجليل في توجيه الحكام والأمة بسياسة شرعية ترضي الله عز وجل.
هذا وتتجلى أسباب اعتزال العلماء السياسة واقتصارهم على العبادات والمعاملات بما يلي:
-تأصيلات فقهية خاطئة مبنية على شبهات من الاستدلال الخاطئ.
-التنزيل البعيد للأحكام على الواقع.
-ضغوطات جعلت بعض العلماء يعتزل السياسة بحجة البعد عن الفتن، مع أن الفتنة هو الابتعاد عن دين الله وعدم قول الحق. وما تحدث الفتن، وهو الارتداد عن دين الله وعدم الحكم به، إلا من جرَّاء فصل الدين عن الحياة ومنها الدولة والسياسة؛ مما يُخلي الجو للأمراء الذين لا يحرصون على الشريعة؛ مما يجرِّئهم على الإسراف في التعدي على الدين وهضم الحقوق والتبعية للخارج وقتل الأنفس وارتكاب المحرمات والجرائم. فلو كان علماؤنا اليوم كما كان علماء الأمس لطبقوا الآيات الكريمات: (بَلۡ نَقۡذِفُ بِٱلۡحَقِّ عَلَى ٱلۡبَٰطِلِ فَيَدۡمَغُهُۥ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٞۚ وَلَكُمُ ٱلۡوَيۡلُ مِمَّا تَصِفُونَ ١٨) [الأنبياء: 18] وقال تعالى: (ٱلَّذِينَ أُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِم بِغَيۡرِ حَقٍّ إِلَّآ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُۗ وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّهُدِّمَتۡ صَوَٰمِعُ وَبِيَعٞ وَصَلَوَٰتٞ وَمَسَٰجِدُ يُذۡكَرُ فِيهَا ٱسۡمُ ٱللَّهِ كَثِيرٗاۗ وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ٤٠) [الحج: 40]. هذا وقد كان ابن تيمية فقيهًا بالواقع السياسي حتى إنه كان يفتي السلاطين في إقامة الحرب وإيقافها ويهددهم بإقامة غيرهم ليحمي البيضة ويحوط الحوزة؛ ولذلك فإن ما يقوم به أهل الدعوة اليوم المخلصين العاملين لإقامة الخلافة من إزالة حكام الجور ليس إلا من هذا القبيل. ومن المعلوم أن الواقع السياسي يتعلق بكل تصرفات الحاكم كحاكم ابتداء من تنصيبه وشروط استخلافه وتعيينه، وما القانون الذي يحكم به الأمة وما مصدره وما صحته، وما يتعلق به من أعمال، وما طريقة وصول هذا الحاكم إلى سدة الحكم وولاية الأمر، وما يتعلق بهذا الحاكم، وما يواجه من سلم وحرب وعقود وهدنة وموادعة وصلح، وكذلك ما يتعلق بسياسة المال كسبًا وإنفاقًا مما يتعلق بالأمور السلطانية والأحكام الخاصة بها، فإذا كان علم العالم بالشريعة لا توجد فيه أحكام وأقضية لأمور السياسة هذه كلها فدين هذه الدولة علماني؛ حيث فصل الدين عن الدولة وفصل السياسة عن الشريعة.
إن علماء السوء اليوم هم الذين يدعون إلى الضلال والكفر والبدع، وإلى تحليل ما حرَّم الله وتحريم ما أحلَّ الله. أمثال هؤلاء هم أعوان للطواغيت من ولاة الأمر الحكام الذين يزينون لهم الخروج عن شريعة الإسلام؛ لأن هؤلاء تجاوزوا حدَّهم فإن حد العالم هو اتِّباع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أخوف ما أخاف على أمتي الأئمة المضلِّين» رواه أبو داود. وما رواه الطبراني في الصغير والأوسط وقال لا بأس به عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يكون في آخر الزمان أمراء ظلمة ووزراء فسقة وقضاة خونة وفقهاء كذبة. فمن أدرك ذلك الزمان منكم فلا يكونن لهم جابيًا ولا عريفًا ولا شرطيًّا». وقد قال حذيفة رضي الله عنه فيهم: «إياكم ومواقف الفتن. قيل: وما هي؟ قال: أبواب الأمراء، يدخل أحدكم على الأمير فيصدقه بالكذب ويقول ما ليس فيه». أما ابن الجوزي فقال: «ومن علماء الآخرة أن يكونوا منقبضين على السلاطين محترزين عن مخالطتهم» وعن زياد بن خدير قال: قال لي عمر رضي الله عنه: «هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ قلت: لا. قال: يهدمه زلة العالم وجدال المنافق بالكتاب وحكم الأئمة المضلين» رواه الدارمي.
هذا هو واقع العلماء اليوم، ضاعت منهم مخافة الله ولقيتها مخافة السلطان. فكما جاء بالأحاديث والأقوال السابقة من كذب وتزوير وتضليل، والافتراء على الله، والخيانة والوشاية على المخلصين، ومخالطة اليهود والنصارى واتباعهم ومؤاخاتهم، والعمالة للغرب والاستنفاع بالدنيا والأموال والشهوة والشهرة وبيع البلاد، وتحليل الحرام وتحريم الحلال وتزيين الباطل فإذا تكلموا بحق عملوا بالمنكر… إن وجود مثل هؤلاء العلماء العملاء لمصيبة المصائب وكارثة الكوارث نظرًا لأنهم:
– يوجدون الفتن أو يكون دورهم سلبيًّا تُجاهها؛ لأنهم يبحثون عن مصالحهم الذاتية دون المجتمع أو دون رضوان الله تعالى.
– وجودهم يجعل قيادة الأمة قيادة طالحة تقودها للدمار وللخراب؛ لأنهم يأخذون أماكن العلماء الأتقياء الأنقياء.
– وجودهم هو تجهيل وسفه للأمة، والسفه ضعف في العقل، وهذا يقودها للفشل والانحطاط في كل مناحي الحياة في الدنيا والآخرة.
– بوجودهم يغيب تاج الفروض إقامة الخلافة، ويغيب تحفيز الأمة على الجهاد وتثبيطها عن نشر الإسلام وإنقاذ العالم من الكفر وحضارته الرأسمالية العفنة إلى عدل الإسلام ورحمته.
نداء للعلماء :
أيها العلماء الأجلاء الأتقياء الأنقياء الأصفياء المخلصين الأوفياء، يا من لا تخشون في الله لومة لائم، يا من حملتم راية الإسلام وميراثه العظيم، ويا من تحمون المسلمين وبيضة الدين، ويا من حملتم أمانة العلم والعمل، ويا من جلستم على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقمتم تتحدثون بالدين وتنصحون المسلمين، يا من جعلتم الله عليكم شهيدًا وكفيلًا، يا ورثة الأنبياء، ولم يورث الأنبياء إلا من يستحقون حمل الأمانة فأنتم أهل لها، يا من تعيشون في زمن زادت الحاجة لكم، فبهديكم تطمئن القلوب وتهتدي العقول، يا من سمَّاكم الله عز وجل بأهل الذكر؛ إذ يسألكم المسلمون عن كل كبيرة وصغيرة… فحذار أن تكونوا كالرهبان والقسِّيسين وكأحبار بني إسرائيل الذين باعوا دينهم بعرض من الدنيا حين حرَّفوا الكلم عن مواضعه وزيفوا دين الله على عباده… فحذار من الاستخزاء والتخاذل بسوء الإفتاء أو التأويل وإرضاء حكام الجور والفسق والتبعية والعمالة على حساب ربكم ودينكم؛ فتكونوا قد فزتم بدنياكم الفانية وخسرتم آخرتكم دار البقاء والخلود، فاحذروا من سنة الاستبدال والاستدراج؛ فحينها يكون قد وقع البلاء، واصبروا على البلاء فهو سنتكم كما كانت سنة من قبلكم من الأنبياء (يا من أنتم من وَرَثَتِهِمْ) والصحابة والتابعين والشهداء وثَبِّتوا وحمِّسوا وانصروا أمتكم وحثُّوها على إقامة الإسلام والدعوة إليه بإقامة دولة الخلافة حتى تستحقوا أن تكونوا أمناء هذه الأمة فهي وعد ربكم وبشرى رسولكم الكريم صلى الله عليه وسلم.
أيها العلماء المتقين، إن الله قلَّدكم هذا الأمر العظيم حمل الدين وتوجيه الأمة إلى ما يرضي ربها، وهو أمر ثوابه عظيم وعقابه شديد، وقد ائتمنكم الله هذه الأمانة العظيمة، وهو الإسلام بناء الأمة العظيم، وهو بذاته ابتلاء عظيم، ولا يلبث البنيان بغير تقوى الله أن يؤتى من القواعد فَيُهدم؛ فلا تضيعوا ما قلَّدكم الله من أمر الأمة، ولا تؤخِّروا واجباتكم، فبادروا الأجل بالعمل فإنه لا عمل بعد الأجل.
فأنتم الراعي للأمة بدينها، فأقيموا الحق ولا تزيغوا فتزيغ الرعية. وإياكم الأمر بالهوى والأخذ بالغضب فإنه مدعاة لضياع الحق، واختاروا أمر الآخرة على أمر الدنيا، واتقوا الله فإن التقوى بالتوقي، ومن يتقِّ الله يوقِّهْ، واعملوا لأجل مفضوض وسبيل مسلوك وطريق مأخوذ وعمل محفوظ ومنهل مورود فإن ذلك المورد الحق والموقف الأعظم الذي تطير فيه القلوب وتنقطع فيه الحجج لعلماء يخشون سلطانًا ظالـمًا ولا يخشون الله… علماء أبَوا أن يصدعوا له بالحق والإنكار عليه في موقف عظيم (هَٰذَا يَوۡمُ ٱلۡفَصۡلِۖ جَمَعۡنَٰكُمۡ وَٱلۡأَوَّلِينَ٣٨) [المرسلات: 38] فيالها من عثرة لا تقال، ويا لها من ندامة لا تنفع؛ فتُجزى في ذلك اليوم كل نفس بما كسبت، والله سريع الحساب.
فالله الله أيها العلماء، فإن البقاء قليل والخطب خطير والدنيا هالكة وهالك من فيها والآخرة دار القرار؛ فلا تلقَوا الله، أيها العلماء المساكين، وأنتم سالكون سبيل المعتدين، فإن ديَّان يوم الدين إنما يدين العباد بأعمالهم ولا يدينهم بمنازلهم، وقد حذركم الله عزَّ وجلَّ في محكم كتابه… فالحذر الحذرأيها العلماء، فإن الله لم يخلقكم عبثًا ولن تتركوا سدى، وإن الله سائلكم عما أنتم فيه وعما عملتم به؛ فانظروا ما الجواب، ولن تزول قدم عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن علمه ما عمل فيه، وعن عمره فيما أفناه، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيما أنفقه، وعن جسده فيما أبلاه؛ فأعدُّوا أيها العلماء الأجلاء جواب المسألة، فإنه أمر عظيم جليل في يوم تذهل المرضعة عما أرضعت ويكون الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد. فإن فعلتم خيرًا كان خيرًا لكم، وإن فعلتم شرًّا كان شرًّا لكم في حظِّكم وفي كتابكم، وحينها تقولون: يا ليتنا لم نخلق، واثكلانا، يا ليتنا لم نوجد في هذه الدنيا وحينها لا يجدي الندم ولات حين مناص.
أيها العلماء، يا حماة الدين وحملته، إنه ليس أحب إلى الله من الإصلاح ولا أبغض إليه من الفساد والعمل بالمعاصي؛ فاستتمُّوا واجباتكم نحو أمتكم وحكامكم، فإنه أمركم بتعليمهم وتثقيفهم بما يرضي ربهم عنهم وينفعهم في دنياهم وآخرتهم ليتمكنوا من نشر الدين واتخاذه رسالة لهم في حياتهم وليقيموا إسلامهم بإقامة دولتهم فهي الحارس وكما قال رسول الأمة: «الإسلام والسلطان أخوان توأم، لا يصلح واحد منهما إلا بصاحبه. فالإسلام أس والسلطان حارس، وما لا أس له منهدم وما لا حارس له ضائع». وهذا هو حالنا اليوم، فالإسلام منهدم لا يوجد كمبدأ: عقيدة ونظام حياة… فالحال اليوم: مسلمون من دون حارس، من دون دولة تطبقه. فيا أيها العلماء، هلُّموا لنجدة الدين وإقامة دولته، فبها يطبق الإسلام، وينشر كرسالة في الحياة، وتحمى به بيضة الدين، وتعاد أراضي المسلمين المحتلة، ويزول الفساد والكفر والفسق… فلتشمِّروا عن سواعدكم يا أحباب رسول الله ونصراءه، ولتتوبوا توبة نصوحًا، وتوطِّنوا أنفسكم للقاء الله بالشهادة، فما عيش إلا عيش الِآخرة، واقتدوا برسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تبعه من الصحابة والتابعين وعلماء الحق، حفظكم الله ورعاكم وثبتكم على الحق، فالأمة لا تعزُّ إلى بكم، فحذار أن يستبدلكم من يبدل الأحوال ويخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي (وَٱللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰٓ أَمۡرِهِۦ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ).
2023-10-26