من هو الحاكم؟ لمن الحق في التشريع؟ لله تعالى أم للإنسان؟ (3)
2023/01/07م
المقالات
1,550 زيارة
ثائر سلامة
لقد أسسنا تأسيسًا فكريًّا لهذا السؤال في الملخص التنفيذي لهذا الكتاب، وفي متنه، إذ يكاد يكون السؤال المحوري الذي يدور عليه الكتاب، وأصَّلنا فيه بيانًا للمشاكل الفكرية العوِّيصة التي تنتج عن وضع التشريع في يد البشر، وها نحن هنا نقدم الحلول التي تعيد المسألة لنصابها الصحيح، ما هي نتائج إعادة وضع التشريع بيد الخالق بدلًا من البشر؟ ولماذا يجب أن نقوم بذلك، ولماذا يتحتَّم أخذ الشريعة الإسلامية بذاتها، وبما فيها من خصائصَ معجزةٍ منهجًا لصلاح البشرية، وإحقاق الحق، وإقامة العدل، وللتنظيم الصحيح للحياة؟
مقاصد وغايات للتشريع وسن القوانين لا بد من بيانها قبل الإجابة على السؤال: لمن الحق بالتشريع؟
من العلوم القانونية الموازية لعلم مقاصد الشريعة الإسلامية علم فلسفة القانون (أو الفقه) الذي صار يحتلُّ مكانة رائدة في الدراسات القانونية الغربية تحت مسمى: (Philosophyof law)، نظرًا لطبيعة موضوعاته التي تركز على الاهتمام بدراسة قواعد منح السلطة1 وطاعتها، والغايات والحِكَم التي تكمن وراء النظم القانونية، والكشف عن العلاقة بين القانون والمجتمع، وهي عمومًا تدور حول: حماية «حقوق الإنسان»، وتحقيق العدالة والصالح العام؛ والاستقرار القانوني والأمن القانوني وكل هدف له أسس يقوم عليها ووسائل تؤدي إلى تحقيقه، ويبحث في طبيعة القانون لا سيما في علاقته بالقيم الإنسانية والممارسات والمجتمعات، والأخلاق –ارتباطه ببعض
1 حدد الفقيه النمساوي المولد «هانز كيلسن» (1881-1973) -وهو معارض شرس لنظريات القانون الطبيعي- المشكلة المركزية لفلسفة القانون على أنها كيفية تفسير القوة المعيارية للقانون -الحق في إخبار الناس بما يجب عليهم (أو لا يجب) فعله، وليس فقط ما يجب عليهم (أو لا يجب عليهم) فعله تحت طائلة العقوبة، يعني: من له الحق أن يحرم عليك تصرفًا ما أو يلزمك بتصرف آخر؟ سواء أجبرك بما يملك من عقوبة يحق له استعمالها، أم أجبرك مطلقًا على الأخذ بتصوراته لتلتزمها فصرت تقيد نفسك بقوانينه وتشريعاته دائمًا! وكيف حصل على ذلك الحق؟ وبصورة إلزامية يعاقب على مخالفتها! فعندما يستمع القاضي إلى قضية ويقرر المدعي، ويأمر المدعى عليه بدفع تعويضات مالية، فإن سلطة القاضي للقيام بذلك تنبع من قواعد النظام القانوني التي تخول للقاضي إصدار مثل هذه القرارات، مع مراعاة القيود الإجرائية والموضوعية المختلفة التي تم سنُّها من قبل الهيئة التشريعية؛ لكن ما الذي يعطي هذه القواعد سلطتها؟ ربما يكون الدستور؛ الوثيقة التأسيسية للنظام القانوني هو الذي ينشئ هيئة تشريعية مخوَّلة بسنِّ القواعد الإجرائية والموضوعية التي تحكم قرارات المحاكم وتحدد من يمكنه ممارسة سلطة القاضي وتحت أي ظروف؛ ولكن ما الذي يعطي الدستور الحق في القيام بذلك؟ يلوح في الأفق الآن ارتداد لانهائي (تسلسل لانهائي في العلل) إذا افترض المرء مصدرًا إضافيًّا لمنح السلطة للدستور نفسه. وحيث إن القانون يطالب بالسلطة، فإن الطريقة الوحيدة لتجنب الانحدار اللامتناهي هي افتراض أن سلطة الوثيقة التأسيسية أو الدستور مشتقة من «قاعدة أساسية»، جوهرها شيء مثل «يجب إطاعة الدستور». إذن، في المحصلة يبقى السؤال: لماذا على المجتمع أن يطيع ما وثقته الهيئة التشريعية المكونة من بضعة أفراد (فقهاء دستوريين ومحامين وبعض السياسيين) من دستور ارتأته للدولة، ومن ثم فرضت القوانين التي رأتها مناسبة لتلك الدولة، وعلى الأفراد كلهم أن يطيعوها! إذن فهم أعطوا لأنفسهم صلاحية فرض طاعة الوثيقة التي على أساسها ستكون طاعتها وطاعة ما انبثق عنها أو عن تلك اللجنة التشريعية ملزمة ويعاقب على مخالفتها!
العناصر الأخلاقية؛ بحسب مذهب القانون الطبيعي2، أو بالعكس: ضرورة انفصاله عنها كما أسَّس المذهب الوضعي للفصل هذا3؛ فلا يتضمن القانون في محتواه أي عناصر أخلاقية، وتحاول تلك الفلسفة التأسيس لتشريعات بحيث تصلح لكل القوانين (لا لقانون بلد معين) في كل الأوقات (لا في زمن معين).
بدراسة المراجع الشرعية الإسلامية، والقانونية الوضعية، نجد أن المشرع يضع للقوانين أهدافًا مرادة من ورائها، وحِكَمًا باعثة عليها،وأسبابًا 4 ومقاصد دافعة اليها 5، أي سيضع مقاييس للقوانين والتشريعات، وتشكل الإطار الذي تتحرك في نطاقه كافة القوانين في مختلف مجالات الحياة، والأصل أن تتكامل القوانين فيشد بعضها أزر بعض، فنظام العقوبات مثلًا ينبني على حسن أداء النظام الاقتصادي والتكافل الاجتماعي ومسؤوليات الدولة الرعوية6، وهكذا، فالقوانين – شرعية كانت أم وضعية- إنما وضعت لتكون خادمة للقيم التي يراد لها أن تسود في حياة الناس7، (أي المفاهيم والقناعات التي يقوم عليها السلطان أي الدولة)، كقيمة العدالة، (قيل: العدل أساس الملك)، وهذه القيم نفسها قد تختلف باختلاف العقائد التي تقوم عليها المجتمعات، وهنا مربط فرسٍ، فقد تكون القيم هذه مُضَلِّلَة، لا تعدو أن تكون شعارات لا واقع لها، إذا ما وزنت بميزان الآيديولوجيات التي تحكم المجتمع، فقد تجد تلك القيم سرابًا مضلِّلًا لا أثر له في الواقع! وذلك كقيمة «التعددية» التي نادت الديمقراطية بها؛ ولكنها في الواقع قصرتها على تفرد الأحزاب السياسية بالعلمانية دون غيرها، وقصر تعددية الثقافة على الناحية الفردية في المجتمع، فكان الأصل أن تقوم الدول على عقائد صحيحة قبل النظر في صحة تشريعاتها وقوانينها؛ لذلك فإن قيام الدولة على عقائد منقوضة فكريًّا كالعلمانية8،
2 لمزيد من التفصيل حول مذهب القانون الطبيعي: أنظر: مبادئ فلسفة القانون، ترجمة د. زهير الخويلدي، شبكة النبأ المعلوماتية، المصدر: الموسوعة البريطانية.
3 أنظر: فلسفة القانون، مفهوم القانون وسريانه، البروفيسور روبرت ألكسي، تعريب الدكتور كامل فريد السالك، منشورات الحلبي الحقوقية، ص 9.
4 بالنسبة للشريعة الإسلامية نعني بالمقاصد والأسباب هنا: النتيجة التي تترتب على الشريعة، أي الحكمة الناتجة عن تطبيقها، وليس الباعث على تشريعها، أي غاية الشارع التي يهدف إليها من تشريع الشريعة، لا العلة بمفهومها الأصولي في أصول الفقه، ولا تلتمس العلة الباعثة على التشريع، ولا الحكمة إلا إذا ذكرهما الشارع، وقد جاءت آيات تبين غايات كلية وحكمًا تنتج عن تطبيق الشريعة مثل كونها رحمة، ومثل قيام الناس بالقسط، وما شابه، وقد استنبط الفقهاء مقاصد للشريعة كما هو مقرر في كتب أصول الفقه، وليس البحث هنا في كل حكم شرعي، إنما في مقاصد الشريعة ككل، وأثر تلك المقاصد على القوانين الضابطة للعلاقات في المجتمع.
5 من العلوم القانونية الموازية لعلم مقاصد الشريعة الإسلامية علم فلسفة القانون الذي صار يحتلُّ مكانة رائدة في الدراسات القانونية الغربية تحت مسمى: Legal philosophyنظرًا لطبيعة موضوعاته التي تركز على الاهتمام بدراسة الغايات والحكم التي تكمن وراء النظم القانونية والكشف عن العلاقة بين القانون والمجتمع، وهي عمومًا تدور حول: حماية «حقوق الإنسان»، وتحقيق العدالة والصالح العام؛ والاستقرار القانوني والأمن القانوني وكل هدف له أسس يقوم عليها ووسائل تؤدي إلى تحقيقه. أنظر: مقاصد القانون الوضعي في ضــوء مقاصد الشريعة الإسلامية، بقلم د. عليان بوزيان منشور في العدد 150 من مجلة المسلم المعاصر.
6 مثال ذلك أن النظام الاقتصادي، والتكافل الاجتماعي، ومسؤوليات الدولة الرعوية في الإسلام تكفي الفرد حاجاته، فإذا ما سرق بعد ذلك يكون قد اعتدى واستحق العقوبة، وحين يسرق الجائع في يوم مسغبة فإنه لا يقطع لأن الحدود تُدرأ بالشبهات، وهكذا فالأنظمة تتكامل ويأخذ بعضها برقاب بعض لأداء وظائف كلية في المجتمع!
7 من أهم وأجل القيم الإسلامية قيمة تحقيق العبودية لله وحده دون غيره، بمفهوم العبودية الواسع، وبمفهومها الخاص بموضوع التشريع، واعتبار التشريع حقًّا له وحده، وأن اتباع الناس بعضهم بعضًا في التشريع هو بمثابة اتخاذهم أربابًا من دون الله!
8 وقد قمنا بإلقاء إضاءات كبيرة على مفهوم العلمانية في هذا الكتاب نقضته فكريًّا.
أو مستحيلة الوجود عمليًّا، كالديمقراطية9، يضع المشرّعين في تلك الدول أمام عقبة كأداء، وهي استحالة قيام القيم التي تَدَّعِي الدولةُ تحقيقها، ومن ثم فالقانون الذي لا يخدم القيم ولا يساعد على حمايتها في المجتمع، يصبح بلا فاعلية ولا فعالية.
فإن كانت القيم نفسها خطأ أو مستحيلة التحقيق (مثل بناء الانتخاب على رأي الأغلبية)، كانت القوانين خطأ لبنائها على الخطأ؛ فكان لا بد من وجود معايير قابلة للتحقيق، وقيم يرجع إليها المجتمع لتنظيم السلوك الاجتماعي، والحفاظ على الحقوق المشروعة لكل فرد، وفك التصادمات بين المقاصد حين تصادمها (كأن يفضي التشريع إلى تحقيق مقصد على حساب مقصد آخر، مثل الخصوصية والأمن حين يتعارضان، فتتجسس الدولة في الغرب على الأفراد وتنتهك خصوصيتهم وحريتهم بحجة الحفاظ على الأمن. أو أن تحقق بعض القوانين قيمًا معينة وتناقضها قوانين أخرى تهدم هذه القيم، مثل تحقيق حرية التعبير وحماية حقوق المرء بالمحاكمة العادلة تتصادمان مع قانون الأدلة السرية في أمريكا، والذي يحرم المتهم من معرفة جريمته ومن الدفاع عن نفسه بحجة أن عرض أدلة جريمته يهدد الأمن القومي، فلا هو يعرفها ولا القاضي ولا يحق له الدفاع عن نفسه، فالقوانين تناقض المقاصد وتناقض بعضها بعضًا، وهذا التناقض جذري10 ينسف أوله آخره11، وليس بالتناقض العرضي الذي يحل إشكاله).
يمكننا أن نلخص بعض المقاصد والغايات التي يقوم التشريع بمراعاة تحقيقها بغية تنظيم علاقات الإنسان بنفسه وبغيره وبالمجتمع وبالدولة، وفق قواعد معيارية ملزمة تحقق التوازن والتناسق بين المصالح المختلفة لأفراد المجتمع؛ إذ إن غاية التشريع أو التقنين العامة في جميع القوانين وفي كل زمان ومكان: إيجاد تنظيم لمختلف العلاقات التشريعية أو القانونية بصفة دائمة ومستمرة، بغية حصول العدالة بين أفراد المجتمع الذين ما جاء ذلك القانون إِلّا لتنظيم حياتهم وضبط سلوكهم بسلطة الدولة لضمان استقرار اجتماعهم.
ولا شك أن تقلُّب القوانين من النقيض إلى النقيض لن يحقق الاستقرار ولا العدالة، فمثلًا
9 من ضمن القيم التي تقوم عليها الديمقراطية وتتوقف الديمقراطية عليها وجودًا وعدمًا: أولها: تحكيم رأي الأغلبية في المجتمع، ومنع تركز السلطات بيد الأقلية، أو استغلالها، وتمثيل السلطات لرأي الشعب، وهذه القيم الثلاث يستحيل تحقيقها في الواقع، والنظام الغربي كله قائم على تمازج وتداخل السلطات وتركيزها بيد الأحزاب الحاكمة، والتشريعات يقوم بها قلة من فقهاء القانون والقضاة، ولا يرجع إلى الشعب إلا في أقل القليل منها، وقد فصلنا في ذلك تفصيلًا كثيرًا في الكتاب مما أثبت أن الديمقراطية فلسفة خيالية يستحيل أن توجد في أرض الواقع!
10 حين أراد حزب المحافظين في كندا تمرير قانون الأدلة السرية، كان يواجه مقاومة شديدة في البرلمان لفظاعة شكل القانون، فقام الحزب بزراعة عميل وسط شباب مسلمين، حاول إقناعهم بالقيام بأعمال إرهابية، ولفق لهم تهمًا إرهابية بأنهم كانوا يريدون تفجير البرلمان ومقرات الدولة، وثارت ضجة إعلامية كبيرة الأصداء، فلما جاء يوم التصويت لم يجرؤ على معارضة القانون أحد، ومرَّ القانون، ثم دارت الأيام ولم تثبت التهم والقضايا على أي من المتهمين، ولم يراجع أحدٌ أحدًا بتسلسل الأحداث، وأضحى القانون قانونًا!
11 فحين تتجسس الدولة على قلة يهددون الأمن -بزعمهم- ثم تستمرئ الأمر فتسحب التجسس ليعم الناس كلهم بالتجسس الإلكتروني الذي يحصي على الجميع أنفاسهم وخطواتهم وتفكيرهم ورغائبهم وطبائعهم، لاستعمال هذا كله لتباع المعلومات للأحزاب السياسية، وللمسوِّقين للسلع، وأصحاب رأس المال، وللأجهزة الأمنية، فإن الخصوصية قد ذهبت بغير رجعة، فالقانون الثاني نسف الأول بلا رحمة!
حين يجرِّمُ القانون الاتجار بالقنب الهندي ويحكم على التاجر بالعقوبة، ثم يتغير ليقنن هذه التجارة فتصبح على ناصية كل شارع، فإن عقوبته الأولى اعتداء إذا ما نظر إليها مع التقنين الجديد، ثم إذا ما انقلب إلى النقيض ثانية فإنه يكون قد أوقع المجتمع في أذى صحي واقتصادي وأخلاقي بالغ الضرر، لا مجال لإصلاحه؛ لذلك لا يصح أن يكون المجتمع «حقل تجارب للمتشرعين»، ولا يمكن أن يحقق القانون المتقلب أي عدالة في المجتمع أو أي استقرار لعلاقاته.
ويقوم الفقيه أو المجتهد أو القاضي أو القانوني بدراسة الواقع المراد الحكم عليه، ومن ثم يدرس النصوص الشرعية أو القانونية (الدستورية) المتعلقة بذلك الواقع، وينزل الحكم على الواقع، وخلال ذلك يقوم باستحضار تلك المقاصد، وتذكر عللها ومناطاتها وحِكَمها حين استنباط الحكم!
فالغاية من هذا التشريع هو تحقيق مقاصد معينة12 من جملتها: وضع معالجات صحيحة للمشاكل، وإحقاق الحق، والعدل والإنصاف، ومنع الظلم، والقيام بالفعل الأصلح الذي يشبع الغريزة والحاجة العضوية إشباعًا صحيحًا، والذي يَصلحُ للناسِ ويُصلِحُهُمْ، ويطيقونه، ويرفع عنهم الحرج، ويقيم المجتمع على أسس معينة تتكامل فيها أنظمة الحياة والدولة، ويراعي المقاصد الثمانية13 الضرورية للإنسان وهي: حفظ النفس والمال والدين والعقل والنسل، وحفظ الدولة، وحفظ الأمن، وحفظ الكرامة الإنسانية، وقد يضاف إليها (على خلاف14) جلب المصالح، ودرء المفاسد15، وقد يضيف أصحاب القوانين الوضعية16 إلى هذه تحقيق ما يسمى بحقوق الإنسان، والحق في المساواة وغيرها من المقاصد.
12 يراجع فصل مقاصد الشريعة في كتاب الشخصية الإسلامية الجزء الثالث أصول الفقه للعلامة تقي الدين النبهاني رحمه الله، ففيه تفصيلات لفهم ما نعنيه بمقاصد الشريعة وضوابط يصعب حصرها هنا حتى يفهم سياق كلامنا في ضوء تلك الضوابط.
13 استنبط الإمام الجويني وتلميذه الإمام الغزالي من الشافعية مقاصد الشريعة، وتابعهما الإمام الشاطبي فتحددت خمسة مقاصد ضرورية: هي حفظ النفس والمال والدين والعقل والنسل، وأضاف لها الإمام تقي الدين النبهاني مقصد حفظ الأمن، ومقصد حفظ الدولة، ومقصد حفظ الكرامة الإنسانية، باستنباطها من خلال تشديد العقوبة على مقترف جريمة تمس بها شرعًا، فالخارج على الدولة بالسلاح يقاتل، ومن يشق عصا الطاعة ويبايع خليفة ثانيًا يقتل، وغيرها من الأحكام والتفصيلات يراجع فيها كتاب الشخصية الإسلامية الجزء الثالث، فأضحت المقاصد الضرورية ثمانية.
14 يراجع في كتاب الشخصية الإسلامية الجزء الثالث أصول الفقه للعلامة تقي الدين النبهاني رحمه الله، فصل: جلب المصالح ودرء المفاسد ليسا علة للشريعة بوصفها كلًا، ولا علة لأي حكم بعينه، ففيه تفصيل ممتع مهم.
15 وذلك لأنّ جلب المصالح ودرء المفاسد ليسا علة للأحكام الشرعية مطلقًا، فإنه لم يرد أي نص يدل على أن جلب المصالح ودرء المفاسد علة للأحكام الشرعية، ولا ورد أي نص يدل على أنّها علة لحكم معين، فلا تكون علة شرعية. خصوصًا وأن المصالح والمفاسد على الحقيقة مجهولان للإنسان، فيظن في أمر مصلحة وفيه ضرر والعكس، وبالتالي فالحكم على تقدير المصالح عقلًا يتفاوت، مما يجعل المصلحة بحد ذاتها تابعة للحكم الشرعي ولا يُجعل الحكم الشرعي تابعًا لها. وقولنا هذا لا يعني أن الشرع جاء ليضر بالخلق؛ ولكن المصلحة الحقيقية والصلاح الذي هو مدار الشرع لا يكون بما تقدره العقول مصلحة؛ ولكن بترك تقدير المصلحة إلى الله وحيثما شرعه فثم الصلاح والمصلحة.
16 ومن المعلوم أن الشارع لم يضع القانون عبثًا واعتباطًا، وإنما ابتغى هدفًا مرادًا من ورائه، وحِكَمًا باعثة عليه، وأسبابًا ومقاصد دافعة إليه، غير أن عناية فقهاء القانون الوضعي بمقاصد نصوصهم التشريعية أقل بكثير مما هو عند أهل الشريعة الإسلامية؛ وذلك لأن الداعي الذي قام عند فقهاء الشريعة لم يقم عند أهل القانون، وبيان ذلك أن التشريع الوضعي قابلٌ للتعديل والتغيير باستمرار، فليس بحاجة ماسَّة إلى نظرة مقاصدية، تستخرج منه الحِكَم والغايات المصلحية المقصودة منه، بل هذه الحكم والغايات نفسها عندهم تتغير من آن لآن، فما بالك بالتفصيلات القانونية؟ أنظر: مقاصد القانون الوضعي في ضــوء مقاصد الشريعة الإسلامية، بقلم د. عليان بوزيان منشور في العدد 150 من مجلة المسلم المعاصر. نقلًا عن: د. محمد سليم العوا، فكرة المقاصد في التشريع الوضعي – مقاصد الشريعة وقضايا العصر-، منشورات مؤسسة الفرقان للتراث الثقافي، ط1، 2011، ص 271.
وحين ننظر إلى التشريعات الجنائية، فإننا سنجد أن الأصل فيها تحقيق عقوبات وفاقًا للجرائم، رادعة عن ارتكابها، وجابرة للذنب (ديات، تعويضات، أرش،… إلخ)، لتزجر المجتمع عن ارتكاب الجريمة، ولتجبر ذنب المذنب، وتعوض المجني عليه بما يكافئ خسارته، وتحفظ الحق العام!.
وحين ننظر إلى مجموعة القوانين الناظمة لعلاقات المجتمع، لا بد من أن نجد التكامل فيها، وأن يظهر فيها البُعد المجتمعي، فمثلًا في الإسلام تجد قوانين وتشريعات تفضي إلى تحقيق التكافل الاجتماعي، فقد أحاطت القوانين والأحكام الأمر من جميع جوانبه للتأسيس لنظام مجتمعي قائم على التكافل الاجتماعي! على صعيد الفرد والأسرة والحي والمجتمع والدولة، وأسست ذلك على أساس من المسؤولية في الدنيا والمحاسبة في الآخرة، من ذلك مسؤوليات الفرد عن رعاية الوالدين والمسنين، ومسؤولية الحي عن إطعام الجائع، وكفالة الأيتام، ورعاية حق الجار، والضيف وعابر السبيل، ومسؤولية الدولة الرعوية لضمان الحاجات الأساسية للرعية حين عدم قدرتهم على تحقيقها، وما إلى ذلك، ورفدته بالقوانين اللازمة لتحقيقه كنظام الزكاة، والكفارات، والصدقات، وإسعاف المحتاج، وإغاثة الملهوف، والوقف، والوصية، والعارية، وغيره، فأين تجد هذا في التشريعات الغربية؟ نعم أبدعوا في التشريعات المتعلقة بالمال، والأنظمة الضريبية، وما شابه؛ إلا أنهم حين أتى الأمر على التشريعات المجتمعية التي تؤسس لبناء مجتمعات متكافلة متضامنة متعاونة لم تنبس قوانينهم ببنت شفة! وما ذلك إلا لأن طبيعة نظامهم رأسمالي بحت! فردي17 محض18!
والاهتمام بمقاصد القانون وفهمها، وتجانسها مع عقيدة الأمة، والإحساس بقدرتها على بسط العدالة في المجتمع، وإحقاق الحقوق تساهم في احترامها طواعية انطلاقًا من قوة الوازع وليس خوفًا من الرادع!
لقد قامت الولايات المتحدة في مطلع ثلاثينات القرن المنصرم بإصدار قانون صارم يحرم الخمر، وفرضت العقوبات الصارمة عليها، ولم يزدد المجتمع الأمريكي في الخمر إلا ولوعًا، مع كل الدراسات التي قدمت والتي تبيَّن مضارها، وكذا حصل في الاتحاد السوفياتي أيام غورباتشوف، فكانت تجربته أشد فشلًا، ولم تتغير قناعات الناس حول الخمر، بينما ترى أن 1.6 مليار مسلم يمتنعون عن الخمر طواعية
17 إذ إن الديمقراطية تستمد نظرتها للمجتمع من أفكار المدرسة الليبرالية لتحقيق الحريات، تلك المدرسة التي يعد جون لوك، وجون ستيورات مل، وآدم سميث وديفيد هوم من أبرز مفكريها، رغم اختلاف وجهات النظر بينهم، فإن عددًا من الأمور المشتركة بينهم مثل النظرة الفردية للإنسان، والتي تجعل الفرد وحدة مستقلة قائمة بذاتها، تتصل بغيرها لتحقيق مصالحها الذاتية، ومن ثم فالفرد يمثل غاية البناء الاجتماعي…. كما أن الإنسان وفقًا لهذه النظرية يمتلك حقوقًا طبيعية منحت له لطبيعته الإنسانية، بمعزل عن الدولة أو المجتمع، أضف إلى ذلك أن النظرة الليبرالية للإنسان تبنى على ما يسمى بانعدام القيم المشتركة، فلا توجد وحدة اجتماعية تحدد القيم الاجتماعية أو السلوك المقبول اجتماعيًّا من قبل الأفراد، فالنظرة إلى المجتمع غائبة في الفكر الليبرالي (ديفيد أنجرسول الشيوعية، الفاشية والديمقراطية ص 128-129).
18 لا يعرف الجار اسم جاره ولا يُعنى عابر الطريق بخلافٍ شبَّ بين اثنين فتصارعا!
جراء وجود مفاهيم العقيدة لديهم والتي تحرِّمُها مع بعض الشوَّاذ القليلين عن القاعدة، مما ينبيك أن أكبر مؤثر على السلوك هو الوازع والدافع المنبثق عن المفاهيم عن الحياة.
فكما ترى، سنجد أول عقبة تواجه البشر حين التشريع أن الغايات التي يراد تحقيقها من سن القوانين مختلف فيها، وفي طبيعتها، وفي تفسيرها وفي كيفية تحقيقها، وفي التعامل مع الترجيح بين تلك القيم حين اصطدام القوانين بها فتخدم بعضها وتتعارض مع بعض19!، (مثلا: الخصوصية- الأمن) وإمكانية مراعاتها حين سن قوانين كثيرة ينقض أعلاها أسفلها، وأولها آخرها، فهذه أول عقبة كَأْدَاء تكرس عدم قدرة الإنسان على التشريع الصحيح!.
وكما ترى، فإن المشرِّع الغربي اصطدم بواقع دوام تطور المجتمع وتغيُّر نظرته، وتغيُّر ما يسمى بالمصالح العامة وفقًا لذلك، ودور الإعلام في تكريس قيم معينة كانت ممنوعة زمنًا ثم شاء من شاء من المتنفذين تغيير نظرة المجتمع لها (كمثال: نظرة المجتمع لحقوق الشوَّاذ، وكمثال: نظرة المجتمع للمخدرات واستعمال القنب الهندي كانت محرمة قانونًا، والآن أضحت قانونية)، وهذا جعلهم لا يلقون بالًا كثيرًا إلى تكريس النظرة المقاصدية، وإلى وضع التعريفات الدقيقة لكل مقصد بعينه، وكيفية مراعاته، فالمقاصد نفسها عندهم قابلة للتغيير، (وأغلب مقاصدهم أخذوها من الشريعة الإسلامية20) فكيف بالقوانين التي تخدم تلك المقاصد!.
إن عدم وضوح الغاية الأساسية لوضع القوانين عند الغربيين، سيؤدي حتمًا إلى استغلال القانون استغلالًا سيئًا يفقده مصداقيته
19 تهدف التشريعات والقوانين الناظمة لعلاقات المجتمع لتحقيق قيم معينة يضعها المفكرون أو المشرعون، وقد تصطدم هذه القيم برغائب السياسيين وأصحاب رأس المال، فتظهر فورًا لديهم مشاكل تظهر قصور نظرتهم الْقِيَمِيَّةِ، ونظرتهم التشريعية فتضرب التشريعاتُ القيمَ، وتضرب وقائع حياة الناس تلك القيم المثالية الهلامية، فتستحدث الدولة من الثنائيات حول إشكاليات تناقض = القيم مع التشريعات مع واقع الحياة في تلك المجتمعات! لتضرب بها تلك القيم أو لتجعل الدولة لنفسها ذريعة في الحد من تلك القيم وتحجيمها ومحاكمة من يؤمن بها! من ذلك مثلًا: اصطدمت الدول الغربية الحديثة بهذه الثنائيات التي أجهزت على البقية الباقية من مقاصد التشريع لديهم ومع قيم حضارتهم: ثنائية: الحرية – الأمن، ثنائية: الخصوصية – الأمن، فتتدخل الدولة وأجهزتها الأمنية في خصوصيات الناس وتتجسس عليهم بكل السبل الإلكترونية بحجة الحفاظ على الأمن! فأخذت الأنظمة الغربية تشرع قوانين تزيد من سلطة الدولة في مراقبة الأفراد والحد من حرياتهم وخصوصياتهم، مظنة إفسادهم في المجتمعات وتعديهم على الأمن العام والصالح العام، واحتجَّ الناس على الدولة بأنها تتجسس عليهم، ثنائية: تدخل الدولة في السوق – منع تدخلها، ثنائية: حرية التعبير – القذف! فإن لم يرُقْ لهم التعبير قالوا عنه أنه تجاوز حرية التعبير إلى القذف، ثنائية: حرية التعبير- خطاب الكراهية، فما أسهل أن يحاكم الرأي الذي ظن صاحبه أنه من باب حرية الرأي المكفولة إلى خانة الحض على الكراهية، فيكون سببًا في سجنه، ومعلوم أن تعريفات الكراهية والقذف وما أشبه تعريفات هلامية يسهل تغييرها ووضع أي رأي تحتها ليسهل محاكمة قائله وهكذا، حرية التعبير- نشر الأباطيل والمعلومات المضللة(misinformation) وفي حين أن بعض المعلومات يسهل معرفة أنها أباطيل؛ إلا أن ذلك يصعب في كثير من الأحيان، ولكنهم يسهل عليهم أن يمنعوا رأيًا أو مقالة أو حتى يعاقبوا قائلها بحجة أنها معلومات مضللة، بل زادوا على ذلك، وتغوَّلت شركات التواصل الاجتماعي فأضحت هي «الرقيب» الذي يحدد أن هذا الرأي يصلح للنشر أو الشطب والمعاقبة، وتوسَّعت صلاحياتها بشكل مخيف! فأصبحت «دولة داخل الدولة»، لا تكتفي بدور الرقيب، بل تتجسس على رغائب الناس لأغراضها التجارية والسياسية، فتبيع معلوماتهم، أو تقبض الأموال الهائلة مقابل ترويج السلع التي تجسَّست عليهم لتعرف أنهم يرغبون فيها!. كذلك، بعد عقد اتفاقيات حرية التبادل التجاري، أرادت أمريكا التضييق على صناعات الصلب والألومنيوم ففرضت عليها رسومًا باهظة حين تستوردها من الغير، بحجة تعارضها مع الأمن القومي، ثنائية: حرية التبادل التجاري – الأمن القومي! وهكذا تتعارض القيم التي يراد لها أن تكون مرجعية للقانون مع القوانين ومع أنظمة المجتمع! وتستعمل القيم وتأويلاتها من قبل الدولة بشكل يسمح لها أن تحاكم الأفراد والهيئات على ما لا يروق لها من تصرفاتهم!!
20 أنظر: مقاصد القانون الوضعي في ضــوء مقاصد الشريعة الإسلامية، بقلم د. عليان بوزيان العدد 150 من مجلة المسلم المعاصر.
وحياده في كثير من الأحيان؛ ولذلك فإن وضوح الغاية من القانون ومعرفة أبعادها يسلب الفرصة من الذين يمتلكون النفوذ والقوة في ترجمة القانون حسب منافعهم الذاتية21، فإذا كانت الغايات نفسها ملساء متقلبة متغيرة، والتعريفات هلامية غير منضبطة، فإن الخرق في استغلال القوانين سيتسع على الراتق حتمًا!
وإذا لم يقم المجتمع على أساس من التكافل والتراحم والتوادِّ والمسؤولية عن الغير، فإن هذا كله لن يتحقق بتشريع قوانين، بل بتأسيس فكرٍ وقيامه على مبدأ، ولكن المبدأ العلماني لا يعنيه شيء من هذا! فأين ستجد الالتفات لتشريع مثل هذه القوانين من قبل المشرعين إذا كان المبدأ نفسه يغفلها؟ قطعًا لن يلتفتوا لشيء منها! فأي خسارة للإنسان أعظم وأفدح! وأية فجوة عظيمة وفرق شاسع بين الإسلام وصلاحيته وحسن معالجاته، وبين العلمانية وقصورها وفرديتها وفشلها التشريعي والفكري!.
مقاييس لا بد منها قبل الإجابة على السؤال: لمن الحق بالتشريع؟
فما هي المقاييس التي ينبغي توفرها للحُكم على نتيجة التشريع بالصحة أو الخطأ؟ بالصلاح أو الفساد؟ لعل أكثر قيمة يمكن الاتفاق عليها أساسًا للملك (أي الحكم) هي العدل، فلا بد للقوانين من أن تضمن تحقيق العدل وأن يكون الناس سواسية أمام القانون؛ لذلك سنناقش أمثلة تبحث في قدرة القوانين على تحقيق قيمة العدل أو عدم قدرتها كمقياس أساس (وسنختار من القوانين ما يتعلق بقيمة العدل ونرى انطباق القيمة على القانون، وسننظر أيضًا حيث نحتاج إلى قيم أخرى متعلقة بالقانون وننظر في مراعاتها وتحقيقها):
أولًا: قدرة المشرع على ضمان تحقيق الغايات من التشريع صالحة لكل إنسان في كل زمان ومكان (الثبات في القوانين والمعالجات وقدرتها على حل المشاكل حلًّا صحيحًا دقيقًا منطبقًا على الواقع محققًا المناط).
وحين نقول: صالحة لكل زمان ومكان، فلو أخذنا مثلًا أننا أمام تشريعٍ ينظم العلاقة بين الذكر والأنثى، وحيث إن إشباع هذا المظهر من غريزة حفظ النوع قد يكون بإحدى أربع طرق: إما بالإشباع الطبيعي (الزواج)، أو الإشباع الخطأ (الزنى) أو الإشباع الشاذ (الشذوذ الجنسي) أو عدم الإشباع بالمرة. وقد كانت الدول الغربية تحرم العلاقة المثلية وتنبذها حتى سنوات قليلة جدًّا مضت، وجلُّ الشرائع والقوانين البشرية حاربت هذه العلاقة حربًا لا هوادة فيها، والآن تراجعت كثير من تلك القوانين عن تجريم هذه العلاقة ومنع «الزواج» بناء عليها، فلنضع الفَرَض التالي: لو كان هذا الإشباع صحيحًا، يحقق القيم والمقاصد القانونية المذكورة أعلاه، فيكون فقهاء القانون قد حرموا شطرًا
21 أنظر: مقاصد القانون الوضعي في ضــوء مقاصد الشريعة الإسلامية، بقلم د. عليان بوزيان العدد 150 من مجلة المسلم المعاصر.
من الناس من ممارسة حقوقهم زمنًا طويلًا، ثم تبين لهم خطؤهم، ولا سبيل لتدارك خطئهم في حق من مات أو قاسى أو عاش ردحًا من حياته منبوذًا بسبب نظرة القوانين إليه كمجرم والمجتمع إليه كمنبوذ!
ثم لو تبين بعد حين من قوننته أنه سبب الأمراض الجنسية الخطيرة، وأن دوافعهم لتحليله كانت قائمة على أسس خاطئة22 علميًّا ومزيفة، وآثاره على المجتمع مدمرة، وأنها علاقة مذمومة قبيحة بهيمية، فإنهم لن يستطيعوا إصلاح نتائج خطأ قوانينهم في الفترة التي أباحوا هذه العلاقة فيها، وهكذا، فإن القوانين يجب أن تكون صحيحة في كل زمان ومكان، وأن لا يكون الإنسان والمجتمع ساحة للتجارب! فهذا أبعد ما يكون عن تحقيق قيم العدل وفعل الأصلح! أين المساواة أمام القانون بين من مُنِعَهَا ومن قُنِّنَتْ له؟
فالسؤال هو: ما هي الضوابط التي على أساسها ندرك أن هذا الفعل صالح أو غير صالح؟ والجواب على هذه الأسئلة يتضمن دراسة المحددات والسمات الضامنة لصلاح التشريع المتعلقة بالمتشرع والمتعلقة بالحكم والمتعلقة بنتائجه المجتمعية والفردية!
أما الثبات في القوانين المسنونة، فآتٍ من الزاوية التي تنظر فيها للمشاكل، ففي حين إن الزاوية التي ينظر فيها المتشرع الغربي للمشاكل هي زاوية تحقيق الحرية، أو زاوية المصلحة والمنفعة، وهي زوايا بالغة التقلُّب وعرضة للتفسيرات، نجد أن الإسلام جاء بمعالجات للأفعال، على اعتبار أن الإنسان يقوم بسلوكٍ يشبع فيه غريزة أو حاجة عضوية، فيضع له الضوابط لذلك الإشباع، ويضع له الحكم لذلك الفعل، فالإنسان هو الإنسان في كل زمان ومكان، سيشبع غريزة النوع بإحدى الطرق الأربع المذكورة، فيضع الإسلام له التصوُّر الصحيح للإشباع صالحًا لكل زمان ومكان، ثابتًا لا يتغير، صحيحًا منطبقًا على المشكلة، أما المشرع الغربي، فإن الزوايا التي ينظر من خلالها للمشكلة متعددة، ومتغيرة، فمثلًا: قد ينظر من زاوية تحقيق الحريات، فمن أراد أن يزني فله ذلك، ومن أراد أن يشذَّ له ذلك طالما يفعله باجتماع إرادة الطرفين، وهذه الزاوية شديدة الخطورة، اُنظر الإحصائيات التي سنوردها في فصل: (هدم العلاقات الأسرية من أجل تفكيك المجتمعات لتسيطر الرأسمالية النيوليبرالية عليها)، كذلك لو أنك طبقت الزاوية نفسها (أي تحقيق الحرية) على مشكلة المخدرات، ستقع في إشكال ضخم!، ولو طبقتها على القتل لوقعت في نتائج كارثية، وحين تطبقها على مراعاة الحرية الشخصية في اقتناء الأسلحة نتج عنها سبعة آلاف وسبعمائة وستة جرحى وألفين
22 اُنظر على اليوتيوب: الدكتور إياد قنيبي، رحلة اليقين، الحلقة 11 تزييف العلم – الشذوذ الجنسي مثالًا.
وخمسمائة وأربعة وتسعين قتيلًا بإطلاق النار في الولايات المتحدة ما بين يناير 2013م ومارس 2018م،32فأين الضوابط؟ ومتى تستعمل تلك الزاوية (الحرية) ومتى لا تستعمل؟ لا شيء غير الأهواء!
لهذه الأسباب، ولغيرها الكثير، يتبين بكل وضوح أن التشريع لا بد أن يكون لله، لا للهوى، ولا للإنسان. [انتهى]
23 https://www.massshootingtracker.org/data/all والإحصائيات تفيد بأن الشرطة الأمريكية قتلت وجرحت أكثر من خمسة وخمسين ألف شخص في عام واحد في العام 2012م، وهذا نتاج الثقافة العنصرية الموجهة ضد السود، ونتاج التمزق في المجتمع الأمريكي. قالت صحيفة لوموند الفرنسية إن عدد الهجمات المسلحة التي أدت إلى قتل جماعي في الولايات المتحدة كان مرتفعًا جدًا هذا العام. وعرفت حوادث القتل الجماعي هذه بكونها الهجمات المسلحة التي سقط فيها على الأقل أربعة جرحى أو قتلى، واستثنت من هذه الإحصاءات الهجمات التي سقط فيها ضحايا أقل من هذا العدد. وقالت لوموند إن مجموع القتلى في هجمات القتل الجماعي هذه بلغ حتى الآن 454، ومجموع الجرحى 1401. وأشارت إلى أنه خلال الأيام الـ 238 الأولى من هذا العام كانت أطول فترة مرت على الولايات المتحدة دون هجوم مسلح هي أربعة أيام، وكانت في مارس/آذار. وأضافت الصحيفة أن الهجوم -الذي وقع في ساعة متأخرة أول أمس الأربعاء في لوس أنجلوس وقتل فيه 12 شخصًا إضافة لمنفذ الهجوم- كان هو الهجوم رقم 374 منذ يناير/كانون الثاني الماضي. كان معدل الهجمات عام 2018م هو 1.20 هجوم مسلح في اليوم. عام 2016م، كان المعدل 1.30 هجوم يوميًا. في 21 أغسطس/آب 2017م، وقعت ثماني هجمات مسلحة في يوم واحد. الجزيرة: في 9/11/2018م: أميركا عام 2018… عملية قتل جماعي كل أربعة أيام، سي بي سي الكندية: حين تبحث في محرك البحث عن عدد جرائم القتل في أمريكا تجد أن أمريكيًّا يقتل بالسلاح كل 17 دقيقة، ومن كل ألف أمريكي يوجد تسعة في السجون، وفي كل سنة حوالى 100 ألف أمريكي يتعرضون للضرب بالرصاص، وفي كل يوم يتعرض 289 شخصًا في المعدل لإطلاق النار، يموت منهم يوميا 89 شخصًا، وينتحر 53 شخصًا يوميًّا، لكنك لو بحثت عن عدد المقتولين على يد الشرطة الأمريكية يوميًّا لوجدت أنه لا يوجد إحصائيات رسمية البتة، وقد قام بعض الصحفيين بالبحث على مدار سنوات لتجد الحصيلة التالية: في العام 2014م، قُتل على يد الشرطة الأمريكية 1143 شخصًا، وفي العام 2013م، قضى 1029 أمريكيًّا على يد الشرطة الأمريكية، وحين البحث في تلك الحالات تجد الغالبية الساحقة منهم فقراء أو ذوي بشرة سوداء، أو مختلين عقليًّا (30% تقريبًا من المختلين) وبعض تلك الحالات هي من النوع المستحيل، مثل أن يكون الشخص في سيارة شرطة موثق اليدين، ومن ثم تدعي الشرطة بأنه أطلق الرصاص على رأس نفسه، وبالأمس القريب رصدت كاميرات المواطنين في الشارع شرطيًّا يطلق 8 رصاصات على مواطن أعزل يفر هاربًا منه وليس لديه أي سلاح، من السهل فهم كيف يقتل رجال الشرطة الأمريكان يوميًّا 3 أمريكان، وكيف يقتل الأمريكيون بعضهم بعضًا يوميًّا بأرقام فلكية، وكيف تغصُّ السجون بالمجرمين القتلة، إنها العلمانية، تفرغ الإنسان من كل قيمة إلا قيمة العبودية للسيد الرأسمالي، فإذا ما خلا من كل قيمة ركز كل جهده في الإنتاج وربط ذلك الإنتاج بدفع الفواتير، ومع ارتفاع نسبة الضغط النفسي والأمراض العصبية، وسهولة الحصول على السلاح (لأنه أيضًا تجارة تدرُّ الربح الفلكي على سيد رأسمالي لديه تجارة سلاح، ويجند الكونغرس الأمريكي نفسه لمنع تقنين تلك التجارة أو منعها) فإنه من السهل أن نفهم كل تلك الجرائم، ومن السهل أيضًا الحكم على هذه الحضارة بالفشل والتردي والانحطاط والإيذان بالأفول. إنه لا ملجأ للبشرية ولا منجى إلا بقيام دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة لتنقل البشرية من ظلمات العلمانية إلى نور الإسلام، ومن دركات الديمقراطية إلى عُلى الشورى، ومن انحدار البشرية لأدنى من البهائم مكانةً إلى درجة يرقى فيها البشر على سائر المخلوقات. الخلافة هي أمل الإنسانية في الخروج من أتون ونفق الظلم والانفلات والانحلال والقيم الرخيصة التي نتجت عن الحضارة الغربية الرأسمالية العلمانية الليبرالية الديمقراطية، ونمط المعيشة الإسلامي هو وحده القادر على حفظ الأسر وحفظ النفوس وردع المجرمين، وإقامة العدل وإحقاق الحق.
2023-01-07