هذا الموضوع مأخوذ من كتاب «الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله والثلاثة الخلفاء» وهو يتناول كيف كانت عزة الإسلام تتجلى في نفوس الأوائل عند مواجهة الملوك وتبليغهم قبل خوض الجهاد معهم: إما الإسلام، أو الجزية والقبول بالحكم بالإسلام، أو الحرب… ولكم كانت هذه المواجهة أهم من المعارك والحروب، أو كانت موطئة للنصر؛ حيث كانت تأكل قلوب الملوك وتؤثر على قراراتهم، وتجعلهم يدركون هزيمتهم قبل خوض المعارك. إنها كلمة السواء التي لم يقف أمامها كسرى ولا قيصر، ولن يقف أمامها أمثالهما، وإن ذلك لا يكون إلا في دولة الخلافة كما كانت من قبل… هذا مايعيه الغرب ويعمل على منعه، ويجب أن يعيه المسلمون ويعملوا على إحيائه.
أرسل سعد بن أبي وقَّاص إلى المغيرة وبسر بن أبي رهم وعرفجة بن هرثمة وحذيفة بن محسن وربعي بن عامر وقرفة بن أبي زاهر التيمي الوائلي ومذعور بن عدي العجلي والمضارب بن يزيد وسعيد بن مرة وهما من بني عجل أيضًا وكان سعيد من دهاة العرب فقال لهم سعد: إني مرسلكم إلى هؤلاء فما عندكم؟ قالوا: نتبع ما تأمرنا به وننتهي إليه، فإذا جاء أمر لم يكن منك فيه شيء نظرنا أمثل ما ينبغي وأنفعه للناس فكلمناهم به. قال سعد: هذا فعل الحَزَمة اذهبوا فتهيؤوا، فقال ربعي بن عامر إن الأعاجم لهم آراء وأدب، ومتى نأتِهم جميعًا يرون أنا قد احتفلنا لهم، فلا تزدهم على رجل، فمالؤوه جميعًا على ذلك فقال: فسرحني، فسرحه.
فخرج ربعي ابن عامر ليدخل على رستم (قائد الفرس في القادسية) عسكَرَه، فقالوا له ضع سلاحك، فقال: إني لم آتِكم فأضع سلاحي بأمركم، أنتم دعوتموني، فإن أحببتم أن آتيكم كما أريد وإلا رجعت. فأخبروا رستمًا فقال: اِئذنوا له، هل هو إلا رجل، فأقبل يتوكَّأ على رمحه وزجه نصل يقارب الخطو ويزج النمارق والبسط، فما ترك لهم نمرقة ولا بساطًا إلا أفسده وتركها متهتكة مخرقة، فلما دنا من رستم تعلَّق به الحرس، وجلس على الأرض وركز رمحه في البساط، فقالوا: ما حملك على هذا؟ قال: إنَّا لا نستحب القعود على زينتكم، فقال له رستم ما جاء بكم؟ فقال: اللهُ ابتعثنا وجاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله تعالى، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلَنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبله قبلنا ذلك منه ورجعنا عنه وتركناه وأرضه يليها دوننا، ومن أبى قاتلناه أبدًا حتى نفضي إلى موعود الله. قال: وما موعود الله؟ قال: الجنة لمن مات على قتال من أبى والظفر لمن بقي. قال رستم: قد سمعنا مقالتكم، فهل لكم أن تؤخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه وتنظروا؟ قال: نعم. كم أحب إليك، أيوم أم يومان؟ قال لا، بل حتى نكاتب أهل رأينا ورؤساء قومنا فقال: إن مما سنَّ لنا رسول الله وعمل به أئمتنا ألا نمكن الأعداء من بدأتنا ولا نؤجلهم عند الالتقاء أكثر من ثلاث، فنحن مترددون عنكم ثلاثًا، فانظر في أمرك واختر واحدة من ثلاث بعد الأجل: اختر الإسلام وندعك وأرضك، أو الجزاء فنقبل ونكف عنك، وإن كنت عن نصرنا غنيًّا تركناك منه، وإن كنت إليه محتاجًا منعناك، أو المنابذة في اليوم الرابع، ولسنا نبدؤك فيما بيننا وبين اليوم الرابع إلا أن تبدأنا. أنا كفيل لك بذلك على جميع من ترى. قال: أسيدهم أنت؟ قال: لا، ولكن المسلمين فيما بينهم كالجسد بعضهم من بعض يجير أدناهم على أعلاهم. فخلص رستم برؤساء أهل فارس فقال: ما ترون؟ هل سمعتم كلامًا قط أوضح نصرًا ولا أعز من كلام هذا الرجل؟ قالوا: معاذ اللهِ أن تميل إلى شيء من هذا وتدع دينك لهذا الكلب، أما ترى إلى ثيابه؟! فقال: ويحكم، لا تنظروا إلى الثياب، ولكن انظروا إلى الرأي والكلام والسيرة، إن العرب تستخفُّ باللباس والمأكل ويصونون الأحساب، ليسوا مثلكم في اللباس، ولا يرون فيه ما ترون.
فلما كان الغد بعثوا أن ابعث إلينا ذلك الرجل، فبعث إليهم سعد بن أبي وقاص حذيفة بن محصن فأقبل في زي المغيرة الزهيد، حتى إذا كان على أدنى البساط قيل له انزل. قال: ذلك لو جئتكم في حاجتي، فقولوا لملككم أله حاجة أم لي؟ فإن قال لي فقد كذب ورجعت عنه وتركتكم، وإن قال له، لم آته إلا على ما أُحب. فقال: دعوه، فجاء حتى وقف عليه، ورستم على سريره. فقال له انزل. قال: لا أفعل. فلما أبى سأله: ما بالك جئت، ولم يجئ صاحبنا بالأمس؟ قال إن أميرنا يحب أن يعدل بيننا في الشدة والرخاء فهذه نوبتي. قال ما جاء بكم؟ قال الله عز وجل مَنَّ علينا بدينه وأرانا آياته حتى عرفناه وكنا له منكرين، ثم أمرنا بدعاء الناس إلى واحدة من ثلاث، فأيها أجابوا إليه قبلناه: الإسلام وننصرف عنكم، أو الجزاء ونمنعكم إن احتجتم إلى ذلك، أو المنابذة. فقال: أو الموادعة إلى يوم؟ فقال: نعم ثلاثًا من أمس. فلما لم يجد عنده إلا ذلك ردَّه وأقبل على أصحابه فقال: ويلكم ألا ترون ما أرى، جاءنا الأول بالأمس فغلبنا على أرضنا وحقَّر ما نعظم وأقام فرسه على زبرجنا وربطه به، فهو في يمن الطائر ذهب بأرضنا وما فيها إليهم مع فضل عقله، وجاءنا هذا اليوم فوقف علينا فهو في يمن الطائر سيقوم على أرضنا دوننا، فراده أصحابه الكلام حتى أغضبوه وأغضبهم.
فلما كان من الغد أرسلَ: ابعثوا إلينا رجلًا فبعثوا إليه المغيرة بن شعبة، قالوا: فلما جاء إلى القنطرة يعبرها إلى أهل فارس حبسوه واستأذنوا رستمًا في إجازته، فأذن في ذلك، فأقبل المغيرة والقوم في زيهم كما في الأمس لم يغيروا شيئًا من شارتهم تقوية لتهاونهم، عليهم التيجان والثياب المنسوجة بالذهب وبسطهم على غلوة لايصل إلى صاحبهم حتى يمشي عليها، وجاء المغيرة وله أربع ضفائر يمشي حتى جلس معه على سريره وشارته فوثبوا إليه فنتروه وأنزلوه فقال: إنه كانت تبلغنا عنكم أحلام، ولا أرى قومًا أسفه منكم، إنَّا معشر العرب سواء، لا يستعبد بعضنا بعضًا إلا أن يكون محاربًا لصاحبه، ولم آتِكم؛ ولكنكم دعوتموني، وليس ينبغي لكم إذا أرسلتم إليَّ أن تمنعوني من الجلوس حيث أردت، وما أكلمكم إلا وأنا جالس معه، اليوم علمت أنكم مغلوبون، وأن ملكًا لا يقوم على هذه السيرة ولا على هذه العقول. فقالت السفلة: صدق والله العربي. وقالت الدهاقين: والله لقد رمى بكلام لا يزال خولنا والضعفاء منا ينزعون إليه، قاتل الله أوّلينا ما كان أحمقهم حين يصغرون أمر هذه الأمة، فمازحه رستم ليمحو ما صُنع به، فقال له: يا عربي، إن الحاشية قد تصنع ما لايوافق الملك فيتراخى عنها مخافة أن يكسرها عما ينبغي من ذلك، والأمر على ما تحب من الوفاء وقبول الحق وليس ما صنعوا بضائرك ولا ناقصك عندنا، فاجلس حيث شئت، فأجلسه معه ثم قال: ما هذه المغازل التي معك؟، يعني السهام، قال: ما ضر الجمرة أن لا تكون طويلة ثم رماهم، ثم قال له رستم تكلم أو أتكلم؟ فقال المغيرة: أنت الذي بعثت إلينا فتكلم، فأقام الترجمان بينهما، وتكلم رستم فحمد قومه وعظم الملك والمملكة وقال: لم نزل متمكنين في البلاد ظاهرين على الأعداء أشرافًا في الأمم ليس لأحد من الملوك مثل عزنا وشرفنا وسلطاننا، ننصر على الناس ولا ينصرون علينا إلا اليوم أو اليومين أو الشهر أو الشهرين لأجل الذنوب، فإذا انتقم الله منا فرضي رد إلينا عزنا، ثم إنه لم تكن في الناس أمة أصغر عندنا أمرًا منكم،كنتم أهل قشف ومعيشة سيئة، لا نراكم شيئًا ولا نعدُكم، وكنتم إذا قحطت أرضكم وأصابتكم السنة استعنتم بناحية أرضنا فنأمر لكم بشيء من التمر والشعير ثم نردكم، وقد علمت أنه لم يحملكم على ما صنعتم إلا ما أصابكم من الجهد في بلادكم، فأنا آمرٌ لأميركم بكسوة وبغل وألف درهم، وآمر لكل واحد منكم بوقر من تمر وبثوبين وتنصرفون عنا، فإني لست أشتهي أن أقتلكم ولا آسركم. فتكلم المغيرة: فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الله سبحانه خالق كل شيء ورازقه، يرفع من يشاء ويضع من يشاء، فمن صنع شيئًا، فإن الله تبارك اسمه وتعالى هو يصنعه والذي صنعه، وأما الذي ذكرت به نفسك وأهل بلادك من الظهور على الأعداء والتمكين في البلاد وعظم السلطان في الدنيا فنحن نعرفه ولا ننكره، والُله صنعه لكم ووضعه فيكم وهو له دونكم، وأما ما ذكرت فينا من سوء الحال وضيق المعيشة واختلاف القلوب فنحن نعرفه، والله ابتلانا بذلك وصَيَّرنا إليه والدنيا دول ولم يزل أهل شدائدها يتوقعون الرخاء حتى يصيروا إليه، وأهل رخائها يتوقعون الشدة حتى تنزل بهم ويصيروا إليها، ولو كنتم فيما آتاكم الله دوننا أهل شكر لكان شكركم يقصر عما أوتيتم، ولأسلمكم ضعف الشكر إلى تغير الحال، ولو كنا فيما ابتلينا به أهل كفر كان عظيم ما تتابع علينا مستجلبًا من الله رحمة يرفه بها عنا؛ ولكن الشأن غير ما تذهبون إليه؛ إن الله تعالى بعث فينا رسولًا فكذبه مكذبون وصدقه منا آخرون، وأظهر الله دعوته وأعز دينه على كره ممن كذبه وحادَّه حتى دخلوا في الإسلام طوعًا وكرهًا، فأمرنا أن ندعو من خالفنا إلى ديننا، فمن أباه قاتلناه، وذكر نحو ما تقدم من الكلام في الأحاديث المتقدمة من دعائه إلى الإسلام، وقال له: فإن أبيت فكن لنا عبدًا تؤدي الجزية عن يد وأنت صاغر، وإلا السيف إن أبيت، فنخر رستم عند ذلك نخرة واستشاط غضبًا، ثم حلف بالشمس لا يرتفع لكم الضحى غدًا حتى أقتلكم أجمعين. فانصرف المغيرة وخلص رستم بأشراف فارس فقال: أين هؤلاء منكم ما بعد هذا؟ ألم يأتكم الأولان فجسراكم واستخرجاكم، ثم جاءكم هذا فلم يختلفوا وسلكوا طريقًا واحدًا ولزموا أمرًا واحدًا. وفي بعض الروايات أن مما قال المغيرة لرستم وقد توعد المسلمين بأنهم مقتولون قال: هو الذي نتمنى أن المقتول منا صائر في الجنة والهارب في النار وللباقي الصابر الظفر بحديث صادق ووعد لا خلف له، قال رستم: ارجع إلى أصحابك واستعدوا للحرب فليس بيننا وبينكم صلح ولنفقأنَّ عينك غدًا. فقال المغيرة: وأنت ستقتل غدًا إن شاء الله، وإن ما قلت لي ليسرني لولا أن أجاهدكم بعد اليوم لسرني أن تذهبوا جميعًا. ورجع المغيرة فتعجبوا من قوله. فقال رستم: ما أظن هذا الملك إلا قد انقضى، وأن أجمل بنا ألا يكون هؤلاء أصبر منا، ولقد وعدوا وعدًا ليموتن أو ليدركنه، ولقد حذروا وخُوِّفوا من الفرار خوفًا لا يأتونه، وقد رأيت ليلتي هذه كأن القوس التي في السماء خرت، وكأن الحيتان خرجن من البحر، وأن هؤلاء القوم سيظهرون عليكم.