حامد عبد العزيز
النظام الرأسمالي أوهن من بيت العنكبوت:
النظام الرأسمالي هو منظومة متشابكة من الخطايا والآثام ابتُليت به البشرية، فيه السلطة والجاه وحتى الحياة الكريمة هي فقط لأباطرة المال وأصحاب السلطة، فالدولة هي فقط لهم الحارس الأمين. أما ما يمكن تسميته إنجازات للنظام الرأسمالي، فدافعها المال وغايتها الأرباح وليس الإنسان. وأما رعاية الدولة الرأسمالية لعموم الناس ودعمها لهم فهو أمر ثانوي وليس أصيلًا فيها، بل هو أمر يأتي لتشغيل ماكينة الأرباح باستمرار الطلب، وكذلك لتلافي الثورة على تلك المنظومة. والدول الرأسمالية كالبيوت الضخمة الفخمة الجميلة ولكنها متصدعة لا يسترها إلا الصيف، حتى إذا جاء الشتاء ظهرت الصدوع وسالت الشقوق على رؤوس أصحابها وظهر للعيان عيب البنيان وضعف الأركان، بل هي أوهن من بيت العنكبوت.
وإذا كانت هذه الصدوع قد ظهرت في الدول القوية الغنية في أوروبا وأمريكا، فهي في النسخة الممسوخة من الدول الرأسمالية في بلداننا أظهر وأشد. لقد بان عوار النظام الرأسمالي وانكشف للناس فساده وتهاوي بنيانه الفكري؛ خاصة وقد استطاع حزب التحرير هدم الأسس العقدية والفكرية للرأسمالية، تحديدًا في إصداره الأخير «نقض الفكر الغربي الرأسمالي»، ونحن هنا لن نعيد ما سطَّره حزب التحرير في كتابه المميز هذا، فلن يكون مقالنا هذا نقضًا آخر للرأسمالية من ناحية فكرية، بل سيكون نقضًا لها من ناحية عملية واقعية. فالإسلام مبدأ كما الرأسمالية، ولكنه من عند رب العالمين؛ ولذا فهو المبدأ الوحيد الصحيح في الدنيا، وهو عقيدة عقلية مقنعة للعقل وموافقة للفطرة، ينبثق عنها نظام صحيح يعالج كل مشاكل البشر في كل زمان ومكان، وهو ليس صحيحًا فقط من ناحية فكرية بالدليل والبرهان، بل لقد أثبت نجاحًا منقطع النظير عندما طُبق في الأرض لأكثر من ثلاثة عشر قرنًا من الزمان، كان فيها الشمس المضيئة والقمر المنير للبشرية. ونحن في السطور القادمة سوف نركِّز على فشل النظام الرأسمالي في تطبيقاته على أرض الواقع، وسوف نبيِّن فساد معالجاته ومناقضته لفلسفته التي يقوم عليها، وكيف كان بلاءً على البشرية.
نشوء المبدأ الرأسمالي كردة فعل:
إن الناظر في كيفية نشوء النظام الرأسمالي وتشكُّله يرى أنه كان سقيمًا في أساسه وفي طريقة معالجاته من أول يوم؛ حيث كان أساسه ردّة فعل غرائزية على الظلم، ثم كان حلًّا غير مبنيٍّ على العقل عندما توصَّل المفكرون ورجال الدين إلى الحلّ الوسط في بناء النظام الجديد، فـ(الحلُّ الوسط) ليس حلًّا مبنيًّا على عقل سليم؛ لأنه توسط بين أمرين متناقضين متنافرين متباعدين!
لقد كان من أبرز النظم في المبدأ الرأسمالي النظام الاقتصادي الذي يهدف إلى تكثير رأس المال في المجتمع بأية وسيلة دون انضباطٍ بأخلاق ولا قيم، وفي الوقت نفسه ينظر إلى توزيع الثروة في المجتمع عن طريق أداةٍ وحيدة هي (جهاز الثمن). وهذا الأمر ولّد أمورًا كثيرة في المجتمع جلبت الدمار والخراب في داخل المجتمعات الرأسمالية وخارجها؛ حيث كانت الشركات العملاقة والبنوك التي تنهب ثروات الناس تحت عنوان حرية التملك وتنمية الملك والانتفاع به، وكان التفاوت الطبقي الكبير نتيجة سيطرة الأغنياء على الثروات، فأصبح نسبة 1-2% في المجتمعات الرأسمالية يسيطرون على أكثر من 98% من ثروات المجتمع، و2% من الثروات الباقية توزّع على 98% من باقي الشعب! أما في سياسة الدول الخارجية فكان الاستعمار وكانت الحروب، وكان مصّ دماء الشعوب الضعيفة، وانتشرت فوق ذلك الجرائم والأمراض الفتَّاكة كالإيدز نتيجة ارتباط عقول الناس بالمنافع والأموال وعدم ارتباطهم بالقيم والأخلاق، فأصبح مرض الإيدز ينتشر بالملايين في مجتمعات الغرب، وأصبحت الجريمة تقاس بالثانية الواحدة في أرقى عواصم الغرب في نيويورك وغيرها.
أزمات لا تنتهي للنظام الرأسمالي:
لذلك نشأت المشاكل والأزمات في النظام الرأسمالي منذ نشأته وتكوُّنه، وصارت تكبر وتزداد مع امتداد هذا النظام وتوسُّعه، فكان من مظاهر هذه الأزمات – في أوائل النشوء في القرن التاسع عشر – أزمة الأجور وساعات العمل في أمريكا حيث استمرت إضرابات العمال فترةً طويلة حتى توصّلوا بعدها إلى حلّ وسط في تحديد الأجور وساعات العمل. وكانت بعد ذلك أزمة الكساد العظيم في بدايات القرن العشرين سنة 1929م. وكانت أزمة الحروب الطاحنة للسيطرة على الأسواق ورؤوس الأموال فكانت الحرب العالمية الأولى التي حصدت في صفوف العسكر عشرة ملايين قتيل وعشرين مليون جريح. بينما حصدت الحرب أرواح ما بين 5 و10 ملايين مدني، وَفقًا لتقديرات بعض المؤرّخين، بينما بلغ القتلى في الحرب العالمية الثانية 55 مليون ضحية في أوروبا وآسيا.
ثم كانت أزمات الصراع الدولي الساخن والبارد بين الدول العظمى، وتسابُق التسلُّح من أجل الردع وإنفاق المليارات على ذلك، وتخلَّل هذه المرحلة الاستعمارُ العسكريّ لكثير من بلاد العالم من أجل السيطرة على الموادّ الخام والتحكُّم في الأسواق الجديدة، ثم حصلت في بدايات القرن الواحد والعشرين أزمة الرهن العقاري، وامتدَّت كالنار في الهشيم حيث جلبت على العالم الدمار الاقتصادي وخسارات تقدر بأكثر من 60 تريليون دولار حتى سنة 2011م، عدا عن انهيارات في مؤسسات مالية كبيرة، وازدياد عدد الفقراء وازدياد عدد المهدَّدين بالموت جوعًا، وما زالت الأزمة تضرب هنا وهناك، وتنفلت نارها هنا وهناك، ويحاول قادة الغرب إطفاءها والسيطرة عليها لكن دون جدوى!!..
ويُعَدّ الاستعمار بكافة أشكاله هو الوجه الحقيقي للمبدأ الرأسمالي، وهو الطريقة الهابطة الشريرة لنشره في العالم، وهو أداة السيطرة على مقدرات الشعوب وثرواتها. فلولا الاستعمار لما استطاعت الدول الرأسمالية الصمود سياسيًا ولا استطاعت تحقيق أي نمو اقتصادي، فقد نهبت الدول الرأسمالية أفريقيا وأجزاء عظيمة من آسيا، كما قامت أمريكا منذ قرون باستعمار أمريكا الجنوبية واللاتينية؛ ما أمدَّ الدول بثروات هائلة، وسمح لها هذا كله بأن تعطي شعوبها رفاهية محدودة تجعلهم يرضَون عن نظامها بشكل أو بآخر، وأطال ذلك في عمرها على حساب الشعوب المستعمرة المقهورة.
تلك هي حضارة الغرب، ارتبطت بالاستعمار، وقامت في أحضانه، ثم حاولت أن تفرض نفسها على العالم كله، ومنه البلاد الإسلامية في فترة ضعف وتخلف واجهت فيها تحدِّيًا خطيرًا، قوامه التبعية بالنفوذ العسكري والسياسي.
فكرة الحرية وما أنتجته من بلايا:
كان لفكرة الحرية الشخصية التي اهتمَّ بها المبدأ الرأسمالي وأعلى من شأنها لدرجة التقديس نتائج كارثية في المجتمعات الغربية تنذر بتفتت وانحلال تلك المجتمعات، والأرقام خير شاهد على ذلك؛ فقد شَهِدت أمريكا في عام واحد ما يقرب من 40.000 حالة اغتصاب بالقوة، وفي عام واحد 10.000 حالة اغتصاب للأطفال تحت 12 سنة، 20% منها تم بواسطة الآباء. وأعلن مركز مكافحة الأمراض والوقاية الأمريكي أن 36% من المواليد في أمريكا جاؤوا من الزنا، وهي أعلى نسبة في تاريخ أمريكا منذ نشأتها. وأعلن مكتب الإحصاء الحكومي في فرنسا أن عدد الأطفال الذين وُلدوا من الزنا في 2006م تجاوز عدد الأطفال الذين وُلدوا لأبوين متزوِّجين، وذلك لأول مرة في تاريخ البلاد. وذكر المكتب أن من بين 830 ألف مولود في فرنسا عام 2006م ولد 50.5% لأبوين غير متزوجين، مقابل 48.4% في عام 2005م، وأقل من 40% قبل 10 سنوات.
وأعلن المركز القومي للإدمان وتعاطي المواد المخدِّرة التابع لجامعة كولومبيا الأمريكية أن نسبة من يشرَبون الخمور من الطلبة ما بين عام 1993م وحتى عام 2005م وصلت إلى 70%، وأن 97 ألف حالة اغتصاب أو هجوم جنسي قد حدثت نتيجة استخدام الخمور أو المخدرات في جامعات أمريكا، وذلك من عام 2001م إلى 2005م فقط.
وأوردت إحدى الدراسات الصادرة في واشنطن، أعدها مركز الضحايا الوطني ومركز الأبحاث ومعالجة ضحايا الاغتصاب – أن ثمانيَ وسبعين امرأةً يتعرَّضن للاغتصاب كل ساعة، وتضيف الدراسة أن 13% من النساء في أمريكا تعرَّضن للاغتصاب على الأقل مرة واحدة في حياتهنَّ.
وكشف تقرير نشرته محطة CNN الإخبارية الأمريكية في الأول من كانون الثاني/يناير 2002م عن انتشار ظاهرة تجارة الرقيق من النساء حول العالم؛ لاستخدامهنَّ في الأعمال الجنسية المحرَّمة، وقد أكَّد هذا التقرير أن هناك مائة وعشرين ألف امرأة من أوروبا الشرقية وروسيا والدول الفقيرة حولها يتمُّ تهجيرهنَّ إلى أوروبا الغربية لهذا الغرض الدنيء، وأكثر من 15 ألف امرأة يتم إرسالهنَّ إلى أمريكا وأغلبهن من المكسيك. وتُباع النساء القادمات من دول شرق آسيا في أمريكا بستة عشر ألف دولار للواحدة؛ ليتمَّ استخدامهنَّ بعد ذلك في بيوت الدعارة والحانات.
كيف عجز النظام الرأسمالي عن معالجة مشكلة الفقر:
ينطلق الرأسماليون في نظرتهم للفقر من نظرتهم للمشكلة الاقتصادية التي يسعون لحلِّها ويسمُّونها نظرية الندرة النسبية للسلع والخدمات، والتي تنص على كثرة الحاجات وقلة وسائل إشباعها، أي عدم كفاية السلع والخدمات الموجودة في هذا الكون لإشباع حاجات الإنسان المتجددة والمتزايدة إشباعًا كليًّا. فالمشكلة عندهم إذًا هي الحاجات والموارد وليس الإنسان، أي هي توفير الموارد لإشباع الحاجات، وليس إشباع حاجات كل فرد من الأفراد.
ومن هذه النظرة التي تقوم على أساس الندرة النسبية للسلع والخدمات، وأن الحاجة هي الرغبة، وأن هذه الخدمات تتغير تبعًا للتطور المادي والمدني، عرَّفوا الفقر بأنه عدم القدرة على إشباع الحاجات من سلع وخدمات، وأنه يختلف باختلاف الأمم والأشخاص، فهو شيء نسبي اعتباري، فالأمم المنحطَّة تكون حاجات أفرادها محدودة في السلع والخدمات الضرورية، فيكون الفقر فيها عدم القدرة على الحصول على هذه السلع والخدمات. في حين إن الأمم المتمدنة المتقدِّمة ماديًّا تكون حاجات أفرادها كثيرة يحتاج إشباعها إلى سلع وخدمات أكثر، فيعتبر الفقر فيها غير الفقر في البلدان المتأخرة، فمثلًا يعتبر عدم إشباع الحاجات الكمالية في أوروبا وأمريكا فقرًا، في حين لا يعتبر عدم إشباع الحاجات الكمالية مع إشباع الحاجات الأساسية في مصر والعراق مثلًا فقرًا، وهذا خطأ محض لأنهم جعلوا الفقر شيئًا اعتباريًّا وليس حقيقيًّا، وهذا مخالف لواقع الفقر الذي لا يختلف باختلاف زمان أو مكان، أو بتقدم مدني أو انحطاط، ولأن التشريع أي تشريع موضوع للإنسان فلا بد أن ينظر للإنسان عند وضع المعالجات للمشاكل بوصفه إنسانًا يتكون من حاجات عضوية وغرائز لا بوصفه فردًا.
ولم تقف الرأسمالية عند هذا الخطأ في تعريف الفقر، بل إنها أوجدته وساعدت في تكريسه عند نظرتها إلى توزيع الثروة؛ إذ يرون أنها تتم ضمن طريقتين: الأولى حرية التملك، فبعد توفير الموارد والثروات لمجموع الناس، يترك لهم حرية التملك، دونما تحديد لأسباب معينة له، أو إشارة إلى طرق تنمية معينة له، وهذا حتمًا يؤدي إلى تركيز الثروة وحصرها في أيدي فئة قليلة، وحرمان فئات أخرى منها، أي يؤدي إلى سوء توزيع الثروة، فشاعت الاحتكارات الرأسمالية التي تعدَّت سيطرتها حدود المجتمعات الرأسمالية إلى باقي أنحاء العالم، فاستبدَّ المنتجون بالمستهلكين وشاع الفقر والحرمان.
أما الطريقة الثانية عندهم لتوزيع الثروة فهي الثمن، فالثمن عندهم هو المنظم لتوزيع الثروة على أفراد المجتمع، فيقولون إنه القيد الذي يجعل الإنسان يتوقف عن الحيازة والاستهلاك عند الحد الذي يتناسب مع موارده. وبذلك يكون الثمن بارتفاعه لبعض السلع وانخفاضه لبعضها، وتوفر النقد عند البعض وعدم توفره عند الآخرين، يكون منظِّمًا لتوزيع الثروة على المستهلكين، ويكون نصيب كل فرد من ثروة البلاد ليس بمقدار حاجاته الأساسية، وإنما هو معادل لقيمة الأعمال التي ساهم بها في إنتاج السلع والخدمات، أي بمقدار ما يحوز من مال.
وبهاتين القاعدتين حرية التملك والثمن يكون النظام الاقتصادي الرأسمالي قد قرَّر أنه لا يستحقُّ الحياة إلا من كان قادرًا على المساهمة في إنتاج السلع والخدمات أو امتلاكها بأي سبب يناسبه، أما من كان عاجزًا لأنه خُلِقَ ضعيفًا، أو لضعف طرأ عليه، فلا يستحق أن ينال من ثروة البلاد ما يسدُّ حاجاته. وكذلك يستحق التخمة والسيادة والسيطرة على الغير بماله كل من كان قادرًا على ذلك؛ لأنه خُلِقَ قويًا في جسمه أو عقله، أو كان أقدر من غيره على الحيازة بأي طريق من الطرق.
اضطهاد العرقيات الصغيرة في بلاد الغرب برغم ادِّعاء الغرب رفعِ شعار الحرية والمساواة:
«لا أستطيع التنفس» جملة قصيرة واضحة قالها الأمريكي جورج فلويد قبل مقتله على يد ضابط شرطة مدينة مينيابوليس تُظهر الوجه الحقيقي للرأسمالية بلا مساحيق تجميل، وليس هذا خاصًّا بأمريكا وحدها، بل تكاد ترى هذه العنصرية ماثلة في كل البلاد الرأسمالية. فالغرب لم يكن في يوم من الأيام سفيرَ سلام إلى العالم، ولا حاملًا لتباشيرَ خيرٍ وعدل بين الناس. فأمريكا ومنذ فجر تأسيسها سطَّرت تاريخًا أسود قائمًا على العنصرية والاضطهاد. فكان أول ضحايا مبادئها القذرة سكان البلاد الأصليين من الهنود الحمر الذين أبيدوا إبادات جماعية فلم يبقَ من عِرقهم إلا قلَّة قليلة ما زالت شاهدًا حيًّا على همجية نظامهم الدموي حتى اليوم. ولم تكن يومًا تُخفي عنصريتها تجاه فئات من الناس، فها هي تدرس في صلب مناهجها التربوية عقيدة النظرية الداروينية التي تتمحور حول فكرة أن العرق الأبيض هو أرقى تطورًا من باقي الأعراق، وأن ذوي البشرة السوداء أقرب إلى الحيوانات في صفاتهم، مثل شكل الجبهة البارزة إلى الأمام وتفلطح الأنف ولون البشرة الداكن. وأن الأعراق الراقية لن تتابع تطورها إلا من خلال إبادة الأعراق المنحطة. ويقول داروين في كتابه «تحدُّر البشرية»: «في فترة مستقبلية ما، ليست ببعيدة إذا ما قيست بالقرون، ستقوم الأجناس المتحضِّرة من الإنسان وبشكل شبه مؤكَّد بإبادة واستبدال الأجناس الهمجية عبر العالم».
وليس الغرب كله ببعيد كذلك عن فكر الفيلسوف الفرنسي مونتسكيو مؤلف كتاب روح القوانين حيث يقول: «إن لنا حقًا مكتسبًا في اتخاذ الزنوج عبيدًا، وإن شعوب أوروبا بعد أن أفنت سكان أمريكا الأصليين لم يعد أمامها إلا أن تستعبد شعوب أفريقيا لكي تستخدمها لاستغلال هذه الأقطار الفسيحة، فما هذه الشعوب إلا عناصر سوداء البشرة من قمة الرأس إلى أخمص القدمين، ولا يمكن أن الله جلت قدرته يضع روحًا طيبة في مثل هذا الجسم الحالك السواد». وانظروا معي إلى معنى كلمة أسود في معجم «ويبستير»: فالأسود هو «الملطَّخ للغاية بالقذارة، القذر، الملوث، الشرير، سبب الكوارث». والآن بدأ الغرب يسفر عن وجهه القبيح تجاه المسلمين الذين يعيشون في الغرب والتي بدأت الممارسات العنصرية تلاحقهم، فحياتهم مهدَّدة ومساجدهم معرَّضة للهجوم والحرق وقتل من فيها في أي وقت، والحملة على الحجاب مستعرة، ومحاولات الدمج على قدم وساق والشعار المرفوع الآن هو اندمج أو ارحل.
فمما لا شك فيه أن التمييز العنصري أمر حتمي في الثقافة الغربية. يقول الشيخ الجليل تقي الدين النبهاني رحمه الله في كتاب نظام الإسلام: «إن الإنسان يكيِّف سلوكه في الحياة بحسب مفاهيمه عنها، فمفاهيم الإنسان عن شخص يحبُّه تكيِّف سلوكه نحوه على النقيض من سلوكه مع شخص يبغضه وعنده مفاهيم البغض عنه، وعلى خلاف سلوكه مع شخص لا يعرفه ولا يوجد لديه أي مفهوم عنه، فالسلوك الإنساني مربوط بمفاهيم الإنسان»، فهذا الكلام يفسر واقع التمييز العنصري داخل المجتمع في أمريكا وأوروبا، وأن سلوك الناس في الغرب إنما هو مرتبط بمفاهيم الأعماق في تلك المجتمعات، فالعنصرية عندهم ليست مجرد ممارسة خاطئة، بل هي منبثقة من مفاهيم فكرية.
إن ما يجري في أمريكا وأوروبا ليس نتيجة تطبيق سياسات خاطئة، وليس نتيجة إجرام مجرمين ولا فساد حكام فحسب، وإنما هو فساد وإجرام مبدأ. هذا المبدأ الآيل للسقوط والذي يواجه تحديات داخلية وخارجية. فمن الخارج كورونا وصراعات دولية، ومن الداخل انقسام عنصري بين الأبيض وسائر الألوان، وانقسام طبقي بين الأغنياء وسائر البشر، وانقسام فكري بين يمين ويسار. وأمريكا بلا شك هي الممثل الأبرز لهذا المبدأ، وهم يقرُّون أن المشكلة مبدئية. فالرئيس الأمريكي السابق ترامب قال: «لن نسمح للغوغاء الغاضبين بتدمير ديمقراطيتنا» يقول هذا الكلام مع أن المحتجِّين يدينون بالدين الرأسمالي نفسه الذي يحمله ترامب؛ ولكنهم يدركون أن المشكلة إن تفاقمت فإنها تهدد المبدأ ككل.
إن البشرية جمعاء لا خلاص لها إلا بالإسلام، فليس لدى غير المسلمين أفق في تغييرٍ حقيقيٍّ جذريٍّ ينشر العدل بين العربي والأعجمي، ويلغي الفارق بين الأبيض والأحمر والأصفر والأسود. فهذا سيِّد النبيين وخاتم المرسلين يكرم بلالًا الحبشي ويصطفيه يوم فتح مكة عند دخوله الكعبة المشرَّفة قائلًا له: «ادخل يا بلال، فلا يصلينَّ معي أحد في جوف الكعبة إلا أنت». فالإسلام صهر كل المجموعات البشرية في بوتقته دون تمييز، وبقي أثر هذا الانصهار واضحًا حتى يومنا هذا رغم التردِّي الذي نعيشه. فالإسلام هو وحده القادر على تخليص البشرية من النظام الرأسمالي وبلاياه التي تعاني منها البشرية كلها. وإن عودة الإسلام ممثَّلًا في دولته دولة الخلافة على منهاج النبوة بات قريبًا بإذن الله، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله.