سيد الشنقيطي – نزيل دار باريس بفرنسا
عفا الله عن سلفنا من روّاد المطبوعين بالغرب، ويسّر له الإجابة عند سؤال منكر ونكير وجنّبه العذاب! فقد مجّد باريس بانبهار وانهزام، وبالغ في وصفها بمنتهى التقدير والاحترام. ولو أنه مكث فيها بضعة عقود، لربّما كان لافتِتانه بها حدود، ولأدرك أنّ القرية الظالمي أهلها، ليست مطلقًا كما تخيّلها؛ لكنّ إمام البِعثة المسكين، قدِم في عصر الهبوط المتين، حيث هُزم المسلمون فكريًّا في شتى الميادين، فتصوَّر بعضهم أنّ مدافع نابُّلْيون تديرها الجنّ والشياطين. وكأني بالكاتب قد شاهد الجنّة بباريس، فلم يعِ أنّ وراءها إبليس. ولم يدرك أنّ ما رأى من بنًى إنّما هو ثمرة أفكار المفكّرين، وأنّ النّهضة هي الَارتقاء الفكريّ لدى الآدميّين… أمّا باريس فتعانقت فيها العقيدة العَلمانيّة، بما تبقّى منَ الدّيانة النّصرانيّة. فسيطر عليها الإلحاد، وكثُر فيها الارتداد. وهي مدينة الفواحش والفساد، والبِغاء والإفساد. فيها فروع بلا أصل، وأصول بلا وص. اختلط فيها التّلوّث بالرّطوبة، والتّخنّث بالرّجولة. والتقى فيها حبّ النّفعيّة بالانفراد والفرديّة؛ فهيمنت عليها القيمة المادّيّة، وانعدمت فيها القيم الإنسانيّة والأخلاقيّة والرّوحيّة، وظلّت شعاراتها مظهرًا، والمنفعة جوهرًا… وأمّا سكّان باريس فأشكال وأصناف، ولهم عند النّاس بعد المـُعاينة أوصاف. منهم من يمشي على رِجليْن وأكثرهم على أربع، والجميع في خدمة الغرائز والحاجات لتُشبع. السّعادة عندهمُ الإفراط في تنويع المـُتع، والتّفريط في المحظور والوَرع. مفاهيمهم لا تتعدّى التّفنّن في المطعومات والملبوسات والسّفريّات، وقِبلتهم نساؤهم الكاسيات العاريات، المائلات والمميلات. سلوكهم يدور مع المصلحة وجودًا وعدمًا، ولا يرقى حتّى إلى المـُضيّ في استعمارهم التّليد قُدُمًا. حديثهم المفضّل في الغيبة والنّميمة غالبًا، وفي ما تحت السّرة دائمًا أبدًا. يشهد لهم جيرانهم الأوروبيّون بالقذَر والبخل وكثرة الاشتكاء، والمقيمون بينهم بالغُرور والتزمّت والكبرياء. ولعلّك بعد ذلك تتساءل: كيف تمكّن هؤلاء، من التحكّم في الشعوب العاطفيّة وفي الأغبياء… وأمّا الفَرنسيّة فلغة الَاستثناءات، في الصوتيّات والمعجميّات، وكذا في التراكيب والصرفيّات. وقد غزتها الإنكليزيّة بألفاظها، فصارت هجينة لا لونَ لها. وأصبح أصحابها يسمّونها الفَرَنْكِليزِيّة، من شدّة تأثّرها باللّغة الشّيكِسْبيرِيّة، وهي الآن تحتضر في السّكرات، توشِك أن تلفظ أنفاسها الأخيرة في العَبَرات، فلا يبقى لها أثر إلا في المستعمَرات… فها أنت ترى مرأى العين في الكواليس، مشاهِد حيّة من حضور إبليس. تلك هي مدينة باريس الطّنّانة، قِبلة المفتونين بالشعارات الرّنّانة. ولئن كانت مهد «إعلان حقوق الإنسان»، فهي ليست دار حقيقة العنوان. فالكيل فيها بمكيالين، والعيش فيها بين المتناقضيْن. إنّها عاصمة الدّياجير والأوهام، سراب فيه الشّعار الثّلاثيّ (الحرّية – المساواة – الأخوة) كالأحلام.