حمد طبيب – بيت المقدس
عندما نذكر المولد النبوي الشريف، نتذكر نور الرسالة الهادية التي أنار بها هذا النبي الكريم عصر الظلمات بالهداية والاستقامة والحق. بعد أن انقطع هذا النور سنوات طويلة منذ عصر آخر لبنة في بيت النبوة؛ أي منذ رسالة سيدنا عيسى عليه السلام؛ فكان نبيُّنا عليه الصلاة والسلام اللَّبِنَة المكمِّلة لهذا البيت العظيم؛ فاكتمل البيت بها، وازدانت جوانبه وأركانه. وفي هذه الذكرى العطرة الطيبة المباركة نريد أن نقف على الحقائق التالية، والتي تخص رسالة الهادي صلى الله عليه وسلم (رسالة الإسلام):
1- لقد عرّفت رسالة الإسلام البشرية بنفسها؛ بعد سنين من التيه والضياع، عبدت فيها البشرية الحجر والشجر والنجوم والكواكب، فعرّفتها أولًا: بخالق الكون والإنسان والحياة، وبحقيقة الخلق، وحقيقة رحلة الإنسان في هذه الحياة؛ بأنها لغاية جليلة عظيمة، ولم تخلق عبثًا ولا لهوًا. قال تعالى: (أَفَحَسِبۡتُمۡ أَنَّمَا خَلَقۡنَٰكُمۡ عَبَثٗا وَأَنَّكُمۡ إِلَيۡنَا لَا تُرۡجَعُونَ١١٥) [المؤمنون: 115]، وقال سبحانه: (لَوۡ أَرَدۡنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهۡوٗا لَّٱتَّخَذۡنَٰهُ مِن لَّدُنَّآ إِن كُنَّا فَٰعِلِينَ ١٧)، وعرفتها أنها من عباد الله عز وجل؛ تشرَّفت وتكرَّمت بهذه النسبة لهذا الخالق العظيم.
2- رسالة الإسلام جعلت الناس في ظلِّها إخوة متحابين؛ لا فضل لعربي على عجمي، ولا لأسود على أبيض، ولا لأحمر على أصفر إلا بالتقوى: قال تعالى: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ شُعُوبٗا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْۚ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٞ١٣)[الحجرات: 13]، وقال عليه الصلاة والسلام: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ؛ أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عربيٍّ،َ وَلَا لِأَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى؛ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ» رواه البيهقي في شعب الإيمان.
3- أنارت هذه الرسالة الربَّانية السامية للناس طريق الخير والشر، وجاءت بأحكام نورانية مستقيمة، وضعت كل شيء في نصابه، وعالجت أمور الناس معالجة سامية لا تصل إليها أي شرائع أخرى؛ لأنها الوحيدة من الله تعالى، وكل الشرائع الأخرى من وضع البشر العاجزين الناقصين، قال تعالى: (وَنَزَّلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ تِبۡيَٰنٗا لِّكُلِّ شَيۡءٖ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٗ وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُسۡلِمِينَ) [النحل: 89]، وقال سبحانه: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدۡ جَآءَكُم بُرۡهَٰنٞ مِّن رَّبِّكُمۡ وَأَنزَلۡنَآ إِلَيۡكُمۡ نُورٗا مُّبِينٗا١٧٤) [النساء: 174].
4- ارتفعت رسالة الإسلام بالبشرية عن الالتصاق بالطين والتراب ومتع الحياة الدنيا إلى الصلة الروحية السامية بخالق الطين والتراب؛ في ظل هذا النور الرباني العظيم، قال تعالى: ﴿وَلَقَدۡ كَرَّمۡنَا بَنِيٓ ءَادَمَ وَحَمَلۡنَٰهُمۡ فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ وَرَزَقۡنَٰهُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَفَضَّلۡنَٰهُمۡ عَلَىٰ كَثِيرٖ مِّمَّنۡ خَلَقۡنَا تَفۡضِيلٗا ٧٠) [الإسراء: 70]، وارتفعت عن المصاف البهيمي الحيواني إلى المصاف الإنساني، وعن التيه الموازي للموت إلى الحياة، قال تعالى: (أَوَ مَن كَانَ مَيۡتٗا فَأَحۡيَيۡنَٰهُ وَجَعَلۡنَا لَهُۥ نُورٗا يَمۡشِي بِهِۦ فِي ٱلنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُۥ فِي ٱلظُّلُمَٰتِ لَيۡسَ بِخَارِجٖ مِّنۡهَاۚ كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلۡكَٰفِرِينَ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ١٢٢)[الأنعام: 122]
5- أرست رسالة الإسلام دعائم السلم والسلام بمعناه الصحيح؛ وذلك بنشر الهداية بين الناس، وعدم التطلُّع لما في أيديهم؛ كما كان يحصل في حروب الجاهلية؛ حيث كانت تُسلب الأموال وتسبى النساء، ويعيث الغازون في الأرض فسادًا وإفسادًا؛ كما كان يحصل بين الفرس والروم، أو بين القبائل العربية بعضها مع بعض؛ في داحس والغبراء، ويوم حليمة ويوم بعاث وغيرها.
إن أوصاف الرسالة لا تقف عند نقاط معينة، فكل آية أو حديث من أحاديث المصطفى تعتبر ركيزة حق ومشكاة نور لهذه الرسالة العظيمة.
إن هذا النور الإلهي العظيم الذي أنار وجه الأرض في عصر الظلمات؛ فأشرقت الأرض بنور ربها بإشراقته، ليذكرنا هذه الأيام بما يجري على وجه الأرض من تيه وضياع، وظلمات وظلم للناس أشد مما كان في الجاهلية الأولى، ويقودنا للقول بأن البشرية هذه الأيام تعاني ما تعاني؛ بسبب غياب الحق (الإسلام)، وأنه لا ينقذها إلا الإسلام؛ بالطريقة نفسها التي جاء بها الوحي للرسول عليه الصلاة والسلام، أي بنشر هداية الإسلام ونور الإسلام؛ ليشرق مرة أخرى كما أشرق من قبل.
لقد عانت البشرية من الظلم والتيه قبل اتباع العالم للمبدئين الرأسمالي والاشتراكي، عانت في العصور الوسطى من ظلم الكنيسة ورجال الدين لدرجة الانفجار على هذا الظلم؛ فاتَّبعت النظام الرأسمالي بعد أخذ ورد وصراع طويل بين المفكرين من جانب ورجال الدين من جانب آخر، ثم لم تلبث البشرية أن تحرَّرت من عبودية رجال الدين؛ لتقع رهينة عبودية الرأسماليين وأصحاب المال. فحاولت الانفلات من هذا الظلم باتِّباع الاشتراكية لرفع الهيمنة الرأسمالية من أشخاص معدودين؛ ولكنها كذلك وجدت بعد سنوات أنها كالمستجير من الرمضاء بالنار، وما زالت البشرية ضائعة تائهة حتى يومنا هذا.
إن وجه الأرض خالٍ وللأسف من دولة تحمل هذا النور؛ كما حمله المسلمون من قبل، فوصلوا به إلى أقاصي الأرض شمالًا وجنوبًا وشرقًا وغربًا، وأنه وللأسف أيضًا يسود الضلال بكافة أشكاله على رأسه المنهج الرأسمالي الهابط الملتصق بالطين والتراب. وتتجبَّر دول هذا المبدأ السقيم بالبشرية؛ فتنشر الحروب، وتسفك الدماء، وتغتصب البلاد والعباد، وتسلب الأموال من أفواه الجياع؛ فتنشر المجاعات بسبب جشع شركاتها العملاقة ودولها الشريرة.
إن هذا ليذكرنا بواجب أمة الإسلام، ونحن اليوم في ذكرى ميلاد المصطفى عليه الصلاة والسلام. فميلاده هو ميلاد رسالة. فالمسلمون بدون دولة تطبق الإسلام هم أضيع من الأيتام على مأدبة اللئام. والعالم بدون الإسلام كالأرض العطشى المتشقِّقة من كثرة الجفاف. وقد وصف الحق تعالى هذه الأمة بالخيرية في ظل الإسلام، أي في ظل خلافة الإسلام، فقال سبحانه: (كُنتُمۡ خَيۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَتُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ) [آل عمران: 110]. والرسول صلى الله عليه وسلم وصف هذه الأمة بأنها كالغيث الذي يروي وجه الأرض، فقال عليه الصلاة والسلام: «مَثَلُ أُمَّتِي مَثَلُ الْمَطَرِ لَا يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَوْ آخِرُهُ» أخرجه الإمام أحمد في مسنده.
فنسأله تعالى، ونحن في هذه الذكرى العطرة، أن تكون ذكرى ودافعًا لأمة الإسلام لإعادة صرح الإسلام: خلافة على منهاج النبوة، وحمل الإسلام من خلالها رسالة خير وهدى إلى البشرية جميعًا.