العقلية الترويضية وأثرها في استعمار الشعوب
2022/11/04م
المقالات
801 زيارة
أبو صهيب الصعصاع
هناك نظرية تسمى: (نظرية القرود الثلاثة)؛ حيث قام علماء في الغرب بإجراء تجربة على مجموعة من القرود وضعوهم ضمن قفص في وسطه درج يصل إلى منصة، وفوق المنصة عُلق عنقود موز. بعد فترة جاع أحد القرود فصعد الدرج باتجاه المنصة ليأكل الموز، فلجأ القائمون على التجربة برشق القرود جميعًا بالماء البارد، رجع القرد إلى مكانه، ثم في فترة أخرى حاول قرد آخر الوصول إلى الموز فلاقى جميع القردة عقوبة الرشق بالماء البارد، وكلما حاول أحدهم الوصول إلى الموز رشقوا جميعًا بالماء البارد حتى ألغَوا فكرة الوصول إلى الموز.
قام المشرفون على التجربة بإخراج أحد القرود واستبداله بقرد جديد وعندما جاع القرد الجديد حاول الصعود إلى المنصة فمنعه القردان الآخران وقاموا بضربه، ثم قام المشرفون باستبدال قرد من الذين كانوا موجودين في بداية التجربة بقرد جديد آخر، فلجأ القرد الجديد بفطرته للحصول على الموز فأشبعه الآخرون ضربًا، ثم قام المشرفون باستبدال القرد الأخير الذي تعرض للرش بالماء عند التجربة الأولى بقرد جديد والذي حاول أيضًا الوصول إلى الموز كالذين سبقوه فقام الآخرون بضربه رغم أن جميع القرود الذين في القفص لم يتعرضوا للرش بالماء البارد.
هذه المقدمة مهمة لنعرف معنى الترويض وأثره السيء على الإنسان عندما نتعامل معه كما التعامل مع الحيوان؛ حيث إن الترويض يركز على المشاعر التي هي إحساسات الغرائز، من ألم وضيق وحزن وانتعاش وفرح …. إلخ.
في القرن السابع الهجري طرأ الانحطاط والضعف على أذهان المسلمين في فهم الإسلام، وبدأت تحلُّ العقلية الترويضية مكان العقلية المستنيرة في الحكم على الأفعال، وكان سبب هذا الضعف هو فصل الطاقة العربية عن الطاقة الإسلامية حين أُهمل أمر اللغة العربية في فهم الإسلام وأدائه منذ أوائل القرن السابع الهجري؛ لأن اللغة العربية هي لغة الإسلام وجزء جوهري فيه، ولأنّها الطاقة اللغوية التي حملت طاقة الإسلام فامتزجت بها بحيث لا يمكن أداء الإسلام أداء كاملًا إلاّ بها، وقد نتج عن فصل الطاقة العربية عن الطاقة الإسلامية توقف الاجتهاد فزاد الطين بلة.
ومما جاء في كتاب مفاهيم حزب التحرير ما يلي: «ولكن بعد تدوين مذاهب المجتهدين وتركيز القواعد والأحكام ضعفت فكرة الاجتهاد في النفوس وقل المجتهدون؛ فغلب على المسلمين التقليد وندر فيهم الاجتهاد، حتى وصل طغيان فكرة التقليد أن وجد من يقول بإقفال باب الاجتهاد وبوجوب التقليد، ومن أجل ذلك صارت الأكثرية الساحقة في المسلمين إن لم يكن كلهم من المقلِّدين» أ.ه.
ومن هنا فتح الباب على مصراعيه للعقلية الترويضية التي كان من نتائجها أن ضعفت التقوى في نفوس المسلمین، فهان عليهم أن یسكتوا على الخلفاء والحكام إذا حكموا بالكفر في مسألة واحدة، ثم لما تزاید فيهم الضعف هان عليهم أن یسكتوا عن الحكام إذا حكموا بالكفر في عدد من المسائل. فكانت عاقبة هذا السكوت في المدى البعید أن تجاسر الحكام على تطبیق أحكام الكفر بشكل ظاهر، فقد سكت المسلمون في مصر حین طبق الحاكم القانون المدني الفرنسي سنة 1883م وأزال أحكام الشرع، ثم سكت المسلمون في الدولة الإسلامیة حین وضعت أحكام الكفر دستورًا للمسلمین سنة 1909م، مع أنهم ثاروا عليها أولًا ثم سكتوا عنها؛ ولهذا لم یكن غریبًا أن يقوم مصطفى كمال بهدم الخلافة، وهدم جمیع أحكام الإسلام، وإعلان حكم الكفر.
ولأن العقلية الترويضية سيطرت على المسلمين فإن هذه القضیة نزلت عند المسلمین عن مرتبة القضیة المصیریة، فكان ما كان، وصار هيِّنًا على المسلمین أن یظهر فيهم الكفر البواح ولا یحملون السیف لإزالته، بل صار هيِّنًا عليهم أن یحكموا بنظام الكفر ولا ینكرونه، بل إن فريقًا كبيرًا منهم قد استساغ أحكام الكفر وتعود عليها، وترك حكم الإسلام اختیارًا.
وبما أنه عندما تخلى المسلمون عن وظيفتهم التي أوكلها الله إليهم بأن يكونوا الأعلَون وسادة العالم وحملة رسالة الإسلام إلى البشرية، فمن الطبيعي أن يتنحَّوا عن الطريق ويُفسحوه لغيرهم بإرادتهم أو بغير إرادة منهم، فسنن الله لا تحابي أحدًا.
وكما أن السياسة لا تحتمل الفراغ، فإنني أزعم أن ساحة الفكر أيضًا لا تحتمل الفراغ؛ لذلك ظهرت الرأسمالية بعد الصراع الدموي المعروف بين المفكرين وأتباع الكنيسة، مما حدا بالطرفين إلى الاتفاق في النهاية على حسم الصراع وتنازل كل من الطرفين لبعضهما واتفقا على (حل وسط) بأن يعترفوا بالله ضمنًا، وفي الوقت نفسه لا شأن للكنيسة بالحكم أو التدخل فيه بل يحكم الإنسان نفسه بنفسه. ولما وقفت الرأسمالية على أقدامها بعد انتهاء الصراع، بدأت بعملية الترويض العقلي لشعوبها أولًا، ومن ثم انتقلت بعد استعمارها لشعوب العالم لترويض الشعوب المستعمَرة – ومنها الشعوب الإسلامية – بوحشية لم يشهد التاريخ لها مثيل. وقد لجأت الرأسمالية إلى الترويض العقلي لأن الفكرة الكلية التي قامت عليها لا تقنع العقل ولا توافق الفطرة فدبَّ القلق والاضطراب في حياة المحكومين الذين يرزحون تحت حكمها؛ فاضطرت بسبب ذلك إلى حكم الناس بصرامة القانون وقوة حكمها.
وما ينطبق على الرأسمالية ينطبق أيضًا على الاشتراكية التي افترضت مسبقًا أن الكون والإنسان والحياة مادة وأنكرت وجود خالق خلق كل ذلك، وقالت إن النظام المنبثق عن هذه الفكرة الكلية ينتج من تطور المادة ووسائل الإنتاج؛ ونتيجة لذلك اضطرت الاشتراكية إلى الترويض العقلي لأن الفكرة الكلية فيها بُنيت على المادة ولم تبنَ على العقل، والنظام الذي انبثق عن الفكرة الكلية صاغه مجموعة من مفكري الحزب الشيوعي المستأثر بالحكم حينذاك. فالفكرة الاشتراكية مصادمة للعقل وملغية للفطرة؛ ما أدى إلى شقاء كل من خضع لهذه المنظومة. وحتى يتم لها الترويض العقلي حكمت الشعوب الرازحة تحت حكمها من مسلمين وغير مسلمين بالنار والحديد، وقتلت وهجَّرت وشرَّدت الملايين من بيوتهم وبلادهم.
ولأن المبادئ من طبيعتها الصراع لا الالتقاء كما يزعم البعض ممن تأثروا بالعقلية الترويضية بأنها تلتقي وتتقاطع، فإن الرأسمالية خاضت مع الاشتراكية صراعًا مريرًا أدى إلى انهزام الدولة الاشتراكية في 26 ديسمبر 1991م بالضربة القاضية ولم تقم لها قائمة بعد ذلك.
وهنا فرغت الساحة للرأسمالية ولم يبقَ لها عدو مبدئي له دولة يواجهها في ساحة الفكر. ولأن الرأسمالية لا تستطيع العيش والاستمرار بلا عدو، استشعرت خطر المبدأ الإسلامي عليها، فأعلنت المعاداة للإسلام متمثلًا بحملة الدعوة من المسلمين الذين يدعون إلى إقامة الدولة الإسلامية، فأوحت لمراكز الأبحاث الاستراتيجية التابعة لها كمركز راند أن تعمل دراسة موسعة تشمل الإسلام والمسلمين وتخص الحركات الإسلامية المتواجدة في حياة المسلمين بالبحث والتحري، فخلصت هذه المؤسسة إلى نتائج نشرتها للعلن ولم تعد خافية على أحد. ومن هذه النتائج:
أنه يوجد بين المسلمين علمانيون ليبراليون خرجوا من عباءة الإسلام، ويوجد فيهم مسلمون معتدلون مزجوا بين الإسلام والعلمانية، ويوجد فيهم مسلمون أصوليون متطرفون. وأوصت الدراسة بإعطاء الأولوية والاهتمام بالإسلاميين المعتدلين مثل الحركات الصوفية وحركة الإخوان المسلمين. ووفقًا لما يذكره التقرير، فالتيار (الإسلامي) المعتدل المقصود هو ذلك التيار الذي:
1 – يرى عدم تطبيق الشريعة الإسلامية.
2 – يؤمن بحرية المرأة في اختيار «الرفيق»، وليس الزوج.
3 – يؤمن بحق الأقليات الدينية في تولِّي المناصب العليا في الدول ذات الغالبية المسلمة.
4 – يدعم التيارات الليبرالية.
5 – يؤمن بتيارين دينيين إسلاميين فقط هما: «التيار الديني التقليدي» أي تيار رجل الشارع الذي يصلي بصورة عادية وليست له اهتمامات أخرى، و«التيار الديني الذي يقبل المنظومة الغربية ويتوافق معها».
وبعد هذا نرى أن من حقنا أن نتساءل: كيف وصلت هذه الحركات الإسلامية إلى الدرجة التي يرضى عنها الساسة الرأسماليون؟
هنا نعود إلى العقلية الترويضية التي هي أساس من أساسيات هذه الحركات ما عدا حزب التحرير، فكل الحركات الإسلامية الموجودة في واقعنا اعتمدت في تثقيف أعضائها على العقلية الترويضية. طاعة مطلقة، لا تسأل شيخك، من اعترض انطرد، ومن باح راح، والمريد بين يدي الشيخ كالميت بين يدي الغاسل. والثقافة بنيت على مجرد العلم مما نتج عنه كتبًا تتحرك وبنيت على المواعظ والإرشادات فكانت خالية من حرارة الإيمان؛ ما أنتج في النهاية خطرًا على العمل من وجهة النظر الإسلامية وتخديرًا له.
وهنا كذلك نقول إن للإسلام طريقة خاصة في التوصل إلى حقائق الأمور وطريقة خاصة في الدرس تخالف المبادئ الموجودة في العالم. وهذه الطريقة في الوصول إلى حقائق الأمور تسمى الطريقة العقلية في التفكير، وهي (نقل الحس بالواقع بواسطة الحواس إلى الدماغ مع وجود معلومات سابقة تفسر هذا الواقع). ومن ربط الواقع بالمعلومات أو ربط المعلومات بالواقع تنتج عندنا مفاهيم عن الحياة، وعند قياس هذه المفاهيم على قاعدة العقيدة الإسلامية تتكون عندنا العقلية الإسلامية.
ومن نتائج هذه المفاهيم أنها تعين السلوك للمسلم نحو الواقع المدرك، وتعين له نوع الميل لهذا الواقع من الإقبال عليه أو الإحجام عنه، ومن هذه الدوافع المرتبطة بالمفاهيم تتكون النفسية الإسلامية. ولما كانت العقلية والنفسية تستندان إلى قاعدة واحدة هي العقيدة الإسلامية؛ فإنها تكوِّن لدينا شخصية إسلامية متميزة.
أما طريقة الدرس في الإسلام فإنها تقوم على عاملين اثنين، أولهما: أن يكون العلم من أجل العمل، والثاني: أن يتلقى الدارس المعلومات تلقيًا فكريًّا مؤثرًا في المشاعر وموجدًا فيه التأهل والحماسة وغزارة المعرفة وتعلم الدارس الحقائق التي يعالج بها مشاكل الحياة. ولا تكون الدراسة في الإسلام لمجرد العلم فقط من غير أن ينتج عنها عمل، ولا مجرد مواعظ وإرشادات ينتج عنها السطحية الخالية من حرارة الإيمان. عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «كانَ الرجل مِنَّا إذا تعلَّم عَشْرَ آياتٍ لم يجاوزهُنّ حتى يعرف معانيَهُنَّ، والعملَ بهنَّ».
هذا هو الفرق بين العقلية الترويضية ونتائجها الخطرة على أصحابها وعلى العالم الذي تأثر بها ومنه العالم الإسلامي، وبين العقلية العميقة والمستنيرة التي بثَّها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه وبنى عليها دولته، ومنها انطلق شعاع النور إلى العالم أجمع.
2022-11-04