«إن الله يحب معالي الأمور ويكره سفسافها»
2023/04/08م
المقالات
941 زيارة
يوسف أبو إسلام-الأرض المباركة فلسطين
يتفاوت الناس في أمنياتهم وتطلعاتهم؛ وذلك لتفاوتهم في مستوى تفكيرهم وفي نقاء أفكارهم ووعيهم. فبعض الناس لا يتجاوز في تفكيره وأمانيه المحيط الذي يحيط به، فتراه إن تمنَّى شيئًا أو طالب بشيء فإنما يطلب ما يوحيه إليه تفكيره السطحي والبسيط. فقد ذكر أهل السير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بعض أسفاره نزل عند أعرابي فأكرمه ذاك الأعرابي، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجزيه فقال له: «يا أعرابي سل حاجتك» قال: يا رسول الله، ناقة برحلها، وأعنزًا يحلبها أهلي. قالها مرتين، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعجزت أن تكون مثل عجوز بني إسرائيل؟». فهذا الأعرابي لم يطلب إلا ما يلزمه ضمن مستوى المعيشة التي يحياها، وهذا ما هداه اليه تفكيره البسيط؛ ولكنه، عليه الصلاة والسلام، يريد منا أن نرتقي في همتنا وتطلعاتنا.
فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللهَ تعالى يُحِبُّ مَعاليَ الأُمورِ، وأَشرافَها، ويَكرَهُ سَفْسافَها»
فالذي يملك الوعي والأفكار النقية تجده يصوِّب أنظاره نحو الأهداف السامية، فهو ليس قصير نظر، ولا هو ممن تُسكتهم الألهيات البسيطة، والمكاسب الآنية الأنانية، فهو لا ينافس على سلطان هزيل يقام على بقعة من الأرض ليس لها حدود بحرية أو سيادة حقيقية، هكذا كان حال رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما ساومه قومه على ما يحمل من دعوة، فعرضوا عليه ملكًا خاليًا من دعوة لا إله إلا الله فأبى، وعرضوا عليه أان يكون أغنى الناس فأبى، وعرضوا عليه الزواج من أجمل النساء فأبى. فأنظاره عليه الصلاة والسلام، كانت تتطلع نحو فارس والروم؛ ليكون هو سيد الكون بما يحمله من دين الإسلام دين الرحمة للعالمين، بينما كفار مكة كانوا يساومونه على سلطة محلية، وأموال طائلة، وما درَوا أنه في وادٍ وهم في وادٍ.
وهكذا تربَّى أصحاب رسول الله، أن تكون هممهم إلى حيث تكون عزة الإسلام وسيادته؛ ولذلك كان بعض الصحابة عندما يسمعون رسول الله وهو يحدثهم عن مستقبل الإسلام، وأن هذا الدين سيظهر على الدين كله، عندما يسمعون مثل هذه البشائر النبوية، كانوا يطلبون من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يليق بهممهم؛ لأنهم مقتنعون أن وعد الله وبشرى رسوله لا بد كائن مهما كان الواقع صعبًا أو ينطق بخلافه. فقد كانت هممهم عالية وكانوا ينطلقون بقوة نحو تحقيق وعد الله وبشرى رسوله بهمم تناطح الجبال وتحلِّق فوق السحاب، فقد جاء في كتاب الأموال لأبي عبيد أن تميمًا الداري قال: يا رسول الله، إن الله مظهرك على الأرض كلها، فهَب لي قريتي من بيت لحم، فقال صلى الله عليه وسلم: « هي لك، وكتب له بها»
وروى قيس بن أبي حازم عن عدي بن حاتم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثلت لي الحيرة كأنياب الكلاب، وإنكم ستفتحونها»، فقام رجل فقال: هب لي يا رسول الله ابنة بقيلة».فقال: «هي لك»… هذا كان في السنة الخامسة للهجرة، وهذا الرجل الذي طلب ابنة بقيلة واحد من عوام المسلمين ، فطلب ما طلب معتقدًا بصحة ما سمع من الرسول متيقنًا أن ابنة بقيلة قطعًا له؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر الخبر وأعطاه إياها، في الوقت الذي كان المنافقون في المدينة يعلِّقون على قول المصطفى صلى الله عليه وسلم إنه يعدهم بفتح فارس والروم، وأخذ المنافقون ينفثون مكنون نفوسهم، ويعملون على نشر الوهن والخذلان في صفوف المؤمنين، ويُكذِّبون وعد الله ورسوله بالفتح، يقول تعالى: (وَإِذۡ قَالَت طَّآئِفَةٞ مِّنۡهُمۡ يَٰٓأَهۡلَ يَثۡرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمۡ فَٱرۡجِعُواْۚ) [الأحزاب: 13]، وأخذوا يتندّرون بأحاديث الفتح ويَسخرون منها، وقالوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: يُخبركم أنه يُبْصِر قصور الحيرة ومدائن كسرى وأنتم تحفرون الخندق لا تستطيعون أن تبرزوا، قال تعالى: (وَإِذۡ يَقُولُ ٱلۡمُنَٰفِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ مَّا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ إِلَّا غُرُورٗا١٢) [الأحزاب: 12]. وكانوا يحرّضون أهل المدينة على ترك الصفوف والعودة إلى بيوتهم، ويتعذّرون بأن بيوتهم عورة، وقد فضحهم الله تعالى في قوله: (وَيَسۡتَٔۡذِنُ فَرِيقٞ مِّنۡهُمُ ٱلنَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوۡرَةٞ وَمَا هِيَ بِعَوۡرَةٍۖ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارٗا) [الأحزاب: 13].
وما هي إلا سنوات ما بلغت العشر إلا ويكتب خالد بن الوليد لأهل الحيرة كتاب أمان، فكان الذي راوده عليه عمرو بن عبد المسيح ابن بقيلة، ثم دعاهم وسألوا خالدًا الصلح فصالحهم، وكتب لهم كتابًا بالصلح، وأخذ منهم أربعمائة ألف درهم عاجلة، ولم يكن صالحهم حتى سلموا «كرامة» بنت عبد المسيح إلى رجل من الصحابة يقال له: «شويل» وذلك أنه لما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قصور الحيرة كان قد طلب هذا الرجل من رسول الله أن يهبه ابنة عمرو بن عبد المسيح فوهبها له رسول الله قبل أن يتحقق الفتح، وشهد له اثنان من الصحابة. فامتنعوا من تسليمها إليه ابتداء ثم دفعوها إليه فلما خلا بها فادت نفسها بالمال منه. أيها الإخوة، فلننظر إلى هذه الهمة العالية واليقين الذي كان يتحلَّى به هذا الرجل.
لقد طلب هذا الرجل طلبًا وكان متيقنًا من الحصول عليه ومعتقدًا بصحة ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن ابنة بقيلة قطعًا له والمخبر صادق والمعطي كريم وصادق الوعد، بينما كان المنافقون يسخرون من المؤمنين والنبي صلى الله عليه وسلم يخبرهم أنه يبصر قصور الحيرة ومدائن كسرى؛ إذ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلا قَيْصَرَ بَعْدَهُ، وَإذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلا كِسْرَى بَعْدَهُ، والَّذي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُنْفَقَنَّ كُنُوزُهُما في سَبِيلِ اللهِ» وهم يحفرون الخندق ولا يستطيعون قضاء حاجاتهم.
أيها الإخوة، إننا اليوم لا نزال ننتظر تحقق تلك البُشْرَيات وذلك الوعد الإلهي بعودة الخلافة من جديد، وتحرير بيت المقدس، وفتح روما كما فتحت القسطنطينية، وهذا يحتاج منا إلى اليقين بأن وعد الله وبشرى رسوله سيتحقق لا محالة، وأن تكون هممنا تتناسب مع هذا الوعد الصادق. وكما كان رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام يزرع الأمل في نفوس المسلمين، ويرتقي بهم نحو معالي الأمور وأشرافها، فإن الواجب اليوم على حملة الدعوة وعلماء الأمة أن يقوموا بنفس الدور الذي قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيتولَّون هذه المهمة، فيزرعون الأمل فيها، ويشحنونها بطاقة العقيدة واليقين والهمة العالية والارتقاء نحو معالي الأمور، والابتعاد عن سفسافها، حتى يندفع المسلمون نحو تحقيق وعد الله وبشرى الرسول عليه الصلاة والسلام، وعندها ستنقاد الأمة لعلمائها وحملة الدعوة فيها، تمامًا كما انقاد المسلمون أيام التتار للعلماء الذين أبَوا أن يستسلموا ويخنعوا ويرضوا بسفساف الأمور، فانقادت لهم الأمة حتى قيَّض الله لها من تولى قيادة الجيوش، فكان أن ظهر قطز رحمه الله تعالى الذي قضى على التتار في عين جالوت وطهَّر الأرض من رجسهم وأعاد الحياة للأمة بعد أن كادت أن تفنى.
واليوم، ينبغي على علماء الأمة أن لا يكونوا مطايا للسلاطين، ولا أن يلهثوا خلف سفاسف الحكام، بل يجب أن يحملوا مشروع إنقاذ الأمة من اليأس، ويعيدوا فيها الأمل، ويزرعوا فيها خصلة الارتقاء نحو معالي الأمور وأشرافها، وينهضوا بها، ويخاطبوا الجيوش وأهل القوة والمنعة حتى تلتحم الدعوة والمنعة معًا ليكون الأمر جاهزًا لإعلان الخلافة من جديد.
ويجب أن يقضى على أصوات النفاق والخذلان التي يعمل المنافقون والمرجفون، أصحاب السفاسف، على إشاعتها في الأمة حتى تستكين وتذل وترضى بهذا الواقع المهين، والحلول الانهزامية لقضايا الأمة ومنها قضية فلسطين، فتراهم يطالبون بالحماية الدولية، وحل الدولتين، وما شاكلها من حلول، ويغيبون الحل الجذري ألا وهو استنصار الجيوش لتقوم بواجب التحرير؛ ولكن هيهات هيهات لهذه الحلول أن تجد طريقها في الأمة ما دام أن فيها علماء مخلصين، وحملة دعوة صادقين، يحيون فيها الهمة، ويرتقون بها نحو معالي الأمور، ويُذكِّرونها بوعد الله الصادق وبشرى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالذي وعد الصحابة بالنصر وهزيمة الفرس والروم هو نفسه الذي وعدنا بالنصر وبتحرير بيت المقدس، وهو الذي وعدنا بفتح روما، وهو الذي وعدنا بحكم الأرض جميعها من مشارقهاإالى مغاربها. فمن يقول لا طاقة لنا بأمريكا ولا روسيا ويهود، نقول له: لقد قالها المنافقون زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحكى عنهم القرآن بقوله:(وَإِذۡ قَالَت طَّآئِفَةٞ مِّنۡهُمۡ يَٰٓأَهۡلَ يَثۡرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمۡ فَٱرۡجِعُواْۚ وَيَسۡتَٔۡذِنُ فَرِيقٞ مِّنۡهُمُ ٱلنَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوۡرَةٞ وَمَا هِيَ بِعَوۡرَةٍۖ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارٗا ١٣)؛ ولكن ما هي الا سنوات حتى تحقق وعد الله كما وعد. فانتهت دولة فارس في معركة القادسية وانتهت دولة الروم في معركة اليرموك. ولكم أن تتخيلوا أيها الإخوة كم يومًا كان بين هاتين الهزيمتين لأعظم دولتين في ذلك الزمان. ثمان وثلاثون يومًا فقط بين الحربين، إنه وقت خيالي أن تنتصر دولة وليدة صغيرة على دول عظمى كفارس والروم !!! فمَعْرَكَةُ القَادِسِيَة أحدى معارك الفتح الإسلامي لفارس وقعت في 13 شعبان سنة ١٥هـ ، بينما معركة اليرموك بين دولة الروم والمسلمين كانت في ٥ رجب عام ١٥ هـ.
أيها الإخوة، إننا متيقِّنون أن النصر قادم مهما طال الابتلاء؛ ولن نرضى إلا بفتح روما أي فتح أوروبا، ولن نرضى إلا بحكم ما زوي للنبي صلى الله عليه وسلم من الأرض، أي حكم أمريكا والصين وأوروبا وروسيا، وإن ديننا الحنيف وعقيدتنا الراسخة تدفعنا إلى الاعتقاد الجازم بأن النصر متحقَّق قريبًا باذن الله، فارفعوا سقف طلباتكم ولا تطلبوا بأقل من حكم الأرض جميعها…. ولا تقولوا لا نستطيع، لا تقولوا نصلي ونصوم ونحج ونتصدق ونربي أبناءنا ونكتفي، لا بل قولوا نحن أمة محمد صلى الله عليه وسلم التي لم تمت، وسنبقى شهداء على الناس مهما كلف الأمر حتى يتحقق وعد الله. لتعرف الأمة الإسلامية أن الله قد اختارها لتقود العالم بالإسلام وعدله، فلا تفقدوا الشهادة على الناس، ولا تتطلَّعوا لسفاسف الأمور وحطام الدنيا ولعاعها، وإن من لم يكن عارفًا بقيمته عند الله ومتيقنًا بالنصر وتحقيق الوعد فلا يصلح لقيادة الناس، فأخلصوا العمل لله تعالى، ولا يغرنَّكم أصحاب المناصب والكراسي الذين انحطوا في هممهم وتطلعاتهم، فلم يعودوا يرَون إلا الحلول الانهزامية والأطروحات الغربية.
إن صاحِبُ الهِمَّةِ العالِيَة هو الذي يَتَمَنى وَيَبْذُلُ الأسباب مِن أجْلِ الوُصولِ إلى ما يُريد، ولا يَكْتَفِي بِمُجَرَّدِ الأَمانِي وهو جَالِسٌ في بَيْتِهِ أو مَعَ أصْحابِه؛ فَإِنَّ الأمانيَّ الـمُجَرَّدَة، التي لا يَحْصُلُ مَعَها الأخذ بالأسْباب، لا تُجْدِي صاحِبَها شَيْئًا، وَهِيَ «رأسُ مالِ الـمُفلسين»؛ قال تعالى:(وَمَنۡ أَرَادَ ٱلۡأٓخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعۡيَهَا وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَأُوْلَٰٓئِكَ كَانَ سَعۡيُهُم مَّشۡكُورٗا١٩).
وكَذلِكَ يُعْرَفُ أَهْلُ الهِمَمِ العالِيةِ وأَهْلُ النُفُوسِ الشَّريفَة مِنْ خِلالِ اهْتِماماتِهم وعَدَمِ رِضاهُم بِالدُّون؛ فَهَذا رَبيعةُ بنُ كَعْبٍ الأسْلَمِيّ -رضي الله عنه-, يقول له النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: «سَلْنِي يا رَبِيعَةَ أُعْطِك»، فقال: «أسْأَلُكَ مُرافَقَتَكَ في الجنة». فَلَمْ يَسْأل مِنْ متاعِ الدنيا الفانيةِ وحُطامِها شيئًا؛ لِعِظَمِ هِمَّتِهِ، وَشَرَفِ نَفْسِهِ، وعَدَمِ رِضاها إلا بالـمعالي.
وها هم أهل بيعة العقبة الثانية، عندما وافقوا على نصرة رسول الله، رغم ما يترتب على هذا من نهكة الأموال والأهل والأولاد، قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: فما لنا إن نحن وفينا لك؟ فقال عليه السلام: لكم الجنة، فقالوا: رضينا يا رسول الله… فانظروا إلى حال هؤلاء الرجال العظام، الذين أدركوا كم هي قيمة الجنة، فهي غالية وتستحق بذل الروح والمال والأهل لأجل الفوز بها.
أيها المسلمون، يا من حُمِّلتم رسالة الإسلام هدًى للناس، إن خلاصنا من هذا الذل والهوان، وهذا الهزل والانحطاط لا يكون إلا بارتقاء النظرة، وعلو الهمة، والعمل الدؤوب لتحقيق النصر والتمكين بإعلاء كلمة الحق والدين والعمل مع العاملين المخلصين لإقامة هذا الدين وبيعة أمير المؤمنين بخلافة على منهاج النبوة.
نسألك اللهم النصر والتمكين، ونسألك معالي الأمور وأشرفها، ونعوذ بك من سفاسفها وأرذلها. والحمد لله رب العالمين.
2023-04-08