مع القرآن الكريم
2021/10/01م
المقالات
1,769 زيارة
( إِذَا جَآءَ نَصۡرُ ٱللَّهِ وَٱلۡفَتۡحُ ١ وَرَأَيۡتَ ٱلنَّاسَ يَدۡخُلُونَ فِي دِينِ ٱللَّهِ أَفۡوَاجٗا ٢ فَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ وَٱسۡتَغۡفِرۡهُۚ إِنَّهُۥ كَانَ تَوَّابَۢا ٣)
سورة النصر مدنية، وآياتها ثلاث. هذه السورة الصغيرة، كما تحمل البشرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم بنصر الله والفتح ودخول الناس في دين الله أفواجًا، وكما توجهه صلى الله عليه وسلم حين يتحقق نصر الله وفتحه واجتماع الناس على دينه إلى التوجُّه إلى ربه بالتسبيح والحمد والاستغفار، وكما تحمل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم البشرى والتوجيه… فإنها تكشف في الوقت ذاته عن طبيعة هذه العقيدة وحقيقة هذا المنهج، ومدى ما يريد أن يبلغ بالبشرية من الرفعة والكرامة والتجرُّد والخلوص والانطلاق والتحرر… هذه القمة السامقة الوضيئة، التي لم تبلغها البشرية قط إلا في ظل الإسلام، ولا يمكن أن تبلغها إلا وهي تلبي هذا الهدف العلويَّ الكريم.
وقد وردت روايات عدة عن نزول هذه السورة نختار منها رواية الإمام أحمد: حدثنا محمد بن أبي عدي، عن داود، عن الشعبي، عن مسروق، قال: قالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر في آخر أمره من قوله: “سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه” قال: “إن ربي كان أخبرني أني سأرى علامة في أمتي، وأمرني إذا رأيتها أن أسبح بحمده وأستغفره إنه كان توابًا” فقد رأيتها… (إِذَا جَآءَ نَصۡرُ ٱللَّهِ وَٱلۡفَتۡحُ ١ وَرَأَيۡتَ ٱلنَّاسَ يَدۡخُلُونَ فِي دِينِ ٱللَّهِ أَفۡوَاجٗا ٢ فَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ وَٱسۡتَغۡفِرۡهُۚ إِنَّهُۥ كَانَ تَوَّابَۢا ٣) رواه مسلم.
وقال ابن كثير في التفسير: والمراد بالفتح ها هنا فتح مكة. قولًا واحدًا. فإنَّ أحياء العرب كانت تتلوَّم (أي تنتظر) بإسلامها فتح مكة يقولون: إن ظهر على قومه فهو نبيٌّ، فلما فتح الله عليه مكة دخلوا في دين الله أفواجًا، فلم تمضِ سنتان حتى استوسقت جزيرة العرب إيمانًا، ولم يبقَ في سائر قبائل العرب إلا مُظهرٌ للإسلام، ولله الحمد والمنة. وقد روى البخاري في صحيحه عن عمرو بن سلمة قال: لما كان الفتح بادر كل قوم بإسلامهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت الأحياء تتلوَّم بإسلامها فتح مكة يقولون: دعوه وقومه، فإن ظهر عليهم فهو نبيّ… (الحديث) فهذه الرواية هي التي تتفق مع ظاهر النص في السورة: (إِذَا جَآءَ نَصۡرُ ٱللَّهِ وَٱلۡفَتۡحُ… ) فهي إشارة عند نزول السورة إلى أمر سيجيء بعد ذلك، مع توجيه النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما يعمله عند تحقق هذه البشارة وظهور هذه العلامة. وهناك رواية أخرى عن ابن عباس؛ لا يصعب التوفيق بينها وبين هذه الرواية التي اخترناها..
قال البخاري: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر، فكأنَّ بعضهم وجد في نفسه، فقال: لمَ يدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال عمر: إنه ممن علمتم. فدعاهم ذات يوم فأدخلني معهم، فما رأيت أنه دعاني فيهم يومئذ إلا ليريهم فقال: ما تقولون في قول الله عز وجل: (إِذَا جَآءَ نَصۡرُ ٱللَّهِ وَٱلۡفَتۡحُ)؟ فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا. وسكت بعضهم فلم يقل شيئا،ً فقال لي: أكذلك تقول يا ابن عباس؟ فقلت لا. فقال: ما تقول؟ فقلت: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه له. قال: (إِذَا جَآءَ نَصۡرُ ٱللَّهِ وَٱلۡفَتۡحُ ) فذلك علامة أجلك (فَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ وَٱسۡتَغۡفِرۡهُۚ إِنَّهُۥ كَانَ تَوَّابَۢا ٣). فقال عمر بن الخطاب: لا أعلم منها إلا ما تقول (تفرد به البخاري). فلا يمتنع أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم حين رأى علامة ربه أدرك أن واجبه في الأرض قد كمل، وأنه سيلقى ربه قريبًا. فكان هذا معنى قول ابن عباس: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه له… وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة عام الفتح فناجاها، فبكت، ثم ناجاها فضحكت. قالت: فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم سألتُها عن بكائها وضحكها. قالت: أخبرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يموت فبكيت، ثم أخبرني أني سيدة نساء أهل الجنة إلا مريم بنت عمران فضحكت… أخرجه الترمذي.
فهذه الرواية تتفق مع ظاهر النص القرآني، ومع الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأخرجه مسلم في صحيحه. من أنه كانت هناك علامة بين الرسول صلى الله عليه وسلم وربه هي:(إِذَا جَآءَ نَصۡرُ ٱللَّهِ وَٱلۡفَتۡحُ ) فلما كان الفتح عرف أن قد قرب لقاؤه لربه، فناجى فاطمة رضي الله عنها بما روته عنها أم سلمة رضي الله عنها. ونخلص من هذا كله إلى المدلول الثابت والتوجيه الدائم الذي جاءت به هذه السورة الصغيرة…
فإلى أي مرتقى يشير هذا النص القصير: ( إِذَا جَآءَ نَصۡرُ ٱللَّهِ وَٱلۡفَتۡحُ ١ وَرَأَيۡتَ ٱلنَّاسَ يَدۡخُلُونَ فِي دِينِ ٱللَّهِ أَفۡوَاجٗا٢ فَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ وَٱسۡتَغۡفِرۡهُۚ إِنَّهُۥ كَانَ تَوَّابَۢا ٣ ) في مطلع الآية الأولى من السورة إيحاء معين لإنشاء تصور خاص، عن حقيقة ما يجري في هذا الكون من أحداث، وما يقع في هذه الحياة من حوادث. وعن دور الرسول صلى الله عليه وسلم ودور المؤمنين في هذه الدعوة. وحدّهم الذي ينتهون إليه في هذا الأمر… هذا الإيحاء يتمثَّل في قوله تعالى: (إِذَا جَآءَ نَصۡرُ ٱللَّهِ…) فهو نصر الله يجيء به الله، في الوقت الذي يقدره، في الصورة التي يريدها. للغاية التي يرسمها. وليس للنبي ولا لأصحابه من أمره شيء، وليس لهم في هذا النصر يد، وليس لأشخاصهم فيه كسب، وليس لذواتهم منه نصيب، وليس لنفوسهم منه حظ! إنما هو أمر الله يحققه بهم أو بدونهم. وحسبهم منه أن يجريه الله على أيديهم، وأن يقيمهم عليه حراسًا، ويجعلهم عليه أمناء.. هذا هو كل حظهم من النصر ومن الفتح ومن دخول الناس في دين الله أفواجًا…
وبناء على هذا الإيحاء وما ينشئه من تصور خاص لحقيقة الأمر، يتحدد شأن الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه بإزاء تكريم الله لهم، وإكرامهم بتحقيق نصره على أيديهم. إن شأنه ومن معه هو الاتجاه إلى الله بالتسبيح وبالحمد والاستغفار في لحظة الانتصار، التسبيح والحمد على ما أولاهم من منَّة بأن جعلهم أمناء على دعوته حراسًا لدينه. وعلى ما أولى البشرية كلها من رحمة بنصره لدينه، وفتحه على رسوله ودخول الناس أفواجًا في هذا الخير الفائض العميم، بعد العمى والضلال والخسران، والاستغفار لملابسات نفسية كثيرة دقيقة لطيفة المدخل: الاستغفار من الزهو الذي قد يساور القلب أو يتدسَّس إليه من سكرة النصر بعد طول الكفاح، وفرحة الظفر بعد طول العناء. وهو مدخل يصعب توقيه في القلب البشري. فمن هذا يكون الاستغفار. والاستغفار مما قد يكون ساور القلب أو تدسَّس إليه في فترة الكفاح الطويل والعناء القاسي، والشدة الطاغية والكرب الغامر، من ضيق بالشدة، واستبطاء لوعد الله بالنصر، وزلزلة كالتي قال عنها في موضع آخر: (أَمۡ حَسِبۡتُمۡ أَن تَدۡخُلُواْ ٱلۡجَنَّةَ وَلَمَّا يَأۡتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوۡاْ مِن قَبۡلِكُمۖ مَّسَّتۡهُمُ ٱلۡبَأۡسَآءُ وَٱلضَّرَّآءُ وَزُلۡزِلُواْ حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ مَتَىٰ نَصۡرُ ٱللَّهِۗ أَلَآ إِنَّ نَصۡرَ ٱللَّهِ قَرِيبٞ ٢١٤) فمن هذا يكون الاستغفار. والاستغفار من التقصير في حمد الله وشكره. فجهد الإنسان، مهما كان، ضعيف محدود، وآلاء الله دائمة الفيض والهملان (وَإِن تَعُدُّواْ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ لَا تُحۡصُوهَآۗ ) فمن هذا التقصير يكون الاستغفار…
وهناك لطيفة أخرى للاستغفار لحظة الانتصار… ففيه إيحاء للنفس وإشعار في لحظة الزهو والفخر بأنها في موقف التقصير والعجز. فأولى أن تطامن من كبريائها، وتطلب العفو من ربها. وهذا يصدُّ قوى الشعور بالزهو والغرور…
ثم إن ذلك الشعور بالنقص والعجز والتقصير والاتجاه إلى الله طلبًا للعفو والسماحة والمغفرة يضمن كذلك عدم الطغيان على المقهورين المغلوبين؛ ليرقب المنتصر الله فيهم، فهو الذي سلطه عليهم، وهو العاجز القاصر المقصر. وإنها سلطة الله عليهم تحقيقًا لأمر يريده هو. والنصر نصره، والفتح فتحه، والدين دينه، وإلى الله تصير الأمور.
إنه الأفق الوضيء الكريم الذي يهتف القرآن بالنفس البشرية لتتطلع إليه، وترقى في مدارجه، على حدائه النبيل البار، الأفق الذي يكبر فيه الإنسان لأنه يطامن من كبريائه، وترفُّ فيه روحه طليقة لأنها تعنو لله!
إنه الانطلاق من قيود الذات ليصبح البشر أرواحًا من روح الله. وليس لها حفظ في شيء إلا رضاه.
ومع هذا الانطلاق جهاد لنصرة الخير وتحقيق الحق؛ وعمل لعمارة الأرض وترقية الحياة؛ وقيادة للبشرية قيادة رشيدة نظيفة معمرة، بانية عادلة خيِّرة، الاتجاه فيها إلى الله.
وعبثًا يحاول الإنسان الانطلاق والتحرر وهو مشدود إلى ذاته، مقيد برغباته، مثقل بشهواته. عبثًا يحاول ما لم يتحرَّر من نفسه، ويتجرَّد في لحظة النصر والغنم من حظ نفسه ليذكر الله وحده.
وهذا هو الأدب الذي اتسمت به النبوة دائمًا، يريد الله أن ترتفع البشرية إلى آفاقه، أو تتطلع إلى هذه الآفاق دائمًا…
كان هذا هو أدب يوسف عليه السلام في اللحظة التي تمَّ فيها كل شيء، وتحققت رؤياه:
( وَرَفَعَ أَبَوَيۡهِ عَلَى ٱلۡعَرۡشِ وَخَرُّواْ لَهُۥ سُجَّدٗاۖ وَقَالَ يَٰٓأَبَتِ هَٰذَا تَأۡوِيلُ رُءۡيَٰيَ مِن قَبۡلُ قَدۡ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّٗاۖ وَقَدۡ أَحۡسَنَ بِيٓ إِذۡ أَخۡرَجَنِي مِنَ ٱلسِّجۡنِ وَجَآءَ بِكُم مِّنَ ٱلۡبَدۡوِ مِنۢ بَعۡدِ أَن نَّزَغَ ٱلشَّيۡطَٰنُ بَيۡنِي وَبَيۡنَ إِخۡوَتِيٓۚ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٞ لِّمَا يَشَآءُۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡعَلِيمُ ٱلۡحَكِيمُ ١٠٠) وفي هذه اللحظة نزع يوسف عليه السلام نفسه من الصفاء والعناق والفرحة والابتهاج ليتجه إلى ربه في تسبيح الشاكر الذاكر كل دعوته وهو في أبهة السلطان وفي فرحة تحقيق الأحلام:
(۞رَبِّ قَدۡ ءَاتَيۡتَنِي مِنَ ٱلۡمُلۡكِ وَعَلَّمۡتَنِي مِن تَأۡوِيلِ ٱلۡأَحَادِيثِۚ فَاطِرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ أَنتَ وَلِيِّۦ فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِۖ تَوَفَّنِي مُسۡلِمٗا وَأَلۡحِقۡنِي بِٱلصَّٰلِحِينَ ١٠١) وهنا يتوارى الجاه والسلطان، وتتوارى فرحة اللقاء وتجمع الأهل ولـمَّة الإخوان، ويبدو المشهد مشهد إنسان فرد يبتهل إلى ربه أن يحفظ له إسلامه حتى يتوفاه إليه، وأن يلحقه بالصالحين عنده. من فضله ومنِّه وكرمه…
وكان هذا هو أدب سليمان عليه السلام وقد رأى عرش ملكة سبأ حاضرًا بين يديه قبل أن يرتد إليه طرفه:
(فَلَمَّا رَءَاهُ مُسۡتَقِرًّا عِندَهُۥ قَالَ هَٰذَا مِن فَضۡلِ رَبِّي لِيَبۡلُوَنِيٓ ءَأَشۡكُرُ أَمۡ أَكۡفُرُۖ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا
يَشۡكُرُ لِنَفۡسِهِۦۖ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيّٞ كَرِيمٞ ٤٠) وهذا كان أدب محمد صلى الله عليه وسلم في حياته كلها، وفي موقف النصر والفتح الذي جعله ربه علامة له، انحنى لله شاكرًا على ظهر دابته، ودخل مكة في هذه الصورة. مكة التي آذته وأخرجته وحاربته ووقفت في طريق الدعوة تلك الوقفة العنيدة… فلما أن جاءه نصر الله والفتح، نسي فرحة النصر وانحنى انحناءة الشكر، وسبَّح وحمد واستغفر كما لقنه ربه، وجعل يكثر من التسبيح والحمد والاستغفار كما وردت بذلك الآثار. وكانت هذه سنته في أصحابه من بعده، رضي الله عنهم أجمعين.
وهكذا ارتفعت البشرية بالإيمان بالله، وهكذا أشرقت وشفت ورفرفت، وهكذا بلغت من العظمة والقوة والانطلاق…
2021-10-01