الطعن في السنَّة طعن في الدين (السنة النبوية بين العمالقة والأقزام)
2023/04/08م
المقالات
780 زيارة
خالد الأشقر – أبو المعتز
لقيت العناية بالسنة النبوية الشريفة عناية فائقة باعتبارها مصدرًا أساسيًّا من مصادر التشريع الأربعة: وهي الكتاب والسنَّة وإجماع الصحابة والقياس الشرعي، وقد جهد علماء المسلمين الأوائل من التابعين في جمع السنَّة أقوالًا وأفعالًا وتقريرات، واعتنَوا بالأسانيد والمتون وعلوم مصطلح الحديث، حتى قيل إنه لم يبذل الجهد في علم من العلوم كما بذل في علم الحديث.
وقد أصبح لهذا العلم مدارس في كل بلد حكمها المسلمون ودخلوها بالفتوحات، وقد تلقَّى علماء المسلمين هذا العلم من شيوخهم، إما بالمدارسة على الشيخ أو بالسماع أو بالإجازة، وشيوخهم أخذوا ممن سبقهم من الصحابة والتابعين حتى وصل الأمر إلى عهد التدوين الذي قيل إن أول من أمر به الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز لما أمر الزُّهري على رأس المئة الثانية بتدوين الحديث وحفظه للأجيال، وإن كان بعض العلماء قد رجَّح بأن أول من طلب تدوين الحديث هو عبد العزيز والد عمر يوم كان أميرًا لمصر، وذلك في منتصف العقد الهجري الثامن، أي في سنة 75 للهجرة، لما طلب من كثير بن الحضرمي الذي أدرك سبعين بدريًا من الصحابة في حمص وأمره أن يكتب إليه بما سمع من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا حديث أبي هريرة فإنه كان عنده، وبذلك بدأ التدوين رسميًّا لقسط كبير من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك العصر، ويكون ما فعله عمر بن عبد العزيز من العناية بالحديث ومطالبة العلماء في الأقطار المختلفة بكتابته والجلوس لمدارسته ليس إلا امتدادًا لما شرع فيه أبوه من قبل، وهو رأي يرجحه ما عرف عن السلف من الحرص على حفظ السنَّة والعمل بها. وأيًا كان الراجح أو المرجوح، فإن السنَّة النبوية قد تم تدوينها سندًا ومتنًا في بواكير حياة المسلمين وابتداء الوحي فيهم، ولعلَّنا فيما يسمح به المقام نبيِّن بعض الأمور التي ننصبها قواعد وأسسًا لفهم الموضوع، ثم بعد ذلك نبيِّن ما تتعرض له السنة من افتراءات وكذب، ولماذا يتعرض علماؤنا الكبار من أمثال البخاري ومسلم للطعن والتجريح ممن لم يشتغل بعلم الحديث ورجاله يومًا، فنقول وبالله التوفيق:
يذكر بعض من يجهل كيف تمَّ جمع الحديث وتدوينه أن السنَّة النبوية إنما جرى تدوينها في القرنين الثاني والثالث الهجريين زمن البخاري ومسلم وبعض من أصحاب السنن، ويزعم هؤلاء أن طول المدة بين حياة النبي عليه الصلاة والسلام ومرحلة التدوين يجعل الوثوق والاطمئنان بجمع الحديث محل شك وريبة، فكيف يحصل الاطمئنان بسند فيه ستة رجال أو سبعة؟ وهكذا تساق الشبهات للطعون، وهذا الأمر ربما سلَّم به البعض وقَبِله أصلًا ومنطلقًا للطعن في البخاري ومسلم وتلاميذهما من أصحاب السنن، وهذه الحجة داحضة كما سنبيِّن ذلك فيما يلي:
أولًا: إن كتابة الحديث وتدوينه، وإن لم يكن بالشكل المعروف من التدوين باعتباره علمًا وفنًّا قد جرى منذ عهد الصحابة رضوان الله عليهم، فقد كان لعبد الله بن عمرو بن العاص صحيفة تسمى»الصادقة» فيها الكثير من الأحاديث التي سمعها وأخذها عبد الله بن عمرو من النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك كان مثلها لأبي هريرة وجابر، وكان مثل ذلك للتابعي وهب بن منبه تلميذ ابن عباس، وقد صحَّ عن أبي هريرة أنه قال: «ما مِن أصْحَابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أحَدٌ أكْثَرَ حَدِيثًا عنْه مِنِّي، إلَّا ما كانَ مِن عبدِ اللَّهِ بنِ عَمْرٍو؛ فإنَّه كانَ يَكْتُبُ ولَا أكْتُبُ» صحيح البخاري. وقد صحَّ أيضًا عن عبد الله بن عمرو أنه قال: «كنتُ أَكْتبُ كلَّ شيءٍ أسمعُهُ مِن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أريدُ حفظَهُ فنَهَتني قُرَيْشٌ عن ذلِكَ وقالوا: تَكْتُبُ ورسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ في الغضَبِ والرِّضا، فأمسَكْتُ حتَّى ذَكَرتُ ذلِكَ لرَسولِ اللَّهِ ﷺ فقالَ: «اكتُب، فوالَّذي نَفسي بيدِهِ ما خرجَ منهُ إلَّا حقٌّ»» أخرجه أحمد في المسند. وقد صحّ أيضًا عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «قَيِّدُوا الْعِلْمَ بِالْكِتَابِ». رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم. وإذًا، فإنه ليس صحيحًا أن الصحابة والتابعين لم يكونوا يكتبون الحديث ويدونونه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما ما صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَنْ كَتَبَ عَنِّي غَيْرَ الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ» صحيح مسلم، فإنه لا يصلح دليلًا على عدم جواز الكتابة؛ فإن العلماء يقولون إن هذا النهي كان في ابتداء الأمر وبداية عهد التنزيل؛ وذلك خشية أن يجتمع مع القرآن ما ليس منه، وخشية الانشغال بالحديث عن حفظ القرآن، وقد صحَّ عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه أذنَ في الكتابة لأبي شاه؛ وقد كان ذلك في حجة الوداع، بمعنى قبيل وفاته صلى الله عليه وسلم والتحاقه بالرفيق الأعلى فقال: «اكْتُبُوا لِأَبِي شَاهٍ» رواه مسلم.
وقد كانت الكتابة لحديث من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم فلا يصلح مع كل هذا أن يُقال إن الحديث قد جرت كتابته بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. على أننا لا ننكر أن عهد التدوين بمعناه الاصطلاحي لم يجرِ إلا في عهد التابعين زمن كثير بن الحضرمي أو الزهري، وليس تدوين الحديث ببدع من أي علم جرى تدوينه؛ فالعلم يسبق تدوينه، بمعنى أن التدوين في أي علم لا يمكن أن يُصنع من فراغ، بل لا بد من أن يكون التدوين مسبوقًا بالمعارف الأساسية لهذا العلم، وما نقوله عن علم الحديث نقوله عن علم الأصول والنحو وغيره، فليس معنى أن الشافعي هو أول من دوَّن علم الأصول مثلًا في رسالته أن الناس قبله لم تكن تعرف العام والخاص والمطلق والمقيد ودلالة الأمر والقياس وخبر الآحاد. وليس معنى أن يُنسب علم النحو لأبي الأسود أو الخليل أو سيبويه أن هؤلاء هم من أوجد هذا العلم من عدم، فالعرب كانت ترفع الفاعل ونائبه وتنصب المفاعيل وتلحق النعت بمنعوته قبل الخليل وسيبويه وأبي الأسود، فكل علمٍ جرى تدوينه وأصبح علمًا وفنًّا برأسه، فإنه لا بد سبقه أصول وأسس وقواعد بني عليها هذا التدوين وهذا الفن، وما نقوله عن أي علم من العلوم الشرعية أو التي كان الإسلام سببًا في بحثها نقوله عن علم الحديث، فالحديث ثبتت أركانه في زمن الصحابة بل في زمن التنزيل وجرت كتابته حتى أصبح علمًا مكتملًا بعد أن تم تدوينه، ثم بعد تدوينه اكتمل علم فن الجرح والتعديل وعلم مصطلح الحديث وعلل الرواية والراوي وغير ذلك من الأمور، فعلم الحديث كباقي علوم الشريعة أو التي كانت الشريعة سببًا في تدوينها، وما تم توثيقه أو تدوينه في جمع الحديث أو معرفة صحيحه من ضعيفه بل حتى علم ما يتعلق بالجرح والتعديل، فإن كل ذلك عرفه الصحابة ومن بعدهم من التابعين حتى وصل الأمر إلى اكتمال هذا العلم وبلوغه الحد بحيث لم يعد بحاجة إلى الزيادة عليه، اللهم إلا ما كان من النظر في المتون، فإن ذلك باب مفتوح إلى يوم القيامة على أن لا يدخله إلا من توفرت فيه شروط أهل الصنعة وأرباب الفن، ونقصد بالنظر في المتون هو النظر في فقه الحديث واستنباط الحكم منه، فهذا باب في علم الدراية لم يغلق.
ثانيًا: إنه لا يتصور أن الصحابة الذين يحرص أحدهم على التأسّي بالنبي صلى الله عليه وسلم في كل حركة وسكون في حلِّهم وتَرحالهم، بل إن أحدهم ليحرص على متابعته صلى الله عليه وسلم حتى في المباح من الأفعال، فهذا عبد الله بن عمر الذي كان يتأسَّى بالنبي صلى الله عليه وسلم حتى في قضاء حاجته، وكان إذا سئل في ذلك قال: (لَّقَدۡ كَانَ لَكُمۡ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسۡوَةٌ حَسَنَةٞ) وهذا الصدِّيق أبو بكر رضي الله عنه قد بلغ به حبُّه لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: «فَشَرِبَ حَتَّى رَضِيْتُ» البخاري. وهذا عمر رضي الله عنه يذكر علة كشف الصحابة عن مناكبهم وهرولتهم بعد فتح مكة وهم يطوفون؛ وذلك حتى يرى المشركون بأسهم وقوتهم وبالرغم من زوال علة ذلك؛ إلا أنه رضي الله عنه كان يقول: «لا ندَعُ شَيئًا كنَّا نَفعَلُه على عهدِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم» سنن أبي داود.
إذًا فلا يُتصور مع كل هذا الحرص وهذا الحب لرسولهم صلى الله عليه وسلم أن يَدَعوا أقواله أو أفعاله عرضة للنسيان أو حتى السهو؛ لذلك كان حرصهم شديدًا في نقل كل ما كان منه صلى الله عليه وسلم، سواء أكان ذلك بالكتابة والتدوين كما فعل عبد الله بن عمرو، أم بالأفعال كما كان يصنع بعض الصحابة فيعلمون الناس الصلاة مثلًا بأفعالهم، أم كأن ينعقد إجماعهم على أمر علموه من النبي صلى الله عليه وسلم فنقلوه لنا بالفعل دون القول كإجماعهم على تأخير دفن النبي صلى الله عليه وسلم حتى استقرَّ رأيهم على أبي بكر خليفة للمسلمين، مع أن دفن الميت عقيب وفاته واجب ولا يجوز تأخيره، بل يجب الاشتغال بتجهيزه ودفنه، فلما اشتغل الصحابة رضي الله عنهم بتنصيب خليفة عن دفن ميتهم، وهو هنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومثلهم لا يجتمع على فعل منكر أو ترك واجب، علمنا بالضرورة أن اشتغالهم بتنصيب الخليفة عن دفن الميت هو أمر لهم فيه سبق تشريع؛ ولكنهم نقلوه لنا بالفعل لا بالقول.
ثالثًا: جاء ثناء من النبي صلى الله عليه وسلم على من ينقل حديثًا أو يعلِّم شيئًا من الدين، فقد جاء في الحديث: «نَضَّرَ اللهُ امْرَءًا سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَحَفِظَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ غَيْرَهُ، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ» سنن الترمذي. وذكر الحفظ هنا والثناء على صاحبه بنضارة الوجه يشمل حفظ الحديث، إما صدرًا وإما سطرًا؛ بمعنى سواء أحصل ذلك الحفظ غيبًا واستحضارًا من الذاكرة أو كان بالتدوين والكتابة، فكل من علَّم غيره حديثًا فإن له بذلك أجرًا، وعلامة الأجر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له بنضارة الوجه، وهو كناية عن عظم الأجر ورفع الدرجات، فإذا أضفنا هذا الفهم لما تمَّ تقريره سابقًا من أن الحديث قد جرت كتابته وتدوينه زمن النبي صلى الله عليه وسلم، خرجنا بنتيجة أن الحديث جرى نقله وكتابته وتداوله في الصحف والعمل به قبل عهد التدوين، وكان عمل البخاري ومسلم وأصحاب السنن والمسانيد رحمهم الله لا يتجاوز تدوين ما تمَّت كتابته، بعد التحقُّق من عدل الرواة وضبطهم وسماعهم.
رابعًا: إن تعليم الحديث جاء في وقت مبكر من حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه كان للصحابة مراكز تعليمية هي أقرب إلى المدارس العلمية والفقهية، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدِه أصحابه يرسلون إلى البلدان التي فتحت من يعلّم الناس، سيما بعد أن علا شأن الإسلام وكثرت فتوحاته؛ ففي المدينة المنورة حاضرة الدولة الإسلامية الأولى كان الصحابة يشاهدون النبي صلى الله عليه وسلم ويلتفون حوله يسمعون منه الحديث ويشهدون قضاءه وقسمته للغنائم واستنفاره للجيش ويذهب بعضهم للجهاد وبعضهم يبقى يتعلم منه ويسمع أحاديثه، حتى إذا جاء من غاب منهم في ساحات الجهاد عاد وسمع من إخوانه الصحابة ما كانوا سمعوه فحفظوه أو سمعوه فدوَّنوه، وهكذا يتداول القوم مجالسه صلى الله عليه وسلم، فهذا يجاهد وهذا يسمع وينقل، وفي المعنى هذا جاء قوله تعالى: (۞وَمَا كَانَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةٗۚ فَلَوۡلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرۡقَةٖ مِّنۡهُمۡ طَآئِفَةٞ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوۡمَهُمۡ إِذَا رَجَعُوٓاْ إِلَيۡهِمۡ لَعَلَّهُمۡ يَحۡذَرُونَ) [التوبة: 122]. وهكذا تخرّج من مدرسة المدينة جيل تتلمذ على يد الصحابة يعلِّمون ويتعلمون من أمثال سعيد بن المسيب وابن شهاب الزهري وغيرهم، وفي مكة بعد الفتح استخلف النبي معاذًا أعلم الناس بالحلال والحرام، وقد كان يعلم أهلها ويفقههم بالقرآن ويقرئهم إياه مع تعليمهم حديث النبي صلى الله عليه وسلم. وأيضًا كان في مكة من التابعين الذين تتلمذوا على أيدي الصحابة مثل مجاهد وعكرمة وغيرهما… ولم تكن الكوفة والبصرة بأقل شأنًا من مكة والمدينة، فقد نزل فيها علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص والعشرات من أصحاب الشجرة وأهل بدر، وكان فيها من التابعين سعيد بن جبير وإبراهيم النخعي والحسن البصري وابن سيرين وقتادة وغيرهم… فكانت مجالس الصحابة والتابعين أشبه بمدارس متخصصة أو جامعات متقدمة في تعليم القرآن والحديث وتخريج الطلاب وإعطائهم شهادات وإجازة في تعليم ما تعلَّموه؛ ولذلك فإن الادِّعاء بأن البخاري ومسلمًا رحمهما الله أو أصحاب السنن هم مَن كتب الحديث أو جمعه من فراغ بعد قرنين أو ثلاثة هو ادِّعاء لا يصمد أمام هذه الأدلة؛ فالتعليم بالقرآن والحديث لم ينقطع منذ زمن صلى الله عليه وسلم وبدء نزول الوحي لا حفظًا ولا تدوينًا وكتابة، وقد كان تعليم الحديث وجلسات تعليمه ومدارسته أشبه بعمل خلايا النحل في ذلك الزمن.
خامسًا: إن البخاري ومسلمًا ومن دونهما من علماء الأمة الربَّانيين ليسوا معصومين عن الخطأ أو السهو، فهم بشر يخطئون ويصيبون، وإن كتبهم وما دوَّنوه من الأحاديث فيها لم تكن بمنأى عن انتقاد جهابذة العلم وأرباب الصناعة لبعض ما جاء في كتبهم؛ فهذا الدارقطني رحمه الله الغنيُّ عن التعريف يتعرض للبخاري ومسلم في رجالهما رجال السند الذين ظُنَّ أنهم ليسوا على شرط الإمام البخاري أو مسلم ما جعل ابن حجر رحمه الله في تغليق التعليق على صحيح البخاري يجعل في شرحه وفتحه ردًّا وتفنيدًا على ما قاله الدارقطني من الأحاديث التي انتقدها على البخاري أو مسلم، وكذلك فعل البغدادي؛ إلا أن هؤلاء كان دافعهم في عملهم هو الدفاع عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم، والذود عن حياضها وإبعاد كل ما من شأنه أن يلتصق بها وهو ليس منها، وبهذا يكون لبعضهم أجر واحد ولبعضهم الآخر أجران إن أصاب، فالنقد لحديث أو عشرة من أحاديث البخاري أو مسلم أو غيرهم كان نقدًا لخدمة الدين وليس نقدًا لهدم الدين بحجة أن السنَّة جُمعت بعد قرنين أو ثلاثة! فحلبة الصراع كانت بين أقران وعلماء عظام، وكلٌّ من هؤلاء العلماء يبتغي بعمله وجه الله تعالى والدفاع عن سنَّة النبي صلى الله عليه وسلم، فلم تكن الغاية ترك السنة أو ترك العمل بها أو إبطال ما جاء في البخاري ومسلم أو غيرهما؛ لذلك بقي البخاري ومسلم رحمهما الله عند الأمة ممن أسدى للدين خدمة هي الأعظم. وإذا جاز لنا أن نقول إن الله اصطفى أبا بكر ليجمع القرآن فإنه اصطفى البخاري ومسلمًا وغيرهما من أصحاب السنن والمسانيد والمستدركات والمصنفات لجمع السنَّة، على أننا لا ندعي القداسة لأي منهم ولم يدَّعِها أحد منهم لنفسه أو لكتابه؛ لكننا مع ذلك نقول بأنه لا ينبغي لأحد لا يحمل شيئًا من أدوات الصنعة أو أبجديات المهنة أن يتعرض لأصحابها أو ينكر عليهم شيئًا من علمهم وهو ليس أهلًا لذلك. وليس هذا في علم الحديث فقط ولكن في كل علم، فمثلما أن هناك صنعة في الطب والهندسة والنحو فكذلك هناك صناعة في الحديث لا ينبغي أن يزاولها إلا من امتلك أدواتها وتعلم فيها وشهد له أهلها أنه قادر على ممارستها والخوض في غمارها؛ وإلا فإنه إن مارسها من تلقاء نفسه فإنه سيصبح أضحوكة بين أرباب الصنعة وأهل المهنة، ولعلنا نشاهد ما تطفح به بعض الفضائيات عندما تستضيف بعض «الأراجوزات» ليتحدثوا في البخاري ومسلم مع أن أحدهم لا يجيد قراءة الحديث الذي يريد انتقاده!
هذه هي الأمور الخمسة التي أردت أن أضعها بين يدي القارئ الكريم قبل أن نتحدث في الشطر التالي من المقال حول الحملة الممنهجة التي تتعرض لها السنَّة النبوية الشريفة باعتبارها المصدر الثاني من مصادر التشريع عند المسلمين بعد القرآن الكريم، بل إن السنَّة هي الشارحة والموضِّحة والمبيِّنة لما جاء في كتاب الله، فأقول مستعينًا بالله:
لقد نال البخاري القسط الأكبر من النقد باعتبار الأحاديث التي في صحيحه هي أصح ما جاء في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، ودرجته عند المسلمين تأتي بعد كتاب الله سبحانه وتعالى؛ إلا أنه سبحانه يأبى أن يعصم إلا كتابه، ولما لم يكن لهؤلاء قِبَلٌ بتغيير شيء من الكتاب فإنهم وجدوا ضالَّتهم في السنَّة يشككون في طريقة وصولها إلينا، وسلكوا لذلك سبيلين؛ سبيل الطعن في الرواة وسبيل الطعن في المروي، فتعرضوا لراوية الإسلام رضي الله عنه أبو هريرة؛ فقد ناله القسط الأكبر من الطعن ووجَّهوا سهامهم لصحيح البخاري بحجة أن بعض ما جاء في مروياته تخالف القرآن الكريم، وقد زعموا أنهم قرآنيون وأنهم بذلك يدافعون عن القرآن الكريم، مع أن المتابع لأقوالهم وأفعالهم يعلم أنهم ما انتفضوا يومًا أو خرجوا ليدافعوا عن القرآن، سيما وأن السفهاء من الأوروبيين يتطاولون على الأمة الإسلامية بحرق القرآن في فرنسا وهولندا والسويد وغيرها… ولم نجد هؤلاء (القرآنيين) خرجوا يومًا في مسيرة تدافع عن القرآن الكريم، ما يدل على أن هؤلاء يتدثَّرون بالقرآن ويحتمون خلفه خشية غضبة الأمة الإسلامية عليهم، وإلا فإنهم يحلمون في ذلك اليوم الذي يندرس فيه القرآن والسنَّة. إن هؤلاء قد جمعتهم مشكاة واحدة منها خرجوا، وإن معلمهم واحد، وإن هدفهم ليس البخاري فقط، وإنما هدفهم هدم الإسلام كاملًا والقضاء عليه، فهؤلاء ومن خلفهم يدركون أنهم إن أفلحوا أو نجحوا في التشكيك بأعظم كتاب مثل الجامع الصحيح للبخاري وبأعظم راوٍ مثل أبي هريرة فإن المهمة بعد ذلك ستكون سهلة؛ لذلك سلَّطوا سهامهم على أبي هريرة من الرواة؛ ذلك لأنه أكثر الصحابة رواية عن رسول الله، وعلى البخاري من الكتب لأن كتابه أصح كتاب بعد كتاب الله سبحانه وتعالى، وهذا النقد من هؤلاء جزء من مسلسل يعمل عليه سادتهم، وهو نزع الناحية العملية من الإسلام، فالسنَّة في شرحها وبيانها وتفصيلها أقوالًا وأفعالًا هي التي تجعل تنفيذ ما جاء في القرآن مجملًا أو عامًّا أمرًا تشريعيًّا وعملًا مشاهدًا، بمعنى أن القرآن لا غنى له عن السنَّة من حيث التفصيل والبيان، وإذا جرى الطعن في السنَّة والتشكيك في طريقة وصولها إلينا بقي القرآن في جُله دون شكل لتنفيذ آياته وتفصيل مجمله؛ فالصلاة وشكل الحج والصيام وكيفيته، كل ذلك وغيره ما كنا لنعلمه لولا السنَّة، وقد جاء هذا الكلام صريحًا لبعض منكري السنَّة، فهذا أحدهم يقول: «أصبحت المحرَّمات والمسلَّمات والثوابت السابقة المزعومة مادة ممكنة للبحث والاستنباط والتمحيص والمناقشة، واستخراج سوءاتها وسيئاتها، وتعرية رجالها لنتعلم من أخطائها، ولنفرق من خلالها بين الإسلام والمسلمين وبين ما في القرآن وما طبَّقه المسلمون، ولنتعلم كيف نقف مع الحق ولو كان ذلك على حساب رجال كنا نعدُّهم من الصالحين ظاهريًّا من الصحابة والتابعين والفقهاء»، فهؤلاء لم يعودوا يخفون ما يصبو إليه سادتهم ويعملون هم على تنفيذه، فالاشتغال في ضرب السنَّة هو صنعة هؤلاء الذين لم يجدوا سبيلًا لضرب الإسلام إلا هذا السبيل، وقد كان من اللافت حقًّا خروج هؤلاء من جحورهم دفعة واحدة. وبهذا العدد الكبير بحيث تفتح لهم المواقع والصفحات، وإن محاضراتهم يدعى لها في الفضائيات صباح مساء ليتبين أن وراء هؤلاء هيئات ومراكز ودول، فها هي مؤسسة راند الأمريكية أصدرت تقريرًا قبل سنوات تحت عنوان «حرب الأحاديث» جاء فيه: «إن معظم الجهود الحالية لإصلاح الإسلام ترتكز حول الخلاف على أحكام وممارسات محدَّدة فيه هي محل انتقاد من غير المسلمين، وبخاصة أنها لا تتناسب مع العصر الحديث»، ثم تنتقل الدراسة نفسها إلى التشكيك بأهم مصادر الحديث الشريف مثل صحيح البخاري وتخلص مؤسسة راند إلى «أن احتضان إسلامٍ أكثر ديمقراطية يتطلب العمل على ثلاثة خطوط متوازية فيما يتعلق بموضوع الحديث الشريف، ونحن هنا نذكر واحدًا من هذه الخطوط: يجب تثقيف العامة وتعليمهم بشكل أفضل كيفية فهم دينهم بأنفسهم دون حاجة إلى البقاء تحت رحمة سلطة دينية غير نزيهة، نصبت نفسها بنفسها، وحتى يحدث ذلك يجب توفير مادة من الأحاديث المناقضة لما هو بين يدي العامة لخلق مجتمعات أكثر تسامحًا ومساواة وديمقراطية ثم تشجيع الاجتهادات الفقهية التي يقوم بها بعض الفقهاء هنا وهناك ممن لم يحصنوا أنفسهم بمدرسة فقهية معينة». فهم يريدون أناسًا لا تضبطهم قوانين الفتوى ولا المدارس الفقهية ولا قواعد أصول الفقه، بل إنهم يريدون أن يجتهد كل واحد لنفسه فيأخذ رأيه كيفما اتفق! وربما هذا الأمر الذي نلقاه اليوم من ضرب المراكز التي كانت تقوم يومًا على أفعال الناس وتصرفاتهم مثل الأزهر الشريف بل وحتى هيئة كبار العلماء في بلاد الحرمين دليل على ما تسير عليه الأنظمة ومن يخدمها من أرباع العلماء في جعل الناس منفلتة في أفهامها واجتهاداتها. وزادت المؤسسة القول بأنها تريد أولئك الذين «يمزجون القوانين الإسلامية بالقوانين المدنية ليخرج باجتهادات جديدة، ومثل هذه الجهود المتفرِّقة يجب جمعها ووضعها بين يدي الفقهاء والمهتمين من الجمهور في العالم الإسلامي». وما لبثت هذه التوصيات أن وجدت صداها عند بعض المتربِّصين بالإسلام وأهله؛ فهذا مركز ابن خلدون في مصر يعقد مؤتمرًا سياسيًّا دينيًّا يدعو إلى إصلاح الدين الإسلامي بحضور سفارتي أمريكا وكيان يهود وهيئة المعونة الأمريكية.
إن الغرب الكافر ومن يسير في ركبه ويعمل معه من حكام ورجال دين ينقمون على هذه الأمة التزامها بثوابتها وعدم تحريفها الإسلام كما حرَّفوا هم، أي الكفار من اليهود والنصارى، دينهم؛ لذلك تراهم يريدون من الأمة الإسلامية أن تبدِّل دينها حتى تصبح الأمة الإسلامية والغرب الكافر سواء (وَدُّواْ لَوۡ تَكۡفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءٗۖ) [النساء: 89].
إن السنَّة النبوية لا يصحُّ فصلها عن القرآن بحال، وإن هدمها أو النيل منها هو ضرب للدين وهدم للعقيدة، وإن أهل الإسلام ،علماءهم وعامَّتهم، لا يفرِّقون بين السنَّة والقرآن من حيث كونهما مصدرين أصيلين من مصادر التشريع، بل إن حاجة القرآن إلى السنة حاجة دائمة فلا يصحُّ الفصل بينهما؛ فالسنَّة كالقرآن من حيث إن كُلا من القرآن والسنة مصدرهما واحد وهو الوحي، غير أن الأول جاء به الوحي لفظًا ومعنًى، والثاني جاء الوحي به معنًى لا لفظًا، ولم يكن في تاريخ الأمة الإسلامية من كان يفرق بين القرآن والسنَّة في الأخذ والعمل، وإن الآيات القرآنية أظهرت هذا وبيَّنته على وجه يمنع الاجتهاد والرأي، قال تعالى (قُلۡ إِنَّمَآ أُنذِرُكُم بِٱلۡوَحۡيِۚ) [الأنبياء: 45]، وقال تعالى: (قُلۡ مَا يَكُونُ لِيٓ أَنۡ أُبَدِّلَهُۥ مِن تِلۡقَآيِٕ نَفۡسِيٓۖ إِنۡ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰٓ إِلَيَّۖ) [يونس: 15]، فالسنَّة مصدرٌ مستقلٌّ بنفسه من مصادر التشريع لا ينفك عن القرآن ولا ينفصل عنه، هذا أمر فرغنا منه وانتهينا من المحاورة فيه.
والخلاصة، إن الجهود التي يبذلها الغرب والشرق وأدواتهم من الحكام والمطايا لن ينالوا من دين الأمة أو عقيدتها شيئًا، ومثلما حفظ الله القرآن فإنه كذلك حفظ السنَّة، وإن الإسلام لا يتمُّ ولا يكتملُ إلا بهما ولأننا آمنَّا بقوله سبحانه: (ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗا) [المائدة: 3]، وإكمال الدين وإتمام النعمة وكونه سبحانه أراد منا أن نكون مسلمين لا يتحقق ذلك إلا إذا آمنا بأن السنة هي وحي من الله تعالى؛ لذلك فإننا على يقين بأن السنَّة لا يضرها أي سفيه أو عميل يشاغب عليها أو يعمل لضربها، فالإسلام محفوظ بمصادره الأربعة لا تبطله سفاهة سفيه ولا ينال من جنابه العظيم دولة أو حاكم أو عالم، وإن النصر بإذن الله قد لاحت أنواره واقترب أوانه، وعندما تعود الأمة الإسلامية سيرتها الأولى وتحكم بشريعة ربها قرآنًا وسنًة في دولة الخلافة، فإن من انشقت عنهم جحور الأرض وخرجوا لينالوا من القرآن والسنَّة ستطمرهم الأرض كما طمرت أبا لهب وأبا جهل (إِنَّهُمۡ يَرَوۡنَهُۥ بَعِيدٗا ٦ وَنَرَىٰهُ قَرِيبٗا ٧).
2023-04-08