في خِضَمِّ الصراع الدولي الحالي، وفي أجواء الحاجة إلى تغيير النظام الدولي الحالي: من سيحكم العالم؟ (الإسلام هو الدين القيَّم، والخلافة هي الحل الأوحد.. )
2023/04/08م
المقالات
802 زيارة
نبيل عبد الكريم
يعدُّ موضوع (النظام الدولي الجديد) من أكثر القضايا المثيرة للجدل اليوم، وقد تطرَّق العديد من المفكرين السياسيين إلى هذا الموضوع الذي سيكون خلفًا لنظام (الأحادي القطبية). لقد كانت تقييمات الوضع السياسي الدولي حول أزمة النظام العالمي متباعدة وفي حالة شدٍّ وجذبٍ كبيرين، وذلك قبل اندلاع الحرب الروسية/الأوكرانية؛ ولكن بعد الحرب ركَّزت هذه التقييمات الانتباه بالفعل على أن النظام العالمي الحالي فيه نقاط ضعف سوف تؤدي إلى زواله، وذلك لا يعود إلى المشاكل التي تحدث اليوم فقط، بل هو ضعيف منذ النشأة؛ ولكن اليوم هذه النقاط لا يمكن توريتها لأنها من أساسيات هذا النظام، وبسببها تتأكد حتمية زواله يومًا بعد يوم. ولعلَّ أهم سؤال يُسأل اليوم: من الذي سيحكم العالم؟ فهذا يجب أن يكون موضوع بحث على جميع طاولات النقاش السرية لدى العديد من القوى الفاعلة، والمفكرين والباحثين والمحللين السياسيين.
لقد بدأت النقاشات حول التكهُّن عن ماهية النظام الدولي في الفترة القادمة، وأيضًا حول إمكانية استمرار نظام (أحادي القطبية) في ظل هذه التحولات المتسارعة حاليًّا، وفي المستقبل القريب جدًّا؛ وعليه جاءت جميع الدراسات بالعديد من الاقتراحات للأنظمة الدولية التي تستطيع أن تحلَّ محلَّ هذا النظام الدولي أحادي القطبية، وقد تركزت الإجابات حول ثلاث أنظمة: أولها: نظام ثنائي القطبية. وثانيها: نظام التعددية القطبية. وثالثها: نظام اللاقطبية؛ ولكن لم نجد من تناول هذا السؤال من وجهة نظر من يشكِّلون ثاني تعداد في العالم، ويملكون مبدأً ربانيًّا؛ ولذلك نحاول الإجابة عن هذا السؤال بشكل موضوعي، ومن وجهة نظر خاصة، لم يتطرَّق إليها أحد من قبل.
لقد نشأ مفهوم النظام الدولي في ظل الاتفاقيات التي أنهت حروب الثلاثين عامًا الأوروبية ورسم ولادة قارة أوروبا العصرية المؤلفة من دول قومية ذات سيادة. وقد كان مبدأ السيادة هو أهم مكاسب هذا الاتفاق؛ حيث تم الاعتراف بأحقيَّة كل دوله في السيادة على أراضيها وقرارها وأن تمارس سيادتها على إقليمها الجغرافي ومنع التدخل في شؤونها إلا بإذنها. وبعد أن تسبَّبت الحرب العالمية الأولى في زوال الخلافة العثمانية والإمبراطورية النمساوية المجرية والإمبراطورية الروسية، وما أسفر عن بروز عدد كبير من الدول القومية في أوروبا، وكذلك كان لامتلاك الولايات المتحدة الأمريكية لقوة اقتصادية وعسكرية كبرى، ونجاح الثورة البلشفية في روسيا وظهور الاتحاد السوفياتي جغرافيًّا مع مؤهلات اقتصادية طبيعية، وبروز اليابان في شرق آسيا كقوة عظمى تتكئ على قاعدة اقتصادية صناعية قوية وقوة عسكرية ضاربة… كل هذا أدى إلى وجود نظام متعدد الأقطاب، وأدى إلى منافسات شديدة أدت إلى نشوب الحرب العالمية الثانية (1939 – 1945) ميلادي. ومن بعدها ظهر مفهوم الثنائية القطبية. فقد ظهرت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي كقوتين مهيمنتين على النظام العالمي الجديد مع اختفاء القوى الأخرى؛ فأصبح يقود العالم معسكرين: رأسمالي تقوده الولايات المتحدة، واشتراكي يتزعمه الاتحاد السوفياتي، وبعدها بدأت الحرب الباردة التي شهدت عدة أزمات دولية خانقة مثل أزمة حصار برلين (1948 – 1949)م، والحرب الكورية (1950 – 1953)م، وحرب فيتنام (1956 – 1975)م، وأزمة الصواريخ الكوبية 1962م، وعندها شعر العالم أنه على صار على أبواب حرب عالمية ثالثة نووية كانت ستعصف بالبشرية وتدفع بالحياة على الأرض نحو المجهول، والغزو السوفياتي لأفغانستان (1979 – 1989)م… وفي أواخر ثمانينات القرن الماضي وبداية التسعينات أعلن رئيس الاتحاد السوفياتي ميخائيل غورباتشوف في عام 1991م سقوط الاتحاد السوفياتي تاركًا قيادة الساحة الدولية للولايات المتحدة كقوة عظمى وحيدة في العالم.
وعقب انتهاء حرب الخليج الثانية 1991م، أعلن رئيس الولايات المتحدة الأمريكية جورج بوش الأب (1989 إلى 1993)م النظام العالمي الجديد من خلال قوله: «نحن نقف اليوم في لحظه فريدة وغير عادية؛ حيث تقدم الأزمة في الخليج الفارسي فرصة نادرة للتحرك نحو قفزة تاريخية من التعاون وتطبيق هدفنا بإقامة النظام العالمي الجديد الذي يمكن أن ينشئ عهدًا جديدًا أكثر حرية من تهديد الإرهاب (الجلسة المشتركة للكونجرس 11 إلى 1995م)
وبذلك ظهر مصطلح أحادية القطب حيث بدأ في عام 1995م مع عدم وجود منافس آخر يستطيع التنافس للسيطرة على العالم، وبذلك تربَّعت الولايات المتحدة الأمريكية على عرش العالم كقوة عظمى وحيدة في الساحة الدولية بلا منازع، وبدأت الولايات المتحدة تفرض هيمنتها المطلقة على العالم بشكل صارخ وتتحدى في نفس الوقت وتمنع صعود أية قوة منافسة لها على الساحة الدولية حيث قال زبغنيو برجنسكي في كتابه رقعة الشطرنج الكبرى: «إن القوة الاقتصادية الضخمة للولايات المتحدة هي التي جعلتها تكون الأولى عالميًّا».
ويعتقد وليم ودلفورث أستاذ السياسة في الجامعة الأمريكية دارتموث: «إن النظام أحادي القطبية يؤدي إلى السلام لغياب التنافس؛ ولكن هناك ستكون محاولات من الدول الأخرى مجارية لهذا القطب الذي ستكون تكلفة إحداث تواصل معه مكلفة جدًّا على جميع الأصعدة، وأكد أيضًا أن نظام الأحادي يؤدي إلى استيعاب التطورات واحتوائها. فالولايات المتحدة الأمريكية تمتلك الإمكانيات والمؤهلات التي تضمن لها المحافظه على مركزها الحالي كقوة اقتصادية وعسكرية وتقنية وجيوسياسية اللازمة لذلك (كتاب عالم القطب الواحد)».
وقال المحلل السياسي هنري جاكسون (عضو مجلس الشيوخ الأمريكي): «بقيت الولايات المتحدة القوة العظمى التي لا يستطيع أحد تحديها» وأضاف أنه «ستظهر المتطلبات الأساسية لتعدد الأقطاب في الجيل القادم مقدرة ما بين 2010م إلى 2022م، واعتبرت هذه المرحلة بمثابة ظهور تعادل في القوة والقدرات للولايات المتحدة، وعندها يصبح العالم مشابهًا لفترة ما قبل الحرب العالمية الأولى».
وأيضًا أضاف المحلل السياسي الأكثر نفوذًا فريد زكريا، وهو خبير في مجال العلاقات الدولية صاحب كتاب (عالم ما بعد أمريكا)، والذي نشره عام 2008م؛ حيث ذكر في كتابه التحوُّلات الثلاثة، والذي تمثل التحوُّل الأول منها ببروز العالم الغربي، والثاني تمثل ببروز الولايات المتحدة الأمريكية أحادية القطب، وذكر التحوُّل الثالث وهو ما سماه نهوض البقية.
ولكن الولايات المتحدة الأمريكية لم تكن عاجزة أو تنتظر مصيرها هكذا، بل كانت وما زالت تعمل على الحفاظ على أحادية القطب؛ ولذلك قامت بمحاولتها إضعاف الجميع وإشغالهم بملفات داخلية؛ حيث لا يتمكن أحد من اللحاق بها وسوف نعرج قليلًا على ذلك.
أما عن الأفعال التي تظن الولايات المتحدة أنها سوف تحافظ لها على مركزها، فقد نظرت الولايات المتحدة إلى الذين يملكون إمكانية تسمح لهم أن يصلوا إلى مركزها إما بالإزاحة أو بالمشاركة، فوجدت أن هناك عدة دول لها القدرة للوصول إلى ساحة التنافس مع تفاوت القدرات والمميزات لذلك وهي: الإسلام كمبدأ بديل، مع أنه لا تمثله دولة حاليًّا، وبريطانيا، والاتحاد الأوروبي، وروسيا، والصين.
– أماالإسلام بتركته القوية وعقيدته وتاريخه ومبدئه المتكامل الذي يصلح لقيادة العالم فهو يعتبر الخطر الأكبر عليها؛ لذلك توجهت أمريكا إلى بلدان العالم الإسلامي بقواها العسكرية والفكرية لتبدأ حرب الأفكار؛ حيث قال الرئيس السابق باراك أوباما في كتابه (جرعة الأمل): «إن أمريكا تخوض في الشرق الأوسط صراعًا مسلحًا، وتخوض في الوقت نفسه حرب الأفكار».
وخلال ما سمي بالربيع العربي دخلت معطيات جديدة في حرب الأفكار وهدم البنى التحتية، فقد منعت وأفشلت دور القوى الإسلامية في الثورات بتحويل البوصلة عبر المال السياسي القذر وغيرها، فقد تحوَّلت هذه الحرب إلى حرب بالوكالة. فاليوم عملاء الغرب من أهل تلك البلاد هم من يُشرفون بشكل حرفي ومحترف وينفذون كل ما يُملى عليهم عبر تقارير مؤسسات أمريكية معنية في هذا المجال منها: تقرير راند لعام 2002م، وهو الذي يقسم المسلمين إلى أصوليين وتقليديين وحداثيين وعلمانيين. وتقرير راند لعام 2004م، المعني بتكوين شبكات لأصحاب الإسلام المعتدل. وتقرير راند لعام 2007م المعني بالمواجهة.
إن مؤسسة راند وغيرها من مراكز التفكير في الغرب تعمل ليلًا نهارًا لوضع خطط لحرب الأفكار، وتمنح تمويلًا وسلطة عالية لمن يعمل تحت مخططاتها، وما تزال الحرب دائرة وهم يعتقدون أنهم حقَّقوا نصرًا معيَّنًّا في تجنيد عملاء لهم؛ ولكن هذه الحرب قربت وتقرب أمريكا من حتفها وأذلَّت كبرياءها سياسيًّا وأفرغت خزائنها اقتصاديًّا.
-بريطانيا: تعتبر بريطانيا هي أهم لاعب خبيث يتقن اللعب الدولي، وهي تعتبر ذات خبرة ونفوذ يؤهلها لو امتلكت الفرصة أن تنافس؛ لذلك عمدت الولايات المتحدة الأمريكية على إخراجها قسرًا من بلاد الشرق الأوسط وحرق نفوذها، وعدم إبقاء ما يعينها لو سمحت لها الفرصة. أيضًا ضعفها الاقتصادي والطاقوي يجعلها في دوامة المشاكل الداخلية، خاصة بعد خروج المملكة العربية السعودية من دائرة نفوذها، وبعد أن زادت خشية أغلب دول الخليج من أمريكا وراحت تسعى في إرضائها.
-الاتحاد الاوروبي: كان الاتحاد الأوروبي يمتلك بعض القدرات التي تؤهِّله للمنافسة على قياده النظام الدولي لو استطاع إتمام عملية التوحيد السياسي؛ ولكن أمريكا كانت منتبهة؛ لذلك قامت بأعمال كثيرة لمنع ذلك. وآخرها الحرب الروسية الأوكرانية التي سوف تحصد منها الولايات المتحدة جوائز كثيرة منها: إضعاف الطرف الروسي واستنزاف أوروبا عسكريًّا وماديًّا، وإيجاد أزمة كبيرة في داخلها عبر ارتماء الدول في أحضان حلف الناتو بعد أن كان هذا الحلف أقل جاذبية للقادة الأوروبيين لانتفاء الحاجه له. ومن ناحية أخرى امتلاك عصب الطاقة الذي يغذي أوروبا وذلك بمنع الاتفاق الروسي مع ألمانيا في تبادل الغاز بشكل مباشر، والآن قد تتحكم بنقل الغاز لأوروبا عبر الوسيط التركي.
-الصين: تتصدر الصين قائمة المنافسين المحتملين للدول التي لها كيان يمثلها؛ حيث باتت المنافس الأول لأمريكا. فالاقتصاد الصيني نما بشكل كبير جدًّا وانتقل من التجميع إلى التصنيع والابتكار والتفوق في بعض المجالات، وقد رافق ذلك نمو في القوة العسكرية، وتطوَّرت قدرات الجيش الصيني في كل المجالات، فمؤخرًا كشفت عن مقاتلات شبح صينية من الجيل الخامس، كما عرضت بكين طائرات وينج لونج المسيَّرة من الجيل الثالث العابرة للقارات والقادرة على حمل 16 صاروخًا وقنبلة (الجزيرة 11 نوفمبر 2022م). وهناك أيضًا مشروع الحزام والطريق الذي جعل للصين طريقًا يخرجها من التحكم الأمريكي بالممرات المائية، وجعل لها نفوذًا سياسيًّا واقتصاديًّا في بعض البلدان؛ ولكن تبقى هناك مشاكل للصين لم يتمَّ حلها، وأخرى لا حل لها، منها: إنها ليست صاحبة مبدأ تحمله وتنشره ومن خلاله تستطيع تسيُّد العرش الدولي؛ ولكن قوتها الاقتصادية تجعلها شريكًا اقتصاديًّا؛ ولكن لا تعطيها تفردًا في السيادة المطلقة، فهي تصلح في المرحلة الثنائية القطبية أو شريك اقتصادي.
وبعد شعور أمريكا بأنها منتصرة أو على أقل تقدير أنها استطاعت أن تبعد المنافسين عنها بانشغالهم عن السعي لمنافستها على سيادة العالم؛ ولكنها أغفلت الشق الثاني من الاحتمالين؛ حيث إن الشق الأول هو منع صعود المنافسين لها إلى مركز القيادة. أما الشق الثاني فهو أن تهبط إلى مستواهم، وهذه حقيقة نجدها تحصل رغم محاولات الولايات المتحدة الأمريكية تلافيه. فالنظام العالمي الحالي يضعف كل من ينتمي إليه بشكل أو بآخر، وهذا سوف يعطي من لا ينتمي إليه حظًّا أوفر، وخاصة إن كان له مبدأ يخالفه أصلًا. ولا يوجد من يمتلك هذه الميزة سوى مبدأ الإسلام، وسوف نفسر ذلك لاحقًا. وهنا سنسرد بعض الأدلة على أن النظام العالمي الحالي هو في مراحله الأخيرة، ولن ينفع معه الترقيع كما تعوَّدوا فعل ذلك، بل سوف يعملون على تكراره إذا لم يظهر بديل يزيحه نهائيًّا من هذا العالم.
لقد بدأ الانحدار الحقيقي بالظهور في عام 2008م حين استيقظ العالم يومًا على أزمة مالية عالمية، أزمة الرهن العقاري، وهي من أسباب توحُّش الرأسمالية حيث أجبرت هذه الأزمة النظام العالمي على أن يظهر حقيقته ويسقط أقنعته، وخاصة مبدأ الحرية الاقتصادية التامة. فهي من أهم شروطها منع تدخل السياسة والسياسيين في التحكم بالاقتصاد. وهناك عدة أمارات تدل على أن النظام العالمي إلى تفكك، وسوف نتناولها عبر عدة أصعدة منها:
على الصعيد الاقتصادي، وأبرز ما فيه:
دائمًا عند الحكم على الاقتصاد، يؤخذ بعين الاعتبار مؤشرات كثيرة حتى نحكم على أنه في حالة انهيار أهمها: انخفاض الأموال الذكية بوتيرة غير مسبوقة منذ اندلاع الأزمة المالية الاقتصادية 2008م… توقع حدوث عجز عن سداد كمٍّ هائل من السندات الوسخة، وكما عبر عنها خبراء الاقتصاد FDIC… تقديم مساعدات غير مرغوب فيها على أنها مؤشرات مبكرة لحدوث أزمة كبيرة… مجموعة المراقبة لمشاكل سندات البنوك تظهر أنها تتضاعف بشكل مرعب، وأن أغلب البنوك الكبرى باتت في منطقه الخطر… سعر الفائدة يرتفع بشكل كبير بوتيرة متسارعة لم يشاهد مثلها منذ 60 عامًا، وسوف يؤثر على سندات الخزينة وقطاعات كثيرة… عجز سداد الديون لقطاع تجارة التجزئة الذي وصل إلى أعلى مستوى… حدوث أسوأ وتيرة إغلاق لمحلات للبيع الإقطاعي في التاريخ… دخول أكبر اقتصادات العالم في حالة حرب المبادلات التجارية… ازدياد نسبة البطالة إلى أعلى مستوى… وعجز ميزانيات الدول أو تخفيضها وارتفاع نسبة التضخم…
كل هذا يدفع نحو الركود العظيم. فالنظام المالي العالمي صار أكثر تداخلًا، وبهذه النقاط يصبح أكثر هشاشة من الأزمات الاقتصادية السابقة. وللأسف عندما ستنفجر هذه الفقاعة التي لا نستطيع تحديد موعدها لن يتمكن أحد من فعل أي شيء؛ حيث قال رون بول عضو جمهوري في مجلس النواب الأمريكي: «حرب اقتصادية ستدفع المستثمرين الأجانب عن العزوف عن شراء ديون الولايات المتحدة، ويمكن أن تنهي مكانة الدولار كعملة للاحتياطي العالمي، وسينتج عن ذلك أزمة اقتصادية عظيمة».
على الصعيد العسكري:
على الرغم من موجة التضخم العالمي وتأثيرات جائحة كورونا، استمرت معدلات الزيادة في الإنفاق العسكري العالمي خلال عام 2021م بنسبة 1.8% مقارنة بعام 2022م، بحسب تقرير التوازن العسكري 2022م الصادر عن المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجيةIISS .
فإن بعض الدول لجأت إلى زيادة إنفاقها العسكري مجبرة؛ فأصبحت العلاقات بين الصراعات القائمة الاقتصادية والإنفاق العسكري علاقة معقدة يصعب معها تحديد درجة تأثيرها؛ حيث استمرار ارتفاع معدلات التضخم ستفرض المزيد من الضغوطات على النفقات العسكرية للدول، وفي الوقت نفسه هناك عوامل تضغط باتجاه زيادة الإنفاق العسكري منها: التخوف الأوروبي من الحرب الروسية الأوكرانية… الصراع على الحصول على الطاقة التي أصبحت خنجرًا في خاصرة الدول غير المنتجة للغاز والبترول… تصاعد التنافس على قيادة النظام الدولي أو التأثير فيه. وهنا يتحدث وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن عن مفهوم الردع المتكامل الذي ينشد إلى الجمع بين الأدوات الاقتصادية والدبلوماسية، وكذلك سياسة التحالفات في إطار شامل للتعامل مع صعود الصين وردعها… تصاعد التوترات في الشرق الأوسط وآسيا؛ حيث لا تزال الصراعات محتدمة مع تزايد حدة تهديدات الفاعلين من غير الدول والنماذج المتنوعة من الميليشيات المسلحة والتنظيمات التي توصف بأنها إرهابية، والتي باتت تمتلك أسلحة متطورة قادرة على تهديد أمن الدول. وبذلك يمكننا القول إن المشاكل الخارجية التي تفرضها الجغرافيا إلى جانب أمور مهمة في علاقات التحالف والولايات المؤسساتية وحماية الاستقرار الداخلي تقوم بتوجيه الإنفاق العسكري إلى أعلى مستوى، وكل هذا سوف يدفع نحو العمل على تعدد القطبيات وتوسع حدود الدم مستقبلًا مع غياب الراعي القانوني.
على الصعيد القانوني الدولي (هيكل النظام الرأسمالي).
إن احتكار أمريكا للمنظومة الدولية ابتداء من الأمم المتحدة وصولًا إلى أصغر المؤسسات الدولية، واعتبار قرارات هذه الهيئات ملزمة للدول ما عدا أمريكا، وأنها أصبحت أدوات بيدها، وقد خالفت الوقائع التي قبلت بها ومبادئها التي قامت عليها، فلم تعد هناك مساواة بين الدول، ولا محافظة على الأمن والسلام الدوليين، ابتداء من اجتياح العراق واحتلال أفغانستان وصولًا إلى الحرب الروسية الأوكرانية اليوم، ناهيك عن الدور القذر الذي تلعبه في المجال الإنساني والاجتماعي الذي يدفع نحو جنس واحد ودين واحد … كل هذا سوف يدفع الدول إلى النظر لتأسيس منظمة دولية جديدة إذا سنحت لها الفرصة.
إن مستقبل النظام الرأسمالي متعلق أيضًا بمدى الانهيار الأخلاقي السائد في المجتمع وما زرعته الرأسمالية حتى اليوم بأدواتها ونظامها ومخططاتها، يدفعها نحو الهاوية والانهيار الحتمي، ومما سبق وغيره نجد الأزمات تعصف بالنظام الرأسمالي. وهذا سوف يدفع الأحزاب اليمينية إلى سدة الحكم مما سوف يزيد من نبرات الدعوة إلى القومية والعرقية والمذهبية في العالم العربي لما قد يعيد الساحة إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى؛ ولكن مدفوعة نحو الأسفل للوصول إلى واقع حرب الثلاثين عامًا الدينية السابقة.
إن كل ما ذكر سابقًا يدل بلا شك أن النظام العالمي يتغيَّر، وهذا لا يعني أن سقوطه أو ضعفه سيفضي إلى نهاية الدول الكبرى، وأنهم سوف يتحولون إلى دول فاشلة ساقطة ضعيفة كما يتصور البعض، لا؛ ولكن سوف ينقطع العقد الذي يجمعهم؛ وهذا ما سوف يجعل العالم يتجه نحو تعدد القطبية، أو اللاقطبية؛ وبذلك تكون الساحة متساوية للمنافسة بشكل يتسع لأي قوة جديدة ناشئة أو قديمة حق التنافس إذا ما سنحت لها الفرصة. هذا وقد قال كلاوس شواب وهو رجل أعمال ألماني يشتهر بأنه رئيس منتدى دافوس: (المنتدى الاقتصادي العالمي). في آخر منتدى اقتصادي عقد في سويسرا قبل هذا العام: «هناك تغيُّرات هيكلية عميقة وسريعة في العالم، ويجب أن تتعاون الحكومات مع الشركات من أجل أن تصبح سمكة سريعة وكبيرة». وأضاف: (كتبت كتابًا عن هذا منذ 50 عامًا عن الثورة الصناعية، وتصورت فكرة هذه الثورة التي وصفتها بـ 23 تقنية، وكانت أغلب التقنيات خيالًا علميًّا يومها؛ ولكن أصبحت حقائق، وشاهدنا كيف يمكنك استخدام ميتا فيرس العالم الافتراضي في إنشاء حوارات عالمية أكثر عمقًا واتساعًا وشمولية». [بقليل من اختصار، فرانس 24 في 5 /2022م]
ودائمًا عندما يكثر الحديث في العقول المفكرة عن حلٍّ، فمعنى ذلك أن هناك مشكلة، وهذا حالنا اليوم، وإذا بقي الحال كما هو فسوف يعمل الرأسماليون على تكرار أنفسهم ونغوص في ظلمات الرأسمالية مئة عام أخرى.
ولكن الحل الجذري هو أن يزيح مبدأ آخر الرأسمالية بشكل نهائي عن وجه هذا الكون، ولا يوجد مبدأ أصلًا سوى المبدأ الإسلامي الذي يحمل بحضارته خلاصًا للبشرية من كل ما تعاني منه اليوم، وهو المرشح الوحيد حيث إنه لا ينتمي للرأسمالية، ومبدؤه يخالفها كليًّا، وهو القادر على سيادة العالم؛ ولكنه بحاجة إلى من يمكن من ظهوره بشكل دولة كنقطة ارتكاز.
إن العالم إذا ما حدث فيه انهيار اقتصادي أو حرب عالمية أو جائحة كبرى أو غيرها، فإن ذلك سيأخذنا إلى مرحلة يجب فيها الاعتماد على الاقتصاد الحقيقي، وغياب الهيمنة الدولية، وانفراط عقد الرأسمالية. فتتحول من مبدأ حاكم للعالم إلى مبدأ تحمله دول في العالم. والرابط الاقتصادي الذي ربط العالم منذ الحرب العالمية الثانية، والقانون الدولي الذي أنشئ بنفس الفترة قد انحلت روابطه، وانفرط عقده؛ وبذلك يصبح التنافس بين الدول المنفرطة والناشئة على حد سواء ظاهرة لها واقع؛ مما يؤدي إلى عودة اللاقطبية فيجعل فرص الجميع بإثبات وجودهم حق مشروع. ناهيك عما سوف يخلفه هذا الانهيار أو انفراط العقد من ظهور انهيار اجتماعي في جميع الدول الكبرى التي كانت تغطيه وتعمل على عدم ظهوره. وهنا نرى أن ظهور الإسلام هو الأقوى حظًّا للصعود إلى القمة في أقرب وقت والذي يعود إلى أسباب كثيرة أهمها:
– الحضارة الإسلامية (مبدأ الاسلام) رباني المصدر، وهو يعالج علاقات الإنسان الثلاث: علاقة الإنسان مع ربه، ومع نفسه، ومع غيره. وبما أن الإنسان أصلًا لم يتغيَّر عبر الزمان، فان هذا النظام يصلح لكل زمان ومكان، وبما أنه تربَّع على عرش العالم 1300 سنة ويزيد، ويشهد التاريخ على ذلك، فهو يصلح لكل زمان ومكان، وتستوعب أحكامه في الأصول والفروع أي تطوُّر ونموٍّ وتنوُّع، ويواكب كل جديد في أدقِّ الجزئيات والتفاصيل، ولديه حل فريد لها.
– حكم الجهاد الذي ينبثق عن عقيدته غير الموجود مثلها في كل البشرية، فهم الأقدر على التضحية لأجل الدين وعزِّه مما سوف يقوده إلى إمامة الدنيا وقياده العالمين، وهذا ليس كلامي فقط، وإنما سبق لها أن تجسدت في فتوحات وبطولات السلف وتضحيات يشهد لها القاصي والداني، وقد سطَّرها مخلصون في هذه الأيام ونحن شهود عليها.
– جميع المسلمين بشوق كبير لعودة العقيدة الإسلامية تحت راية دولة الخلافة الإسلامية. فبلاد الإسلام تسيطر طبيعيًا على أغلب الممرات البرية والبحرية والجوية مما يجعلها تتحكَّم بغيرها.
– بلاد المسلمين غنيَّة جدًّا بثروات الدنيا، وخاصة الطاقة التي تعتبر اليوم أقوى سلاح للسيطرة بكل ما تحمل الكلمة من معنى ناهيك عن باقي المواد الأولية التي تملكها أراضي المسلمين مما سوف يساعدها لأن تكون ميدانًا حافلًا بالتنمية والاستثمار والرخاء.
– المبدأ الوحيد في العالم الذي يستطيع أن يكون لحظة ولادته دولة قوية متحكِّمة، ولها رأيها وكيانها ويحسب لها ألف حساب… وهناك كثير من الأسباب غيرها.
لقد ذكرنا سابقًا أن الإسلام بحاجة إلى من يعمل لتمكينه وظهوره، وهو ليس بظهور ربَّاني ليس للبشر يد فيه، بل هو مرتبط بالعمل مع جماعة أو حزب واتِّباع طريقة الرسول في التغيير والأخذ بالأسباب… فالأمة بحاجة إلى العمل الدؤوب والاجتهاد والسهر؛ حتى تكون جاهزة للاستفادة من هذه الفرصة التي سوف تتاح لها، والتي سوف يستفيد منها كل من عمل لها بإخلاص مستمسكًا بكتاب الله وسنة رسوله، وواضعًا تصوُّرًا واضحًا للتغيير؛ ليؤسس لها كيانًا واضح المعالم على أساس مبدئي منبثق منه دستور ورجال دعوة ودولة تحمل الفكر الصحيح والآليات لحل أي مشكلة… وإن الأمة اليوم إذا لم تعِ على متطلبات المرحلة القادمة وتبدأ بتجهيز واقعها للاستفادة من الفرصة إن أتيحت لها، فإن ذلك سيؤدي إلى ضياع الفرصة، وسيسمح للرأسمالية أن تكرر نفسها وتجلس على أنفاس الأمة مئة عام أخرى.
ولكن، ولله الحمد، فإن هناك رجالًا وعَوا واقعهم، والتزموا بخطى رسولهم الكريم، فقاموا ببناء الشخصية الإسلامية عقليًّا ونفسيًّا، وأوجدوا تكتُّلًا لحمل الدعوة، ثم انتقلوا إلى مرحلة التفاعل التي تفضي إلى نقطة الارتكاز، ومارسوا الكفاح السياسي بعدة أساليب فضربوا العلاقة بين الأمة وحكامها، وفضحوا مخططات المستعمر، وعملوا على إيجاد وعي عام بالإسلام، ومن ثم رأى عام يطالب بالإسلام، ثم توجَّهوا إلى طلب النصرة من الفئة الأقوى في المجتمع وأهل القوة والمنعة في الكيانات التنفيذية المتمثلة في الجيش، ولم يكلفوا الأمة شيئًا، وإنما دفع التكلفة من شبابه وهم يسيرون نحو إقامة الدولة، وليس أي دولة، وإنما دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة.
نعم، إنه حزب التحرير بقياداته السابقة والحالية، فقد وصلوا ليلهم بنهارهم على تجهيز كل ما يلزم من إعداد ما يمكن إعداده وتهيئته لتحقيق بشرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأيضًا كل ما يلزم لبقاء استمرار الدولة في حال قيامها، وربطوا الأسباب بالمسبِّبات من غير تواكل مؤمنين بنصر الله، قال الله تعالى: (وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ رُسُلًا إِلَىٰ قَوۡمِهِمۡ فَجَآءُوهُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ فَٱنتَقَمۡنَا مِنَ ٱلَّذِينَ أَجۡرَمُواْۖ وَكَانَ حَقًّا عَلَيۡنَا نَصۡرُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٤٧)
وإننا لنهيب بكل أبناء الأمة الإسلامية أفرادًا وجماعات، وكل من يمتلك قدرة النصرة بالسير مع هذا الحزب العظيم، أن يكونوا من رجال الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، قال تعالى: (يُرِيدُونَ لِيُطۡفُِٔواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَٱللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِۦ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡكَٰفِرُونَ ٨ هُوَ ٱلَّذِيٓ أَرۡسَلَ رَسُولَهُۥ بِٱلۡهُدَىٰ وَدِينِ ٱلۡحَقِّ لِيُظۡهِرَهُۥ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِۦ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡمُشۡرِكُونَ ٩).
2023-04-08