الأستاذ بسّام فرحات
أسطورة اللّغة البربريّة
دعمًا منه للثنائيّة الأمّ المكرّسة للنّعرة الأمازيغيّة (عرب/بربر) سعى الاستعمار إلى تزويدها بأكسسواراتها ومبرّرات وجودها الثقافيّة منها والتّاريخيّة، فادّعى بوجود لغة بربريّة في مقابل اللغة العربيّة حتّى يتسنّى له تمييز البربر واستثناءهم بوصفهم كيانًا مكتملًا قائمًا بذاته، مختلفًا عن كيان العرب المسلمين متباينًا معه منفصلًا عنه وضحيّة له… ونحن وإن كنّا لا ننكر تاريخيًّا وجود لسان بربريّ؛ ولكنّنا نفنِّد ارتقاء ما بقي منه اليوم إلى مستوى الأداة اللغويّة التعبيريّة المكتملة: فهو، معجمًا وتعبيرًا وقواعد وأساليب، مجرّد لهجة بدائيّة محتضرة غير مكتملة في طريقها إلى الاندثار والذّوبان في لغة الضّاد. وهذه اللّهجة قاصرة بمفردها عن الإحاطة بسائر مناحي الحياة الحديثة، مقتصرة بالكاد على التعبير عن المستوى الصّفر للتواصل البشريّ المتمثّل في بعض النّشاطات البسيطة للمجتمع القبليّ الريفيّ، بل حتّى هذه الوظيفة لا يمكن لها أن تضطلع بها بمعزل عن العربيّة التّي اكتسحت معجمها بنسبة مئويّة كبيرة… كما أنّ مجالها داخليّ محلّي بيني ضيّق لا يتجاوز القرية والأقارب، فهي لهجة ثانويّة موازية للعربيّة، لا نعدم من بين النّاطقين بها من لا يفهم لغة الضّاد ويتكلّمها بطلاقة؛ لأنّه بكلّ بساطة لا يمكن العيش والتّواصل والتّعامل والتعبّد في المنطقة المغاربيّة بدون اللّغة العربيّة أداة التّفاهم وعنوان الهويّة ولسان الإسلام…
هذه الحقيقة المحبطة للمشروع التقسيميّ التصفويّ المتفرنس دفعت بالاستعمار إلى النّفخ في صورة اللّهجة البربريّة كخطوة تكتيكيّة أولى لعزل العربيّة بما يُفسح له المجال لإحلال الفرنسيّة محلّ الاثنتين..أمّا الجانب الأسطوريّ في هاته المغالطة فيكمن تحديدًا في الادّعاء بوحدة اللّهجة البربريّة وأصالتها: متنًا ورسمًا/لفظًا وكتابةً… فبعد الارتقاء باللّهجة البربريّة إلى مصافّ اللّغات الحيّة سعت المدرسة التّاريخيّة الفرنسيّة إلى تدعيم هذا المعطى/المغالطة بفريتين أخريين من بنات أفكارها الاستعماريّة المريضة، أمّا الأولى فتتمثّل في اعتبار اللّهجة البربريّة لغة متجانسة ولسانًا واحدًا موحِّدًا لجميع البربر، وهذا ادّعاء كاذب يفنّده الواقع اللّغويّ في شمال أفريقيا بالمشاهد الملموس؛ إذ يمكن لنا أن نميّز ميدانيًّا بيسر وسهولة بين ثلاث مجموعات لهجيّة بربريّة متباينة: معجمًا ونطقًا ودلالة وأساليب. مجموعة الزّناتيّة (قبائل زناتة ولمتونة والطّوارق بالصّحراء الكبرى) مجموعة صنهاجة (قبائل صنهاجة وزواوة والشّاوية بالأطلس الجزائريّ والأوريس) ومجموعة مصمودة (قبائل مصمودة وغمارة وهوّارة بالأطلس والرّيف المغربيّين)… وإلى جانب الاختلافات الجوهريّة القائمة بين هذه المجموعات الرئيسيّة يميّز الأخصّائيّون بين عدّة لهيجات داخليّة صغرى صلب كلّ مجموعة حصرها المؤرّخ (روني باسي)، وهو من أقطاب المدرسة الاستعماريّة، في 1200 لهيجة، واعترف في كتابه (البربر) بأنّ المعنيّين بكلّ لهيجة محليّة (لا يقدرون على التواصل فيما بينهم نظرًا للتّباعد الحاصل بين هذه اللّهيجات)… فعن أيّة لغة بربريّة نتحدّث في هذا الخضمّ اللّامتجانس…؟؟ ففي المغرب الأقصى هناك ثلاث لهجات رسميّة تذاع بها نشرات الأخبار. وفي ليبيا أيضًا توجد ثلاث لهجات متباينة (نفوسة ـ التبوّ ـ الطّوارق) أمّا في الجزائر فلا علاقة بين لهجة القبائل المعتمدة بشكل رسميّ ولهجة الشّاوية في الأوريس الذين يطالبون بنصيبهم من المحطّات الإذاعيّة والتلفزيّة. وكذلك في منطقة أزواد شمال مالي؛ إذ نجد لهجة أخرى مغايرة تمامًا لباقي اللّهجات واللّهيجات المذكورة آنفًا… وممّا يدعّم هذا المعطى أكثر أنّ أصحاب كلّ لهجة رئيسيّة ينتمون في ملامحهم إلى مجموعة عرقيّة مختلفة عن الآخرين… أمّا الفرية الثّانية المدعّمة لمغالطة (اللغة البربريّة) فتتمثّل في اعتبار تلك اللهجة (لغة أصيلة المنطقة ومن وضع البربر أنفسهم). وفي الواقع فإنّ المدرسة التاريخيّة الاستعماريّة اضطرّت لهذا الادّعاء مرغمة مكرهة حتّى تقطع مع أيّ وشائج للقربى بين البربريّة وعائلة اللغات السّاميّة المشرقيّة… فقد سعت في البداية كالمعتاد إلى ربط اللهجة البربريّة باللغات الهندو-أوروبيّة لإلحاق المنطقة المغاربيّة بفرنسا وشرعنة استعمارها؛ إلاّ أنّه وبعد إخضاع اللهجة البربريّة لعلم اللغات المقارن تبيّن أنّها على علاقة متينة بشقيقاتها السّاميّات؛ ممّا حدا بعالم البربريّات الألمانيّ الشّهير (روسليّ) إلى التأكيد على أنّ (البربريّة ساميّة في واقع أمرها، ولا يمكن ولا يجوز فصلها عن السّاميّات) وقد أيّده في ذلك مواطنه (هنز شتمّا) واللغويّ الإنجليزيّ (وليام نيومن)… هذه النّتائج المثبّطة للعزائم المخيّبة للآمال الاستعماريّة والتي ترسّخ البربر، عرقًا وثقافة، في سياقهم العربيّ الإسلاميّ ما كان لها أن تلبّي المطامع الاستعماريّة التغريبيّة؛ لذلك حاولت المدرسة التّاريخيّة الفرنسيّة الالتفاف عليها فاستنبطت نظريّة الأصل المستقلّ للبربريّة التي خرج بها اليهوديّ (مارسال كوهين) لتمييز البربريّة عن السّاميّة وبالتّالي فصلها عن العربيّة، فقد ادّعى، في شطحة مضحكة تلوي عنق الحقائق العلميّة، بوجود لغة بربريّة أولى تفرّعت منذ زمن ساحق عن الأصل الذي تفرّعت عنه السّاميّة بما يبرّر التّشابه بينهما (؟؟)، وهي فرية تأويليّة تلفيقيّة ظاهرة البطلان لا دليل علميّا عليها، وتخدم الأغراض الانفصاليّة الانقساميّة التغريبيّة… إنّ المشابهات المنعقدة بين البربريّة وعائلة اللغات السّاميّة عديدة ومتنوّعة بتنوّع اللغات المشرقيّة، وهو ما يؤكّد أنّ التنوّع اللغويّ في البربريّة هو في الحقيقة جزء من ذلك التنوّع اللغويّ الشرقيّ الذي انتقل إلى بلاد المغرب مع الهجرات البشريّة عبر مراحل مختلفة من التّاريخ.
أسطورة الكتابة البربريّة
هذا المنحى التأويليّ التلفيقيّ، واصلت المدرسة التاريخيّة الاستعماريّة اعتماده في تعاملها مع ما اعتبرته (كتابة بربريّة)؛ إذ بعثتها من أجداث التّاريخ ونفخت في صورتها وادّعت لها هي الأخرى الوحدة والتجانس والأصالة؛ إذكاءً للهويّة الأمازيغيّة وعزلًا للبربر عن محيطهم الطبيعيّ العربيّ الإسلاميّ… لقد اتّجهت نيّة فرنسا ابتداء إلى القضاء على اللغة العربيّة واستبدالها مرحليًّا بالبربريّة قبل إحلال الفرنسيّة محلّهما معًا. وبما أنّ البربريّة لهجة شفويّة غير مكتوبة، فقد صاغتها في البداية بحروف لاتينيّة ودرّستها رسميًّا بذلك الشّكل في أكاديميّة البربر بباريس منذ سنة 1913م، ثمّ فيما بعد نبشت شواهد التّاريخ في محاولة لاستنباط أبجديّة بربريّة، والملاحظ من نتائج هذه البحوث والحفريّات:
أوّلًا: إنّ ما عدّته المدرسة التّاريخيّة الفرنسيّة (كتابة بربريّة) هو في الواقع كتابتان منفصلتان متباينتان: (اللّوبيّة) في الشّمال و(التيفناق) لدى طوارق الصحراء في الجنوب، وقد صاغت منهما تلك المدرسة، بتصرّف، أبجديّة نسبتها إلى البربر.
ثانيًا: إنّ حروف هاتين الكتابتين منقوصة غير مكتملة، فخطّ التيفناق مثلًا مقتصر على بضعة عشر حرفًا اكتُشِفت في مغاور التّاسيلي جنوب الصّحراء الجزائريّة من طرف ضابط في الجيش الفرنسيّ وظلّت بقيّة الحروف مجهولة ممّا لا يُمكِّن هذا الخطّ من كتابة اللهجة البربريّة ولا يُبوِّئه مرتبة الأبجديّة.
ثالثًا: أنّهما تصنّفان ضمن الأبجديّات الأحفوريّة التاريخيّة غير المتواصلة مع البربر الحاليّين، فقد وقع التخلّي عنهما في وقت مبكّر منذ القرن الثّاني للميلاد ممّا يجعل من البربر اليوم، سوادهم ومثقّفيهم، يجهلونهما ولا يفهمونهما ولا يقدرون على فكّ رموزهما.
رابعًا: إنّهما كانتا في عصرهما هامشيّتين مفتقرتين لما يجعل منهما أداة أساسيّة للتّدوين والتّعبير الحضاريّ؛ إذ نجد عزوفًا واضحًا لدى البربر القدامى في التّعامل بهما، ولا نكاد نجد نصًّا طويلًا واحدًا مخطوطًا بهما، بل انحصر استعمالهما في الأضرحة وشواهد القبور…
خلاصة الأمر أنّ الأمازيغيّة التي يروّج لها أصحاب النّزعة الانفصاليّة من متفرنسيّ الحركي ليست إلا اللّهجة القبائليّة التي صاغتها المدرسة التاريخيّة الاستعماريّة واشتقّت لها رموزًا من أبجديّة التّيفناق الطوارقيّة بعد أن أضافت إليها بضعة أحرف من بنات أفكار منظّريها (نعم) وجعلتها،ـ بقدرة قدير، 26 حرفًا على غرار الأبجديّة الفرنسيّة مع الحرص على كتابتها من اليسار إلى اليمين لتصبح صورة مشوّهة متولّدة عن اللاّتينيّة، ثمّ عمّمتها على سائر اللّهجات البربريّة رغم أنّ معظمها لم تُكتب بها يومًا… وجريًا على عادتها من إضفاء الطّابع العلميّ على افتراءاتها، سعت تلك المدرسة إلى ربط ما اعتبرته (كتابة بربريّة) بما عُرِف من كتابات أوروبيّة قديمة، فأجرت مقارنات بين خطّ التيفناق والخطّ اليونانيّ والإسبانيّ والرّوسيّ والإيتروسكيّ..وكانت النّتائج مخيّبة للآمال الاستعماريّة مكذّبة لادّعاءاتها؛ إذ لم يوجد أيّ شبه بينها بما ينفي مزاعم الأوربة والفرنسة والإلحاق… وفي الواقع فإنّ التّسمية نفسها تقرّ بذلك صراحة، فلفظة (تيفناق) تعني بالبربريّة (تفينيقيّ) أي (فينيقيّة) على عادة هذه اللّهجة من تقديم تاء التّأنيث على الاسم المؤنّث… أمّا إذا ما توغّلنا في الطّابع العامّ الموحّد بين الخطوط المشرقيّة السّاميّة من حيث السّمات والمنحى والرّسم والأشكال الهندسيّة فإنّنا نجزم بأنّ الكتابة البربريّة ما هي إلا نموذج حيّ من نماذج الكتابات السّاميّة المشرقيّة على غرار الخطّ الفينيقيّ والآراميّ والعبريّ والثّموديّ والصّفويّ والمصريّ والسّريانيّ والحيريّ والكوشيّ والنّبطيّ والكلدانيّ واللّحيانيّ والحبشيّ..فالتشابه بينها صارخ وناطق بعمق الرّوابط الثّقافيّة والحضاريّة التي تجمع بينها بما يدلّل على أنّها تنسل جميعها من أرومة حضاريّة واحدة هي الأرومة السّاميّة المشرقيّة العربيّة رغم أنف متفرنسيّ الحركيّ وغلاة الاستعمار.
أسطورة الصّراع التاريخيّ
ثالث الأرحام التي اعتملت فيها النّعرة الأمازيغيّة البربريّة، بعد العرق والثّقافة، تاريخيّة بالأساس، وظيفتها إضفاء مصداقيّة عمليّة ميدانيّة تسند المصداقيّة العلميّة المفترضة التي ادّعتها المدرسة الاستعماريّة لأبحاثها المغرضة وخلعتها على سائر افتراءاتها… فممّا لا شكّ فيه أنّ وضع اليد على الجغرافيا بادّعاء المغايرة والعداء والأحقيّة والتميّز عن العرب والمسلمين، عرقًا ولغة وثقافة ومعتقدات، لا يكتمل ولا يكتسب مشروعيّة ترقى به إلى مستوى الحقائق إلا بالحجر على التّاريخ وإجبار أحداثه على المصادقة عليه عبر التعسّف على الحوادث التاريخيّة وليّ أعناقها واستنطاقها عنوة بالعداء الدمويّ بين الجنسين بما يبرّر فصل المغرب العربيّ عن المشرق الإسلاميّ ودمجه بالكيان الفرنسيّ… فالأبحاث التاريخيّة والأركيولوجيّة والأنثروبولوجيّة واللّسانيّة أثبتت كلّها بما لا يدع مجالًا للشكّ تهافت الأطروحات الاستعماريّة وترسيخ البربر، عرقًا وحضارةً وثقافةً، في محيطهم السّامي المشرقيّ العربيّ القديم ما حدا بأحد أقطاب منظّري المدرسة التاريخيّة الاستعماريّة (روني باسي) إلى الاعتراف في كتابه (البربر) ص 151 (لا أعتقد في إمكانيّة إحياء حضارة بربريّة، هذه الحضارة التي لم تهتمّ بها النّخبة البربريّة نفسها مطلقًا، فمنذ القرن 19م سُجّلت استفاقات للعديد من الشّعوب؛ لكنّ شيئًا من هذا لم يحصل عند البربر الذين يخجلون أحيانًا من هذا الانتماء)… هذه الصّفعة المسفّهة لأحلام المضلّلين من ذوي النّزعة الانفصاليّة الأمازيغيّة لم تثنِ مؤرّخيّ الاستعمار عن تجاوز ما نطقت به شواهد التّاريخ صراحة نحو تأويل الأحداث التاريخيّة وتحميلها أضغانهم الاستعماريّة الصليبيّة… على هذا الأساس سعت المدرسة التاريخيّة الاستعماريّة إلى البرهنة على الصّراع العربيّ/البربريّ المفترض وإثبات صفة الدّيمومة والتّواصل والاسترسال له وإسباغ الطّابع القوميّ الدينيّ المعادي للعروبة والإسلام عليه… فتسلّطت على تاريخ المنطقة، ونقضته وشوّهته وحرّفت حقائقه، وطمست إيجابيّاته وضخّمت سلبيّاته ووضعتها تحت مجهر حقدها الصليبيّ، وفسّرت مناكفاته البسيطة بأنّها (ثورات وصراعات دمويّة تعبّر عن ذاتيّة البربر ونزوعهم القومي ورفضهم للإسلام)… ثمّ أخذت في نسج ملامح ما أسمته (المقاومة البربريّة والثّورات البربريّة ضدّ الاحتلال العربيّ الإسلاميّ) فأسقطت هذه الدّعاوى الثوريّة الفجّة والأوهام الاستعماريّة المريضة على انتفاضة (كسيلة) ـ وهي مجرّد ردّ فعل على إهانة عقبة بن نافع له وعلى انتفاضة (الكاهنة) وهي تمظهر طبيعيّ لغريزة البقاء بالدّفاع عن النّفس، وكلتاهما لا تعكسان عداء قوميًّا عقائديًّا البتّة..أمّا أهمّ حدث استندت إليه تلك المدرسة الاستعماريّة لإثبات ادّعاءاتها وافتراءاتها فهي الانتفاضة الخوارجيّة التي اندلعت ببلاد المغرب في عهد ولاة بني أميّة، فقد عدّتها (ثورة تجسّد النّزوع القومي العقائديّ لدى البربر ورغبتهم في الاستقلال والتحرّر الوطنيّ من ربقة العرب المسلمين) وبنت عليها مشروعها الانفصالي الإلحاقي الإدماجي المستهدف للبربر ثقافةً وعقيدةً وهويّةً وانتماءً…
ثورة أم انتفاضة…؟؟
ولئن ركبت المدرسة الاستعماريّة شواهد التّاريخ لتأكيد مغالطاتها، فإنّها تعاملت مع تلك الشّواهد بانتقائيّة وبخلفيّة مغرضة، فقد انطلقت من الانتفاضة الخوارجيّة التي شهدتها أفريقيّة إبّان القرن الثامن ميلادي وزيّفت حقائقها وشوّهتها وضخّمتها وجعلت منها ثورة على الدّين الإسلاميّ والجنس العربيّ، ثمّ عمّمت ذلك على السّيرورة التاريخيّة لعلاقة البربر بالدّولة الإسلاميّة المركزيّة… ونحن وإن كنّا لا ننكر تلك الحوادث التاريخيّة الثّابتة التي تلبّس فيها البربر الخوارج بشقّ عصا الطّاعة على الدّولة الأمويّة؛ ولكنّنا ننكر قراءة المدرسة الاستعماريّة المغرضة لها والحجم الذي أعطته لها بحيث أضفت عليها بعدًا قوميًّا دينيًّا ذا روح تمرّدية انفصاليّة معادية للعروبة والإسلام… وبالرّجوع إلى تلك الوقائع نلمس دون عناء أنّ ما أسمته فرنسا (ثورة) ما هو في الواقع إلا مجرّد انتفاضة ضدّ مظالم ولاة بني أميّة وعمّالهم. فالبربر لم يكونوا راغبين في العصيان ولا مبادرين به، وكانوا قابلين بالسّلطة المركزيّة خاضعين لها، وقد وصفهم الطبريّ في تاريخه بقوله: «فمازالوا من أسمع أهل البلدان وأطوعهم، ومن أحسن الأمم إسلامًا وطاعة»… وكان هذا دأبهم مع الولاة الصّالحين التّقاة الذين نهجوا سياسة الرّفق واللّين لاستمالة البربر إلى الإسلام على غرار (أبي المهاجر دينار وحسّان ابن النّعمان وإسماعيل ابن عبيد الله…) ثمّ مع الخليفة الرّاشد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه..أمّا فيما عدا ذلك، فلم يرَ البربر من ولاة بني أميّة إلاّ الشدّة والعنت حيث ساموهم ألوان المذلّة والمهانة، فاضطهدوهم ونهبوا أموالهم واستعبدوهم ونكّلوا بهم واعتبروهم فيئًا وقدّموهم في القتال وحرموهم من الغنائم، ووصلت بهم الجرأة أن ضربوا عليهم الجزية وسبَوا نساءهم وهم مسلمون… ورغم كلّ ذلك فضّل البربر التريّث وعدم الانسياق وراء دعاة الثّورة وخيّروا إرسال وفد إلى دمشق لمقابلة الخليفة والتشكّي من عسف الولاة والعمّال؛ لكن وقعت مماطلتهم ومنعوا من مقابلة الخليفة، عندئذ تأكّد لديهم أنّ الظلم من أعلى هرم السّلطة فقرّروا شقّ عصا الطّاعة على (أيمّة الجور)..وحتّى عند خروجهم على الحكم المركزي فإنّ انتفاضتهم تلك كانت ظرفيّة مناسباتيّة محدودة في الزّمان والمكان، وسرعان ما انطفأت بانتفاء مسبّباتها وملابساتها، ناهيك وأنّهم بعد أن هاجموا القيروان وقتلوا واليها الأمويّ (الظّلوم الغشوم) لم يعلنوا انفصالهم واستقلالهم عن السّلطة المركزيّة، بل نصّبوا مكانه الوالي الأمويّ الأسبق المعروف بحسن سيرته وبعثوا برسالة إلى الخليفة (يزيد بن عبد الملك) يبرّرون له فيها فعلهم ويجدّدون فيها ولاءهم وطاعتهم للسّلطة المركزيّة… فلم تكن ثورة انفصاليّة عن الحكم المركزي بقدر ما كانت انتفاضة على ظلم الولاة والعمّال وعسفهم…
أسطورة الردّة والشّعوبيّة
لم تكتفِ المدرسة التاريخية الاستعمارية بتضخيم حجم الانتفاضة البربرية وتحويلها إلى أصل وقاعدة في علاقة البربر بالدولة الإسلامية، بل أسبغت عليها روحًا عقائدية واعتبرتها (ردّة بربرية عن الإسلام). وبالرّجوع إلى تلك الحوادث نلمس دون عناء أنّها لا تعكس البتّة رغبة في الخروج عن الإسلام والتحلّل من شرائعه وأحكامه، بل على العكس تمامًا، فهي انتفاضة باسم الإسلام ومن داخل العقيدة الإسلامية نفسها… فقد ارتمى البربر في أحضان المذهب الخارجي للتعبير عن رفضهم للظلم لما يتميّز به أتباع هذا المذهب من الصدع بالحق ومناكفة الحكّام الظلمة، كما أنّه مذهب يقوم على درجة عالية من النقاوة والمثاليّة المفرطة التي تلامس حدود التنطّع والغلوّ في الدّين حتى عدّوا مرتكب الصّغيرة كافرًا… وكانوا أبعد الناس عن الموبقات والمعاصي والمحارم، وصفهم معاصروهم فقالوا (خلطوا قيام ليلهم بصيام نهارهم، منحنية أصلابهم على أجزاء القرآن…) ولمّا قدم عليهم عبد الله بن العبّاس رضي الله عنه لمناقشتهم (رأى منهم جباهًا قرحة لطول السّجود)… فالأفكار التي أسَّست انتفاضة البربر هي أفكار إسلاميّة بحتة، فقد تولّى الفكر الخارجي الصّفري والإباضي الصّياغة النّظرية لانتفاضتهم وردّة فعلهم المشروعة على (أيمّة الجور)..وممّا يؤكّد ذلك أنّهم تبنّوا المذهب الخارجي ولم يكونوا في معاركهم يُفصحون عن بربريّتهم أو مجوسيّتهم بل كانوا يتشبّهون بخوارج المشرق ويتأسّون بهم، فكانوا يحلقون رؤوسهم اقتداءً بالأزارقة وأهل النهروان، كما كانوا يرفعون الشعارات الخوارجيّة، وكانوا أيضًا على صلة بإخوانهم الإباضيّة بالمشرق يستشيرونهم ويحتكمون إليهم ويستفتونهم في مسائل فقهية وسياسية ويدينون لهم بالولاء… فانتفاضتهم كانت مذهبيّة على أساس أفكار إسلاميّة غيرةً على الدّين ورغبةً في إحسان تطبيقه؛ لذلك فإنّها لم تفصلهم عن الإسلام بقدر ما زادت في تعميق الارتباط العقائديّ والثقافيّ بينهم وبين العرب المسلمين… هذا التلبّس بالإسلام من طرف البربر أثار اندهاش الأوروبيين، وقد علّق الدكتور (جورج مارسي) بقوله (ففي أقل من قرن واحد اعتنق البربر الإسلام في حماسة تجعلهم راغبين في اغتنام الشهادة… وبينما كانت معظم البلاد المفتوحة تحتفظ بطوائف مسيحيّة إلا أنّ وطن سان أوغسطينوس عمّ الإسلام أهله تمامًا)..وينسل من فرية الردّة فرية أخرى أظهر تهافتًا منها، فقد رأت المدرسة التاريخيّة الاستعماريّة في الانتفاضة الخوارجيّة منزعًا قوميًّا عنصريًّا شعوبيًّا من البربر تجاه العرب… وفي الحقيقة فإنّ تلك الانتفاضة كانت خالية من المشاعر القومية البربرية ولم تكن البتّة لأسباب عرقيّة بين جنسين متعاديين، بل كانت كما أسلفنا مجرّد ردّة فعل على ما سُلّط عليهم من مظالم من طرف ولاة وعمّال بني أميّة… فلم تظهر في البربر عبر تاريخهم الإسلاميّ تلك النزعة الشعوبيّة القائمة على معاداة العرب وكراهيّتهم كالتي ظهرت عند الفرس المجوس، فهؤلاء جاهروا بالطّعن في العنصر العربيّ والتباهي بالعنصر الفارسيّ، وألّفوا الكتب في مثالب العرب وكلّ ما يحقّر من شأنهم (لصوص العرب ـ بغايا قريش ـ مثالب ربيعة ـ مثالب قريش…) كما استنقصوا من مزايا العرب وطعنوا فيها (الجود والكرم ـ البلاغة ـ الخطابة ـ الشعر ـ الفروسيّة)… وكان للعرب عطف خاص على البربر وشعور مميّز تجاههم لما يجمع بين الجنسين من نقاط تشابه في الطباع والعادات ونمط الحياة البدويّ القبليّ الترحاليّ الرّعويّ، وصفهم موسى بن نصير بقوله: «هم يا أمير المؤمنين أشبه العجم بالعرب لقاءً ونجدةً وفروسيّة وشهامةً وسماحة…» ولم يكن العرب يحتقرونهم أو يستنكفون عن مصاهرتهم، حتى إن صقر قريش عبد الرحمن الداخل مجدّد الدولة الأموية بالأندلس أمّه جارية بربريّة (سلاّمة) من قبيلة نفزة… بل إن فصائل عربيّة عديدة قد تبربرت بحكم المصاهرة والاختلاط (بلاد الجريد ـ وادي سوف ـ وادي مزاب) ممّا أثار استغراب واندهاش الأوروبيّين أنفسهم… وقد بادل البربرُ العربَ نفس هذا الشعور، فمشاهيرهم وكبار قادتهم عوض الافتخار بعنصرهم البربريّ كانوا يبحثون لأنفسهم عن أنساب عربيّة وكانوا يعلنون، إن حقًّا أو باطلاً، انتماءهم إلى العرب وانتسابهم إلى آل البيت ويعدّون ذلك مفخرة لهم… كما أن الدّويلات البربريّة التي نشأت في بلاد المغرب (بنو عبد الواد ـ بنو زيّان ـ بنو مرين ـ بنو حمّاد ـ المرابطون ـ الموحّدون ـ بنو حفص..) لم تقم أيّة واحدة منها على العصبيّة البربريّة ولم تصدر عنها في مشروعها السياسيّ… وممّا يلفت الانتباه ويثير الاستغراب والدّهشة أنّ البربر سواء في دويلاتهم التي أسّسوها أم الفرق الخارجية والشيعية التي انتسبوا إليها قد التفّوا حول العناصر العربيّة وقدّموها على العناصر البربرية ووضعوها في قمّة المسؤوليّة ودانوا لها ولذرّيتها من بعدها بالولاء، وهذا لم يحصل مع أي دخيل آخر على المنطقة… بل إنّ من القبائل البربريّة من انحازت أثناء الانتفاضة الكبرى إلى العرب وإلى السلطة المركزية وقاتلت بني جلدتها على غرار (مليلة ـ هوارة ـ نفوسة)..فعن أيّة ثورة قوميّة عقائديّة على العرب والإسلام نتحدّث…؟؟
أمريكا على الخطّ
لقدحقّق الإسلام على أيدي العرب الفاتحين ما فشلت في تحقيقه جميع الحضارات التي تداولت على المنطقة المغاربيّة وحدة شمال أفريقيا العقائديّة والثقافيّة واللغويّة… وما كان لهذه الوحدة والانسجام والتناغم والتلاحم أن يرضي غرور فرنسا وغطرستها ويلبّي مطامعها الاستعماريّة؛ لذلك ما إن وطئت جيوشها المنطقة حتّى طفقت تراهن على عناصر التجزئة وتبحث عن معاول الهدم والتفتيت والتفرقة والفتنة الكامنة فيها… فنبشت عن الجذور البربريّة المطمورة ونفخت في جذوة نعرتها الخبيثة وزوّدتها بأكسسوارات الهويّة الأمازيغيّة (لغة ـ كتابة ـ تقويم ـ لباس ـ موسيقى ـ راية..) من بنات أفكارها العفنة، وقد أثمرت جهودها هذا التوجّه الفرنكفونيّ الأمازيغيّ المعادي للانتماء العربي الإسلاميّ الذي بلغ ذروته في المجموعة القبائليّة المتفرنسة ذات المنزع الصّليبي الحاقد الموظّف حاليّا لهزّ استقرار المنطقة… ناهيك وأنّ رئيس (التجمّع العالميّ الأمازيغيّ) طالب سنة 2019م خلال (المؤتمر التّاسع لأمازيغ العالم) المنعقد بباريس بمنح الحكم الذّاتي لما أسماه المناطق الأمازيغيّة في شمال أفريقيا (القبائل الجزائريّة والرّيف والسّوس المغربيّين وأزواد شمال مالي) كما دعا إلى إلغاء الحدود وتأسيس كونفدراليّة تضمّ دول المنطقة فيما يبدو أنّه مخطّط يرمي إلى توحيد المجال الجغرافي (للحضارة الأمازيغيّة) في كيان سياسيّ… ولئن كان هذا المشروع الفرنسيّ غريزيًّا طوباويًّا عصيًّا على المنطقة ينضح بالأضغان الصليبيّة الحاقدة العمياء ممّا يجعله مستحيل التحقّق، فإنّ النّعرة الأمازيغيّة البربريّة يوشك أن يتلقّفها هذه الأيّام مشروع آخر أخطر وأكثر واقعيّة قادم على مهل من موطئ قدمه الحاليّ (ليبيا) ألا وهو مشروع (الشّرق الأوسط الجديد) فهذا المشروع الأمريكيّ قائم على بعث النّعرات الطّائفيّة والعرقيّة والمذهبيّة لتفتيت الأمّة وصياغة المنطقة من جديد بتقسيمها إلى دويلات كرتونيّة متناحرة، ولأمريكا سوابق ناجحة في هذا المضمار… وممّا يجعله في دائرة الممكن السياسيّ بامتياز أنّ التّركيبة العرقيّة والإثنيّة للمنطقة المغاربيّة تحتمله (عرب/بربر ـ مالكيّة/إباضيّة ـ بيض/زنوج ـ مسلمون/نصارى ـ بهائيّة ـ أحمديّة ـ صوفيّة كركريّة ـ طوارق..) كما أنّه في نسخته المغاربيّة يندرج ضمن صراع دوليّ أمريكيّ أوروبّي على شمال أفريقيا من المنتظر أن يُزكيه ويزوّده بأسباب التحقّق والحياة… هذا المشروع الخطير الذي يوشك أن يزجّ بالمنطقة المغاربيّة في أتّون التقاتل والاحتراب لا يمكن أن يواجهه ويحبطه إلاّ مشروع الخلافة العظيم القادر وحده على صهر العرقيّات والإثنيّات في بوتقة الإسلام ضمن دولة إسلاميّة خلافة راشدة على منهاج النبوّة، فهل نحن فاعلون..؟؟