م. موسى عبد الشكور الخليل
تجاه ما يعيشه المسلمون من أوضاع معيشية بائسة، ووجود حكام قد أوغلوا في عمالاتهم للغرب الكافر حتى النخاع، وخانوا الله ورسوله ودينه، وباعوا قضايا الأمة… نرى أن الأمة قد استوت لديها فكرة التغيير وأصبحت مطلبها العام وأملها المرجَّى. وهي قد قامت بمحاولات متنوعة من أجل تغيير هذه الأوضاع إلى ما يجعلها أمة عزيزة كريمة؛ ولكنها لم تُحصِّل حتى الآن مسعاها، وكان أن دفعت الثمن غاليًا؛ فقد قامت فيها جماعات مسلحة وخاضت مع الدول التي هي فيها معارك كرٍّ وفرٍّ وقامت بتفجيرات واغتيالات أدَّت إلى استشراس أنظمة الحكم وزيادة إجرامها بحق المسلمين، وبالتالي زيادة مآسيهم من غير أن تحقق هذه الجماعات المسلحة هدفها… وكذلك قامت فيها ثورات نزلت فيها الأمة بالملايين تريد التغيير، فلم يألُ الحكام في الأمة: قتلًا وتشريدًا واعتقالًا وتعذيبًا وتضييقًا ما أدى إلى شعور الناس بعدم قدرتهم على تحقيق مرادهم في التغيير، وأنه ينقصهم شيء ما… وقد كان رد فعل أنظمة الدول شنيعًا وممعنًا في تعميم المآسي على شعوبهم، مع تركيز إعلامي على تشويه سمعة إسلام الحكم وتشويه سمعة العاملين له، كون إقامة الحكم بالإسلام كان هو أساس مطلب ومقصد تحركات الأمة وتلك الجماعات. هذا ولم يخفَ على أحد أن الغرب كان هو الذي يدير تلك المواجهة الشرسة المجرمة من وراء حجاب والحكام كانوا خنجره المسموم.
هنا يأتي الحديث في مقالنا هذا عن دور الجيوش في عملية التغيير. فالجماعات التي قامت من أجل التغيير عن طريق الأعمال المسلحة نظرت للجيوش نظرة سلبية مطلقة، وأعطتهم حكم الحاكم بالعداء المطلق لهم مستشهدين بقوله تعالى: (إِنَّ فِرۡعَوۡنَ وَهَٰمَٰنَ وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خَٰطِِٔين). أما الثورات فإنها ركَّزت على تغيير الحاكم، ولم تدخل الجيوش في حساباتها للتغيير. والحق يقال إن عملية التغيير لا بدَّ لها من قوة، وإذا كانت عملية التغيير شرعية فلا بد من أن يكون استعمال القوة شرعيًا. فكيف يريدنا الشرع أن نستعمل القوة في عملية التغيير؟.
قبل الخوض في الموضوع، لا بد من الوقوف أمام حقيقة ثابتة، وهي أن دور الجيوش في الدول إنما هو دور تأمين الحماية من أي عدوان خارجي، وإيجاد الأمان في الدولة، وليس من عملها الحكم، فالجيوش ليست مؤهلة للحكم، وطبيعة نشأة ضباطها يعتمد على القوة والغلبة، وليس رعاية الشؤون وسياسة الناس، فهي تحافط على نظام الحكم الدستوري في الدول، وتأتمر عادة بأوامر القيادة السياسية…
وهناك حقيقة ثابتة أخرى في الجيوش، وهي أنها صارت في هذا العصر جيوشًا نظامية متخصِّصة ومحترفة في القتال: تسليحًا وتمويلًا وتدريبًا وتخطيطًا… تستخدم الطيران والدبابات والصواريخ والغواصات وغيرها من الأسلحة المكلفة جدًا والتي لا تستطيع توفيرها ولا استعمالها الجماعات المسلحة التي تريد التغيير بالسلاح؛ وهذا ما يضطرها من أجل مواجهة هذه الجيوش إلى الوقوع في الفخ ومد اليد إلى دول وأنظمة عميلة أخرى لا تقل سوءًا عن تلك التي تواجهها لتستعين بها على التغيير…
وهناك حقيقة ثابتة أخرى متعلقة بالجيوش، وهي أن عامة أبناء الجيوش اليوم هم من أبناء المسلمين، ولا يجوز أن ينظر إليهم على أنهم أعداء للأمة وفي صف الحكام، بل هم جزء من الأمة الإسلامية، فيهم الصالح وفيهم الطالح وما يصيب الأمة الإسلامية يصيب الجيوش، وما يحصل من تغيير في الأمة الإسلامية يحصل في الجيوش، والصعوبة التي نلاقيها في تغيير الأمة الإسلامية هي نفس الصعوبة في تغيير الجيوش، فهم يشعرون بخيانة الحكام مثلما يرى الناس خيانة الحكام، فأفراد الجيش وضباطه عامة هم مسلمون، ولديهم أحاسيس ومشاعر وتشوُّق للجهاد والتحرير، والحاكم يخافهم ويخاف انقلابهم عليه؛ لذلك هو يقودهم بضباط قادة تربوا على مقاس الحكام ولبسوا مثلهم ثوب الخيانة، وتم شراؤهم وأخذ الولاء منهم وإغداق الأموال عليهم ليكونوا في صفهم وضد الأمة؛ فمشكلتنا مع قادة الجيوش ومصدِّري الأوامر منهم، ومع الثقافة التي يحملونها حيث تم تثقيفهم بثقافة العداء للإسلام ومحاربته، والولاء للحاكم، والمحافظة على عرشه، والمحافظة على حدود سايكس بيكو؛ من هنا يتضح أن عدم تحرك الجنود لنصرة قضايا المسلمين ليس سببه الكفر أو حب قتل المسلمين، وإنما هو الخوف الذي يوجد مثله عند أفراد الأمة الإسلامية، ويوجد الكثير الكثير منهم مثل أفراد الأمة يتحرَّقون شوقًا للقضاء على الحكام وقتال الكفار… ومع هذا نقول بأن كل عنصر في الجيش، أفرادًا وضباطًا، يسأله ربه عن كل موقف غير شرعي يقفه ضد المسلمين، أو في طاعة الحاكم في إجرامه، أو في تدعيم ملكه حتى ولو كان مجبورًا… فالمسألة هنا متعلقة بأن هؤلاء ليسوا بكفار، وأنهم لا يأخذون حكم الحاكم في العداء، بل يجب أن يؤخذوا إلى جانب الدعوة وإقامة الدولة، وهذا ما يخافه الحاكم منهم أن ينقلبوا عليه؛ لذلك يزرع جواسيسه عليهم حتى لا يأتيه الضرر منهم. ونحن نقدم للحاكم خدمة عندما نجعلهم في صفه هكذا بالجملة.
أما ما هو موقف الشرع من استعمال القوة والاستنصار بالجيوش في عملية التغيير؛ فهذا ما يجب البحث عنه وطلب النصرة على أساسه. فالرسول صلى الله عليه وسلم استعان بأهل القوة، والقرآن ذكرهم ومدحهم، والشرع جعل لهم مهمة النصرة في إقامة الدولة، والجهاد فيما بعد إقامتها، وفي كلا الحالين جعل لهم من الأجر ما لا يحصيه إلا الله.
ونحن إذا انطلقنا من هذا الواقع لنطبق الحكم الشرعي في طلب النصرة كما فعل ذلك صلى الله عليه وسلم حيث داوم على طلبها من أهل القوة، قائلًا: «مَنْ يَنْصُرُنِي حَتَّى أُبَلِّغَ عَنْ رَبِّي؟» مبيِّنًا من خلال طلبها: أين تكون القوة، ومعنى النصرة، وممن تطلب. والله سبحانه أمر أصحاب القوة من المسلمين الدفاع عن المسلمين إذا ما استنصروهم في دينهم فقال سبحانه: (وَإِنِ ٱسۡتَنصَرُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ فَعَلَيۡكُمُ ٱلنَّصۡرُ ).
فالنصرة التي كان يطلبها صلى الله عليه وسلم إنما كانت من أجل نصرة الدين وإقامته في واقع الحياة بدولة تطبقه وتبلغه، ولم يكن يطلب النصرة فقط لحمايته هو شخصيًا ومن آمنوا معه… وهي لم تكن مجرد دعوة للدخول في الإسلام بل فهمت القبائل التي طلب الرسول منها النصرة أن الأمر يتعلق بإقامة كيان وقتال ودولة؛ حيث كان رد بني عامر بن صعصعة على طلب الرسول صلى الله عليه وسلم لنصرتهم: «أرأيتَ إنْ نَحْنُ بَايَعْنَاكَ عَلَى أَمْرِكَ، ثُمَّ أَظْهَرَكَ اللَّهُ عَلَى مَنْ خَالَفَكَ، أَيَكُونُ لَنَا الْأَمْرُ مِنْ بَعْدِكَ؟» قَالَ: «الْأَمْرُ إلَى اللَّهِ يَضَعُهُ حَيْثُ يَشَاءُ». فقالوا لَهُ: «أفَتُهدَف نحورُنا لِلْعَرَبِ دُونَكَ، فَإِذَا أَظْهَرَكَ اللَّهُ كَانَ الْأَمْرُ لِغَيْرِنَا! لَا حَاجَةَ لَنَا بِأَمْرِكَ؛ فَأَبَوْا عَلَيْهِ»، أي أنهم كانوا يعرفون أن النصرة هي لإقامة دولة، فأرادوا أن يكونوا هم حكامَها من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكذلك كان رد بني شيبان للرسول صلى الله عليه وسلم عندما طلب نصرتهم حيث أدركوا أن النصرة تعني حكمًا وجهادًا للعرب والعجم، فوافقوا على قتال العرب، أما قتال الفرس فرفضوا… فالأمر هو الحكم والسلطان، فواضح أن تلك القبائل أدركت أن الرسول صلى الله عليه وسلم يطلب منها الأمر والسلطان حين يعرض نفسه عليهم ليسلموه الحكم، وهو صلى الله عليه وسلم أقرَّهم على فهمهم هذا.
وقد كشفت بيعة العقبة الثانية حقيقة النصرة التي كان يطلبها النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وهي تقتضي استلام الحكم، عن عبادة بن الصامت قال: «دَعَانَا النَّبِيُّ، فَبَايَعْنَاهُ، فَقَالَ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا: أَنْ بَايَعَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا، وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا، وَأَثَرَةً عَلَيْنَا، وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنَ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ» رواه البخاري. وقوله صلى الله عليه وسلم: « بَايَعَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ… وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ» فالبيعة هنا ليست متعلقة بأمر النبوَّة، بل بالحكم والسلطان، وقد ظهر ذلك من جواب سعد رضي الله عنه حيث قال: أيها الناس أتدرون على ما تبايعون؟ والله إنكم لتبايعون على قتال الأحمر والأسود من الناس، واللهِ لترمينَّكم العرب والعجم عن قوس واحدة…
ورسولنا الكريم الموحى إليه هو قدوتنا وأسوتنا في إقامة الدولة الإسلامية، وفي مخاطبة أهل القوة؛ لذا وجب علينا الاتصال بأهل القوة لإقامة هذا الفرض الذي يعتبر مفتاح الخير الذي يفتح باب الدولة الإسلامية الموصد. فالفرض هذا قد داوم الرسول صلى الله عليه وسلم على طلبه ست عشرة مرة أو يزيد، وعليه يجب العمل على طلب النصرة من أهلها في بلاد المسلمين دون الالتزام بعدد مرات أو بجدولٍ زمنيٍّ، بل يستمر ذلك حتى يتحقق الأمر وتزال كل العوائق أمام عودة الأمة إلى دورها في الحياة في تعبيد الناس لله رب العالمين عبر الدعوة والجهاد، وإزالة كل من يحاول منع إقامة الفروض الشرعية التي تزاحمت، والخلاص منه كائنًا من كان.
إن على أهل القوة والمنعة أن يدركوا أنهم مكلفون لإقامة هذا الفرض، وحمايته وتمكين القائمين به من الحكم بما أنزل الله والجهاد وإرهاب العدو… وعليهم أن يعرفوا أنهم أهل حرب وليسوا أهل حكم، وعليهم أن ينظروا إلى أن مهمة إقامة الخلافة على عظمها، فإنها بعد إقامتها أصعب وأشقُّ. والمسألة ليست متعلقة بمن يحكم، وإنما بوجوب الحكم بما أنزل الله. وحزب التحرير ليس طالب سلطة، وليست عنده شهوة الحكم، ولو كان كذلك لما سار في أصعب طريق، وهو طريق الرسول صلى الله عليه وسلم، ولما صبر كل هذا الصبر، ولما تحمَّل ما لا تستطيع الجبال أن تتحمَّله، ولكان ساوم وباع واشترى؛ ولكنه الإيمان بالله، وبوعده الذي يطمع أن يناله هو وشبابه بأن تقوم الخلافة الراشدة الثانية التي بشر بها الرسول أنها تكون في آخر الزمان، وأنها تكون على منهاج النبوة بقوله: «ثم تكون خلافة على منهاج النبوة» بأن تقوم على يديه، فأي شرف هذا الذي يناله؟! وأي منزلة عند الله يبلغها بهذا العمل؟!
إن إقامة الخلافة في آخر الزمان كل الإرهاصات تشير إلى قرب انبلاجها، وإن الأمة لتتحضر للقيام بواجبها، وإن الغرب ليحتضر بحضارته التي ما ولَّدت وما أنبتت إلا الشر، وما نشرت إلا الضلال والإضلال، وأن علينا واجب سرعة دفنها… فهنيئًا لمن كانت له يد في إقامة الخلافة الراشدة التي تكون على منهاج النبوة.
إن ما يريده الغرب الكافر المستعمر هو أن يخاف أهل القوة من أهل الحق من المسلمين أن ينصروا دين الله، وخوفه هذا ليس من فراغ، إنما مرده أنه لا يثق بهم حتى وهو يملك قياداتهم؛ لذلك هو يسلط عليهم جواسيسه ليمنعهم من نصرة دينه، ويسلط عليهم إعلامه ليحرف بوصلتهم فينصرون باطله ويحاربون الحق معه؛ لذلك يقبع الغرب وهو متربص خائف من أن تقوم للمسلمين قائمتهم وهو غافل عنهم؛ لأنه لا يعرف من أي صوب سيخرجون إليه… على كل حال، نحن على موعد مع نصر الله فيه إعجاز تدخل من الله كما تعوَّدنا منه سبحانه مع أنبيائه.
وفي الختام نقول: إن في أهل القوة الخير الكثير، ولا غنى عنهم في التغيير، وعندما يأذن الله بفرجه سيلتقي أهل النصرة مع جحافل المسلمين يقودهم خليفة المسلمين على أمر قد قدر؛ ليقوموا باستعادة سلطان الأمة المسلوب، وبعدها ينتظر المسلمون وأهل القوة الكثير من الأعباء في نصرة الدين وحماية الدولة وإقامة الجهاد في سبيل الله…
إن الجيوش ثروة هائلة وكبيرة للأمة الإسلامية يجب تحريرها من قادتها الخونة، فالقضية إذا وعاها أهل القوة والمنعة بأنها قضية إقامة الدين بإقامة دولته، وأنها واجب شرعي يحقق العزة للإسلام والمسلمين ويقود إلى نوال رضوان الله؛ فإنهم سيضحون ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة. وما دامت قد قامت الدولة الإسلامية الأولى بهم، فبهم تقام الدولة الإسلامية الثانية. وإنها لسوف تعود، بإذن الله تعالى، دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة من جديد وستلقى نصرةً وأنصارًا وحكمًا وجهادًا حتى ليقول المسلمون جميعًا لقد صدق الله رسوله البشرى: «ثم تكون خلافة راشدة على منهاج النبوة» وأنعم بها بشرى حق.