ما فقدته الأمة بعد هدم الخلافة
2006/09/01م
المقالات
3,299 زيارة
ما فقدته الأمة بعد هدم الخلافة
في صبيحة الثامن والعشرين من رجب سنة 1342هـ الموافق للثالث من مارس (آذار) من سنة 1924م، أي منذ ما يقرب من 85 سنة، هدم الكفار الخلافة الإسلامية على يد اليهودي المتمسلم مصطفى كمال عميل الإنكليز وصنيعتهم, وهو الذي قال فى مرسوم إلغاء الخلافة: “بأي ثمن يجب صون الجمهورية المهددة وجعلها تقوم على أسس علمية متينة, فالخليفة ومخلفات آل عثمان يجب أن يذهبوا, والمحاكم الدينية العتيقة وقوانينها يجب أن تستبدل بها محاكم وقوانين عصرية, ومدارس رجال الدين يجب أن تخلي منشآتها لمدارس حكومية غير دينية”. وفى الليلة ذاتها أرسل مصطفى كمال أمراً إلى حاكم إستنبول يقضي يأن يغادر الخليفة عبد المجيد تركيا قبل فجر اليوم التالي, فذهب حاكم إستنبول بصحبة حامية من رجال البوليس إلى قصر الخليفة عند منتصف الليل, وهناك أجبر الخليفة أن يستقل سيارة حملته إلى خارج الحدود. وبعد يومين حشد كمال جميع أفراد أسرة الخليفة وتم ترحيلهم. وبذلك نفذ مصطفى كمال الشروط الأربعة التي شرطها الإنكليز فى مؤتمر لوزان بسويسرا للاعتراف باستقلال تركيا وهي:
إلغاء الخلافة إلغاءً تاماً، طرد الخليفة خارج المدينة، مصادرة أمواله، إعلان علمانية تركيا.
وبذلك سقطت الخلافة ومحيت من الوجود، وحلت الطامة الكبرى بالمسلمين، وفتح باب المصائب والبلايا عليهم من كل جانب.
وعلى إثر هدم الخلافة بدت البغضاء من أفواه الإنكليز على لسان وزير خارجيتها كرزون أمام مجلس العموم البريطاني الذي احتج على قرار الحكومة البريطانية آنذاك القاضي بانسحاب القوات البريطانية من تركيا، فرد مبرراً قرار حكومته قائلاً: “القضية أن تركيا قد قضي عليها ولن تقوم لها قائمة لأننا قد قضينا على القوة المعنوية فيها: الخلافة والإسلام”.
هذا الكلام من كرزون يمثل تطلعات دول الكفر منذ قرون عديدة بعد اندحارهم في الحروب الصليبية وفشلهم فى تحقيق مقاصدهم فيها.
لقد فقد المسلمون أموراً عظيمة جراء غياب الخلافة الأسلامية، ولا بد والحالة هذه من التنبيه إلى أبرز ما فقدوه، ولعل إدراك المسلمين لفداحة الخسارة وجسامة المفقود يدفعهم للعمل الجاد لإعادة ما فقدوه بإقامة خلافتهم؛ لأنها الطريق الوحيد إلى ذلك، ولقد جربوا غيرها من الأفكار والطرق والمناهج فما زادتهم غير تتبيب، وصاروا طرائق قدداً، والعياذ بالله تعالى.
فقدت الأمة الإسلامية الحكم بما أنزل الله وتلك جريمة كبرى أطاحت بكتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) من سدة الحكم والمرجعية عند الأمة. وهي مخالفة صريحة لقوله تعالى: ( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ) [المائدة 49] وهذا وحده كاف لإثارة غضب الله علينا, وأن تتحفز ملائكة العذاب لإيقاعه بنا وتتهيأ جهنم لاستقبالنا.
عن أبى هريرة (رضي الله عنه) أن النبى (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «إذا أحب الله عبداً نادى جبريل: إنى قد أحببت فلاناً فأحبَّه، فينادى فى السماء ثم تنـزل له المحبة فى أهل الأرض، فذلك قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا ) [مريم 96] وإذا أبغض الله عبداً نادى جبريل: إنى أبغضت فلاناً، فينادى فى السماء، ثم تتنـزل له البغضاء فى الأرض».
وبما أنه قد ثبت لدينا أن بعض المسلمين قد شارك فى تلك الجريمة, وكثيراً منهم قد سكت ورضي بما جرى وتابع، فمن يدرينا أن يكون الله تعالى قد نادى جبريل عليه السلام فقال له: إنى أبغضت هؤلاء القوم فأبغضهم, فنادى جبريل فى السماء بالأمر الإلهي، فتحركت الملائكة للتنفيذ، فرفعت الحصانة، وزالت الحماية، ونزعت البركة، وقل القطر، ورفعت ملائكة النصرة أسلحتها غير عابئة بنداءات الاستغاثة.
هذا طرف من الغضب السماوي ولا يملك أحد أية إحصائية عن حجم السيئات التى سجلت، والخسائر التى حصلت جراء هذا الغضب. أما الغضب الأرضي فآثاره محسومة، ونتائجه لا تخطئها عين مبصرة.
إن فقد حكم الله فى الأرض ليعتبر بحق الخسارة الفادحة والجريمة الكبيرة, كونه فتح الباب واسعاً لارتكاب كافة أنواع الجرائم من قبل الكفار والمسلمين على حد سواء.
فالكفار يقتلون النفوس, وينهبون الثروة, ويغتصبون الحقوق، ويصولون ويجولون فى بلاد المسلمين لا فرق بين فلسطين والعراق، ولا بين إندونيسيا ودارفور وغيرها من بلاد المسلمين.
والمسلمون يرتكبون الجرائم المختلفة مما تؤاخذ على مثلها الشريعة الإسلامية حداً أو قصاصاً أو تعزيراً، ولكنهم يفلتون من العقاب الشرعي كون تلك الجرائم لاتشكل خرقاً للقوانين الوضعية؛ فيكون بذلك سجل الجرائم فى ازدياد مستمر مع مرور كل دقيقة من الزمن…
لقد حجب الله نصره عن الصحابة والرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بين أظهرهم فى بداية معركة حنين بسبب معصية واحدة وهى الاغترار بأن الكثرة ستجلب النصر. فما بالكم وسجل المعاصي التى ترتكب فى بلاد المسلمين نتيجة غياب حكم الله فى الأرض فى ازدياد مستمر، وهذا كفيل بحجب النصر عنا رغم استغاثة المستغيثين. وصدق الله العظيم عندما قال: ( وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) [طه 124].
فالإعراض عن ذكر الله (أي عن شرع الله) تنتج عنه المعيشة الضنك (أي الشقاء فى الدنيا) والعذاب فى الآخرة.
لذلك كان على المسلمين أن يعملوا بأقصى سرعة وأقصى طاقة لاسترجاع ما فقدوه بإقامة خلافتهم لأنها السبيل الوحيد لإعادة حكم الله فى الأرض.
فقد المسلمون الجماعة ووقعوا فى الفرقة كما خطط لهم أعداؤهم، فبعد هدم الخلافة سقط التاج عن رؤوس المسلمين، وهدم البنيان الذى كان يؤويهم، وانفرط عقد الأمة الإسلامية ومزّقها الكفار إلى عرقيات متعددة وأقاليم متفرقة؛ كي يسهل عليهم الهيمنة عليها وإذلال شعوبها وأكل خيراتها. وتجأر الأمة الإسلامية اليوم وبالأمس مستغيثة فى كل مكان، ولكن لا جواب، فلا عمر ولا معتصم ولا صلاح الدين.
وإذا كان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قد قال: «إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية». فإننا نقول كم من القاصيات أكلن منذ هدم الخلافة، ففلسطين قاصية، والعراق قاصية، وكشمير قاصية… والقائمة تطول.
اسمعوا ما قاله الجاسوس الإنجليزي الخبيث لورانس والذي خطط لما يسمى بالثورة العربية من أولها إلى آخرها: “إن نشاط الحسين (جد ملك الأردن السابق) مهم لنا، إذ إنه ينسجم مع أهدافنا المباشرة وهي: تفكيك الرابطة الإسلامية وهزيمة الإمبراطورية العثمانية” ثم يقول: “فإذا تمكنا من التحكم بهم فإنهم سيبقون منقسمين سياسياً إلى دويلات تحصد بعضها البعض ولا يمكن لها أن تتوحد”.
هل هناك اعتراف أكثر صراحة ووضوحاً من هذا؟ وهل يجوز لمسلم بعد ذلك أن يحتفل بأعياد الاستقلال التي تعني انفصال المسلمين عن بعضهم وتقسيم بلدهم الإسلامي الواحد إلى دويلات، ورفع رايات دويلات الضرار التي أقامها الكافر المستعمر, إنها جريمة ما بعدها جريمة أوهنت جماعة المسلمين.
إن الجماعة المطلوبة لا تكون إلا على إمام واحد “وإنه لا إسلام بلا جماعة، ولا جماعة بلا إمارة، ولا إمارة بلا طاعة” كما قال عمر (رضي الله عنه). أما الصديق أبو بكر (رضي الله عنه) فقد حذر من غياب الجماعة وحضور الفرقة وتعدد الأمراء، فقال في سقيفة بني ساعدة “وإنه لا يحل أن يكون للمسلمين أميران، فإنه مهما يكن ذلك (أي إذا حصل ذلك) يختلف أمرهم وأحكامهم، وتتفرّق جماعتهم، ويتنازعون فيما بينهم، هنالك (في حالة تعدد الأمراء) تترك السنة، وتظهر البدعة، وتعظم الفتنة، وليس لأحد على ذلك صلاح”.
لذا كان لابد من الجدّ في إزالة الحواجز المادية والمعنوية التي تقف حائلاً بين المسلمين وتحقيق الجماعة؛ لأنّ الذي يوحّد رأي المسلمين ويجمع كلمتهم ويوحد موقفهم السياسي ويجعل منهم أُمة ترهب عدوّ الله وعدوّهم هي الخلافة الراشدة لا غير, هذه الخلافة هي التي يرتفع مع قيامها قوله تعالى: ( وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) [الإسراء 81] وتتهاوى معها عروش الباطل عروش الخونة والعملاء, التي يظنون أنها قوية منيعة وهي في حقيقتها أوهن من بيت العنكبوت.
فقد المسلمون أموالهم وثرواتهم الثمينة فكلّها نهب للكفار تحت سمع المسلمين وبصرهم، ولا يعود للأمة إلا النـزر اليسير منها، يأخذه الحكام اللصوص فيضعونه في بنوك الغرب الكافر، فلو كانت ثروة الأمة بيد إمام صالح لكان الواقع مختلفاً حقاً، وكان الناس في سعة ورخاء وبركة وهناء. ذكر ابن خلدون في مقدمته أن ما حمل إلى بيت مال المسلمين ببغداد أيام الخليفة العباسي المأمون ما يعادل اليوم بـ70 مليار دولار و1700 طن من الذهب. فلو كان للمسلمين اليوم خلافة راشدة على منهاج النبوة ورزقهم الله بخليفة حافظ لثروات الأمة والتي منها إضافة لما كان في الزمن الماضي النفط والمعادن وغير ذلك، فهل يبقى في دار الإسلام فقير واحد, وسأسوق لكم مثالاً على نظافة اليد عند خلفاء المسلمين من سيرة عمر بن عبد العزيز والذي لم يجدوا في دار خلافته فقيراً واحداً يستحق الزكاة.
أخرج ابن عساكر “دخل مسلمة بن عبد الملك على عمر بن عبد العزيز حين حضرته الوفاة، فقال يا أمير المؤمنين أفقرت أفواه بنيك من هذا المال، فلو أوصيت بهم إليّ وإلى وزراء فكفوك مؤونتهم، فلما سمع مقالته قال: أجلسوني فأجلسوه فقال: والله ما ظلمتهم حقهم، ولم أكن أعطيهم شيئاً لغيرهم، وإنما ولد عمر بين أحد رجلين: إما رجل صالح فالله يتولى الصالحين، وإما أن يكون غير ذلك فلن أكون أوّل من أعانه (بالمال) على معصية الله، ثمّ قال: ادعوا لي بني، فأتوه، فلما رآهم ترقرقت عيناه وقال: فتية تركتهم عالة لاشيء لهم وبكى، ثمّ قال: يا بني إما أن تستغنوا فأدخل النار، وإما أن تفتقروا فأدخل الجنة، توبوا عصمكم الله، قوموا رزقكم الله”.
رحم الله عمر، وعجّل لنا بالنظير في وقت قريب.
إنّ الغرب الرأسمالي الكافر المستعمر قد لعب لعبته وضرب ضربته فهدم الخلافة لأنه يعلم أنه لن تقوم له قائمة إذا لم يقضِ عليها، وبما أنّ الغرب صاحب مصلحة مستمرّة في بلادنا، ولأنّ بلاد المسلمين تنعم بخيرات وفيرة وكنوز دفينة وثروات هائلة كانت مصلحته تقضي بأن لا تقوم للإسلام خلافته.
ولأن المبدأ الإسلامي مبدأ عالمي بعقيدته وأنظمته فإنه يشكّل في نظر الغرب خطراً حضارياً عليه وتهديداً حقيقياً له. لذلك وحفاظاً على مبدئه وحضارته ومصالحه كان حريصاً على هدم الخلافة، وأن نبقى متفرّقين وعالة عليه, يمنعوننا بأن نكون أمة صناعية بل ولا حتى زراعية، فأسواقنا أسواق استهلاكية لا تستغني عن أعدائها، وحال المسلمين شاهد على فقر هذه الأمة ومديونيتها الهائلة, وانعدام الأمن الغذائي فيها. وعلى ذلك فإنه لن يتحقق النموّ الإقتصادي في الزراعة والصناعة ولن تضمن الحاجات الأساسية للأفراد فرداً فرداً إلا بأن يملك المسلمون أمرهم ويتخلصوا من ربقة الكفر والعملاء…
فقد المسلمون فلسطين أرض الإسراء والمعراج أرض المحشر والمنشر, وإنا لنجد ارتباطاً واضحاً بين هدم الخلافة العثمانية وبين ضياع فلسطين وقيام دولة يهود عليها، فدولة المسخ هذه ما كانت لتوجد على أرض فلسطين لو كانت الخلافة الإسلامية قائمة.
وكلّنا يعرف موقف الخلافة الإسلامية زمن العثمانين وهي في أشد حالاتها ضعفاً وقد رماها الكفار عن قوس واحدة.
وكلّنا يذكر قولة السلطان عبد الحميد الثاني، رحمه الله وجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء؛ فقد قال قولته المشهورة عندما ردّ الوفد اليهودي الذي جاء يفاوضه من أجل بيع فلسطين لهم فقال: “إنّي لا أستطيع أن أتخلّى عن شبر واحد من أرض فلسطين فهي ليست ملك يميني… بل ملك الأمة الإسلامية… وإذا مزّقت دولة الخلافة يوماً فإنهم يستطيعون آنذاك أن يأخذوا فلسطين بلا ثمن”.
وهذا فعلاً ما حدث، ففلسطين ضاعت بعد هدم الخلافة ولن يعيدها من جديد إلا دولة الخلافة، وعندها يتحقق قول الله فيهم: ( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ) [الأعراف 167]. ويتحقق وعد رسولنا (صلى الله عليه وآله وسلم): «لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر: يا مسلم، يا عبدالله، هذا يهودي خلفي فتعالَ فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود». أخرجه البخاري في باب فضائل الجهاد, ومسلم في كتاب الفتن.
فقد المسلمون ما يملأ القلب ألماً وحسرةً وأسًى وهو ضياع مهابة المسلمين التي كانت في قلوب أعدائهم منهم مصداقاً لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «ولينـزعنّ الله من قلوب أعدائكم المهابة منكم» فصار الواحد منهم والحكام في الدرجة الأولى كالعبد إن سبّه السيد أو ضربه لم يستطع العبد أن يفعل شيئاً حياله…
وإنا نتساءل هل بقيت لأمة محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) مهابة في قلوب أي أمة على وجه الأرض مهما كانت ضعيفة أو فقيرة؟ لا، لا نرى ذلك، مع أنه عليه الصلاة والسلام يقول: «نصرت بالرعب مسيرة شهر» ويقول: «الإسلام يعلو ولا يعلى عليه».
إن المؤمن المخلص الصادق عندما يرى حال المسلمين اليوم بعد غياب سلطان الإسلام الحارس الذي يتقى به، حين يرى ذلك، يتميّزمن الغيظ على كل مسلم لايعمل للتغيير ويرضى بعيش الذل والهوان، وهو قد رأى بعينيه وسمع بأذنيه وأدرك بحواسه جميعها أن العزّة والمهابة والقوّة والسيادة لاتكون إلا بسلطان الإسلام ودولة الإسلام، ورحم الله عمر القائل: “أيها الناس، كنتم أذلّ النّاس فأعزكم الله بالإسلام، ومهما ابتغيتم العزة من غيره أذلكم الله”. وأضرب لكم مثالاً واحداً عن المهابة التي كانت للمسلمين في كل شيء، وهو كيف كان يدير المسلمون المفاوضات مع الكفار.
“لقي عمرو بن العاص أحد بطارقة الروم في فلسطين، فقال البطريق: ما الذي جاء بكم؟ فقد كانت الآباء اقتسمت الأرض فصار لكم ما يليكم، وصار لنا ما يلينا. وقد عرفنا أنكم إنما أخرجكم من بلادكم الجهد، وسنأمر لكم بمعروف وتنصرفوا.
فقال له عمرو: أما القسمة التي تحدّثت عنها فإنها كانت قسمةً شططاً، ونحن نريد أن نتراضى فتكون قسمة معتدلة لنأخذ نصف ما في أيديكم من الأنهار والعمارة، ونعطيكم نصف ما بأيدينا من الشوك والحجارة، ونحن لا نفارقكم حتى نصيّركم عبيداً أو تقتلونا.
فالتفت البطريق إلى أصحابه وقال: (صدقوا) ثم افترقا ثم لحق بهم المسلمون حتى طووهم عن فلسطين والأردن”.
فقد المسلمون العلم والتكنولوجيا اللازمتين للصناعات الثقيلة وأدوات الحرب الحديثة وغير ذلك من نواحي الحياة، وكل ذلك لن يتحقق إلا بوجود سلطان مخلص لربه، حريص على مصالح أمته، وإنّ الضرورة لذلك تتجلّى من حيث إن الدولة الإسلامية الموعودة هي دولة مبدئية تمتلك فكرة مبدئية واضحة ولديها وجهة نظر في الحياة. والعقيدة الإسلامية التي تقوم عليها الدولة عقيدة عالمية، والمسلمون مكلفون بإيصال هذه العقيدة لكل الشعوب والأمم، وهذا لا يتم إلاّ بامتلاك تكنولوجيا نوعية تستخدمها الدولة في نشر الإسلام. وقد استطاع المسلمون في الماضي التغلب على التفوق العلمي والعسكري عند الروم والفرس، وبعد ذلك أبدع المسلمون باستخراج مكنونات هذه الأرض وكشف القوانين العلمية التي تحكمها وحققوا إنجازات رائعة في مجال الطب والهندسة والفلك والجغرافيا وغيرها، وكانت أوروبا ترسل طلابها ليتلقوا العلم عند المسلمين.
والدولة الإسلامية القادمة إن شاء الله ينتظرها هذا التقدم العلمي الهائل، وهذا ليس بالأمر المستحيل وإنما هو أمر ممكن بإذن الله تعالى، ونحن لسنا بأقل من الصين مثلاً، هذه الدولة الزراعية المتخلفة (سابقاً) والتي لا تملك مبدأ كمبدئنا قد دخلت اللعبة الكونية في ظل ثورة تكنولوجية هائلة لم تكن متوقعة، وها هي اليوم من أكبر المنافسين الذين يشكلون خطراً يهدد الولايات المتحدة الأميركية.
وبعد، هذا غيض من فيض مما خسره المسلمون ويخسرونه في كل يوم في غياب دولتهم وإمامهم، ولقد بدا أن الخلافة فوق كونها ضرورة شرعية يجب علينا إيجادها فهي حاجة ملحة للمسلمين، وهي كذلك حاجة إنسانية للبشرية جمعاء، قال تعالى: ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء 107].
إن هذه الذكرى الأليمة يجب أن تمحى كل آثارها من حياة المسلمين. فالأمم الحية هي التي تعمل على تدوين أيام العزّ لا على تدوين أيام القهر والذل. والأمة الإسلامية وإن احتفظت بهذا التاريخ في ذاكرتها فلكي تمحوه لا لتخلده، ولكي تنطلق منه لإيجاد تاريخ جديد بعودة الخلافة من جديد بإذن الله تعالى مصداقاً لقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون خلافةً على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون ملكاً عاضاً، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون ملكاً جبرياً، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون خلافةً على منهاج النبوة. ثم سكت» أخرجه الإمام أحمد بسند صحيح عن حذيفة.
2006-09-01