مقاصِدُ الشريعة
مقاصِدُ الشريعةِ مُرَكَّبٌ إِضافِيٌّ ومُصطَلَحٌ أُصولِيٌّ يَقتَضِي التَعريفَ بِهِ ابتِداءً، وَبيانَ نَشأَتِهِ كمَصطَلحٍ عِندَ الأُصولِيين. (جاءَ في المَوسوعَةِ الفِقهِيَّةِ الكُويتِيَّةِ(38/329): «الْمَقَاصِدُ فِي اللُّغَةِ: جَمْعُ مَقْصِدٍ، وَهُوَ: الْوِجْهَةُ أَوِ الْمَكَانُ الْمَقْصُودُ، وَفِي الاِصْطِلاَحِ: لَمْ يَتَعَرَّضْ عُلَمَاءُ الأْصُول إِلَى تَعْرِيفِ الْمَقَاصِدِ، وَالَّذِي يُسْتَخْلَصُ مِنْ كَلاَمِهِمْ فِي ذَلِكَ: أَنَّهَا الْمَعَانِي وَالْحِكَمُ الْمَلْحُوظَةُ لِلشَّارِعِ فِي جَمِيعِ أَحْوَال التَّشْرِيعِ أَوْ مُعْظَمِهَا، بِحَيْثُ لاَ تُخْتَصُّ مُلاَحَظَتُهَا بِالْكَوْنِ فِي نَوْعٍ خَاصٍّ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ…» انتهى. لَقد بدأَ ظُهورُ هذا العلمِ – والله أعلم – على يَدِ إِمامِ الحَرمَينِ أَبي المَعالِي عبدِالملكِ الجُوينيِّ (ت: 478 هـ)، في كتابِهِ:(البرهان) وَتبعَهُ في ذَلكَ تِلميذُهُ الغزالِيُّ (ت: 505هـ) ثُمَّ الإِمامُ عِزُّ الدينِ بنُ عبدِ السلامِ (ت: 660هـ) صاحبُ كتابِ: (قَواعدِ الأَحكامِ في مَصالحِ الأَنامِ)، وتَتابعَت الكِتاباتُ فيه وَبلغَت مدىً كبيرًا في العُمقِ والتَّفصيلِ عِندَ الإِمامِ أَبي إسحقَ إِبراهيمَ بنِ موسى الغَرناطِيِّ المالِكِيِّ، المعروفِ بِالشاطِبِيِّ (ت: 790هـ) في كتابهِ:(الموافقات)، والذي صارَ هو الـمُعوَّلَ عليهِ في فَهمِ هذا العِلمِ والغَوصِ إِلى دَقائِقهِ، وَيكادُ يكونُ هوَ المَرجعَ الـمُعتَمدَ الوحيدَ في هَذا العِلمِ إلى يَومِنا هذا، رحمهم الله جميعًا.
إِنَّ أُوْلَىْ مُقَدِّماتِ مَباحِثِ مَقاصِدِ الشَّريعَةِ كَما قَرَّرها الأَوَّلونَ هُوَ أَنَّها مَصالِحُ العِبادِ في الدُّنيا والآخِرَة، فهم يقولونَ: إِنَّها مَصالحُ العِبادِ في العاجلِ والآجل معًا. فيقولُ الشاطِبِيُّ على سبيلِ المثال: «إنَّ وَضعَ الشرائِعِ إِنما هوَ لمصالحِ العِبادِ في العاجِلِ والآجلِ معًا…» [الموافقات: (2/2)]، ويقولُ أيضًا: «وَالشَّرِيعَةُ الْمُبَارَكَةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ مَنَزَّلَةٌ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ؛ وَلِذَلِكَ كَانَتْ محفوظة في أصولها وفروعها كما قال تَعَالَى: (إِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا ٱلذِّكۡرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ ٩) [الْحِجْرِ: 9]؛ لِأَنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى حِفْظِ الْمَقَاصِدِ التي بها يكون صلاح الدارين وَهِيَ: الضَّرُورِيَّاتُ، وَالْحَاجِيَّاتُ، وَالتَّحْسِينَاتُ، وَمَا هُوَ مُكَمِّلٌ لَهَا وَمُتَمَّمٌ لِأَطْرَافِهَا…» [الموافقات: (1/108)]. وَيَشيعُ اليومَ بينَ كثيرٍ مِنَ رُوَّادِ الدَّعوَةِ إِلى إِعمالِ مَقاصِدِ الشَّريعَةِ في مُعالَجَةِ كَثيرٍ مِنَ المَواضِيعِ الـمُعاصِرَةِ، أَو في تَجدِيدِ الفِقهِ أَو استِنباطِ أَحكامِ الـمُستَجدَّاتِ اعتِبارُهُم الـمَصالِحَ والـمَفاسِدَ بِحَسبِ المَعانِي الشَّائِعَةِ لِهذِهِ الأَلفاظِ، أَو بِعبارَةٍ أَدقِّ بِحسبِ ما يُوافِقُ الـمُيولَ وَالأَغراضَ الإِنسانِيَّةَ وَحُظوظَ النَّفسِ. وَهذا التَعَدِّي مِمَّن تَطَفَّلوا على هَذا العِلمِ يَقتَضِي الفَصلَ بَينَ ما قَرَّرهُ الأَوَّلونَ مِن قَواعِدَ لا تُخرِجُهُ عَن انضِباطِهِ واتِّساقِهِ بِالشَّريعَةِ فَهمًا وَالتِزامًا كما أَرادَ الشَّارِعُ، وَبينَ ما قَرَّرَهُ الـمُعاصِرونَ مِن قَواعِدَ واستِنباطاتٍ تُخالِفُ الشَّرعَ، سالِكينَ في ذَلِكَ طُرقًا مُعوَجَّةً نَسَبوها إِلى الأَوَّلينَ وخُصوصًا إِلى الشَّاطِبِيِّ رَحمَهُ اللَّه. وَمِن ذلِكَ ما جاءَ عَندَ أَحمدِ الرَّيسونِيِّ في كتابِه:(نَظَرِيَّةُ الـمَقاصِدِ عِندَ الإِمامِ الشَّاطِبِيِّ) ص. 10 قولُه: «فَفي بابِ الرُّخَصِ مَثلًا، لا شَكَّ أَنَّ رَفعَ الـمَشاقِّ عَنِ النَّاسِ وَالتَخفيفَ عَنهُم هِيَ الحِكمَةُ وَالـمَقصودُ، وَهِيَ العِلَّةُ الحَقيقِيَّةُ لِلرُّخَصِ الشَّرعِيَّةِ؛ وَلَكِنَّ الشَّارِعَ لا يَقولُ لِلمُكَلَّفِينَ كُلَّما وَجَدَتم عَنتًا فَتَرخَّصوا، وَإِنَّما حَدَّدَ لَهُم أَماراتٍ مَعروفَةً وَأَسبابًا مُعَيَّنَةً هِيَ ما يُسَمِّيهِ الأُصولِيَّونَ الأَوصافَ الظَّاهِرَةَ الـمُنضَبِطَةَ أَو العِلَلَ بِناءً عَليها يَقعُ التَّرخيص كالسَّفَرِ والمَرَضِ وَالعَجزِ وَالاضطِّرارِ وَالإِكراه، وأَما ما سِوى هَذِهِ من صُوَرِ الـمَشاقِّ التي لا حَصرَ لَها مِمَّا لَم يُسَمِّهِ الشَّارِع، فَقد تَرَكَ تَقديرَها وَتقديرَ ما تَستَحِقُّهُ من تَرخيصاتٍ لِلمُجتهدِينَ والـمُفتينَ المُوَقِّعينَ عن رَبِّ العالَمين…» انتهى.
لِذلِكَ وَجَبَ تَعيينُ شُروطٍ وقواعِدَ صحيحَةٍ تكونُ مُنطلَقًا لِهذا البحثِ يَتِمُّ الفَصلُ بِموجَبِها بينَ ما قَرَّرَهُ الأَوَّلونَ وما استَحدَثَهُ الـمُعاصِرون، وَهِيَ بِالإِجمال اثنان:
الأَول: إِنَّ هَذِهِ المَقاصِدَ هِيَ مَقاصِدُ الشَّارِعِ لا مَقاصِدَ الـمُكَلَّف، فَالشَّارِعُ وهوَ اللَّهُ تعالى هُوَ الذي جَعلَها إِما مقاصِدَ للشريعَةِ كَكُلٍّ، أَو مقاصِدَ لِكُلِّ حُكمٍ على حِدة.
الثاني: إِنَّ هذه المقاصدَ هي مقاصدُ الشارع من الشريعة أَي مِنَ الأحكامِ، فمصدرُ فهمِها الأحكامُ الشرعيَّةُ. فلا بُدَّ أَن يَكونَ هُناكَ رَابط بَينَ الحُكمِ وَنتيجَتِهِ أَو هَدفِه، أَي بينَ الحُكمِ ومَقصِدِه.
لقد نَشأَت فِكرَةُ الـمَقاصِدِ على يَدِ إِمامِ الحَرَمينِ الجُوَينِيِّ – رحمهُ الله – وَذلِكَ نتيجَةَ مُجادَلاتٍ في العِلَّةِ وَمسالِكِها بَينَ الـمَذهَبَينِ: الشافِعِيِّ والحَنَفِيِّ، وَكانَ من هذا الجِدالِ الاستِدلالُ بالقِياسِ وَبِعِلَلٍ مُعَيَّنَةٍ، وَجَرى الخِلافُ في هَذِهِ العِلَلِ وَصلاحِيَّتِها لِلتَّعليلِ؛ وَأَدَّى هَذا الخلافُ إِلى ظُهورِ فِكرَةِ الـمَقاصِد؛ وذلك أَنَّ القياسَ دليلٌ شرعيٌّ على الأَحكامِ. وَالعلَّةَ ركنٌ فيه فَلا يَتمُّ إِلا بها، ولا بُدَّ لإِثباتِ العِلَّةِ الشرعِيَّةِ من دَليلٍ يَدلُّ عليها، ثُمَّ يَجبُ أَن تَتوفَّرَ لِلعِلَّةِ شُروطٌ كَي يَصِحَّ التَّعليلُ بِها وإِلا لم تُـُعتبر. وهذا ما نَجدهُ في مَباحِثِ القياسِ عِندَ الأُصوليينَ تَحتَ عَناوينِ مسالكِ العلةِ أو طرقِها أو أدلـَّتِها، وهذهِ الـمَسالكُ أَو الأَدلةُ كثيرةٌ وَمُتشعِّبةٌ، ولها شروطـُها. من ذلك: أَن تَأتي الِعلَّةُ صَريحةً، كَأَن يُذكرَ في النَّصِّ ما يُفيدُ تَعليلَ الحُكمِ صَراحةً، كَقولِهِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ: «إِنما جُعِلَ الاستئذانُ من أَجلِ البصر» رواه البخاري والترمذي وأحمد، أَو كأن يدلَّ عليها حرفٌ من حُروفِ التَّعليلِ كَاللامِ مثلًا، كما في قَولهِ تعالى: ( رُّسُلٗا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةُۢ بَعۡدَ ٱلرُّسُلِۚ ) [النساء: 165] أَو ( كي) كقولِهِ تعالى: (كَيۡ لَا يَكُونَ دُولَةَۢ بَيۡنَ ٱلۡأَغۡنِيَآءِ مِنكُمۡۚ ) [الحشر: 7]. وَمن شُروطِ العِلَّةِ أَن تَكونَ وَصفًا مُناسبًا لِلتعليلِ، وَأَن يَكونَ هذا الوَصفُ سَالـمًا، أَي غَيرَ مُلْغىً أَو مُعارَضٍ بِأَيِّ دَليلٍ أَو معنىً شرعيٍّ. وَوصفُ (المناسبة) هو لبُّ الأمرِ ونُواتـُه التي انبنى عليها وحولَها مَوضوعُ تَعليلِ الأَحكامِ بِالأوصافِ الـمَصلحِيَّةِ، وَهوَ الذي أَدّى بِدورِهِ إِلى ظُهورِ فِكرةِ مَقاصِدِ الشَّريعَة. فَكيفَ حَصَلَ ذلِك؟
فَمثلًا في قَولِهِ تَعالى: (رُّسُلٗا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةُۢ بَعۡدَ ٱلرُّسُلِۚ ) فَقصدُ قَطعِ الحُجَّةِ أَو العُذرِ علةُ الرُّسُلِ والتَّبليغ. وَالعلَّةُ هُنا مُناسِبةٌ؛ ِلِأَنَّ الَعقلَ يَجدُ رابطًا أَو يَفهمُ الرَّبطَ بَينَ الِعلَّةِ والَمعلولِ. فَإِرسالُ الرُّسُلِ يَقطعُ العُذرَ وَيمنعُ الزَّعمَ بأَنَّهم لم تَبلُغْهم الرِّسالةُ. وَكذلك في الحَديثِ: «إِنَّما جُعِلَ الاستئذانُ مِن أَجلِ البَصر». فَالعقلُ يَجدُ رابطًا أَو يَفهمُ الرَّبطَ، فَيتقبَّلُ إِيجابَ الاستئذانِ قَبلَ الدُّخولِ لِعلَّةِ وُقوعِ النَّظرِ على ما يَكرهُ الـمُستأذَنُ عليه أَو على ما لا تَجوزُ رُؤيتُـُهُ؛ لذلك يُقالُ هُنا: إِنهُ قَد تَوفَّرَ في هذه الأَوصافِ التي جَاءت في مَسالكَ شَرعيةٍ شَرطُ الـمُناسبَةِ. وَبِتعبيرٍ آخَرَ، فَإِنَّ تَوَفُّرَ شَرطِ الـمُناسبَةِ في الوَصفِ يعني إِدراكَ الحِكمةِ أَو العَلاقَةِ السَّبَبِيَّةِ بَينَهُ وَبينَ الحُكم. وَكَذلِكَ قد يدلُّ دليلٌ على التعليلِ ويأتي الوصفُ في مسلكٍ شَرعِيٍّ؛ ولكن لا يَكونُ الوَصفُ مُناسبًا لِيكونَ عِلةً، أَي لا يَكونُ هُناكَ رَابطٌ مقبولٌ عقلًا بَينَ العِلَّةِ والحُكم، وفي هذه الحَالةِ لا يُعَدُّ الوصفُ عِلةً؛ لأَنهُ فَقدَ شَرطَ الـمُناسَبةِ.؛ وَذلكَ كَقولِهِ تَعالى: (فَٱلۡتَقَطَهُۥٓ ءَالُ فِرۡعَوۡنَ لِيَكُونَ لَهُمۡ عَدُوّٗا وَحَزَنًاۗ ) [سورة القصص: 8]. فاللامُ هُنا هي لامُ التَّعليلِ، وَهيَ تَدلُّ لُغةً على التَّعليلِ؛ إلا أَنَّ شَرطَ الـمُناسبَةِ مَفقودٌ هُنا، إِذ لم يَلتقط آلُ فِرعونَ موسى لِأجلِ أَن يَكونَ لَهم عَدوًّا وَحَزَنًا، وَإِنما لِيكونَ لَهم قُرَّةَ عَينٍ؛ لِذلكَ كانت هذه العَداوَةُ وَالحَزَنُ مآلًا سَيؤولُ إِليهِ الالتِقاطُ، وَليسَ عِلَّةً لِفعلِهم، أَي لالتقاطِهِ إِياه. هكذا، فحيثما لا تَتوفَّرُ الـمُناسَبةُ لا يكونُ الوصفُ علةً ولو جاءَ في أَحدِ الـمَسالِكِ الشرعيَّةِ للعلة. يقولُ الآمِدِيُّ: «المناسبُ عِبارةٌ عَمَّا لَو عُرِضَ على العقولِ تَلَقَّــتــهُ بِالقَـَبولِ» (الإِحكام في أُصولِ الأَحكام: 2/273).
يَتَبيَّنُ بِذلِكَ أَنَّ الـمُناسَبَةِ شَرطٌ لِلعِلَّةِ التي يُقاسُ عَليها أَو تَعديَةُ الحُكمِ بِها، وَهُنا مِفصَلٌ حَدَثَ عِندَهُ تَطَوُّرٌ في النَّظَر؛ إِذ بَعدَ مُجادَلاتٍ في ادِّعاءِ فَريقٍ لِأَحكامٍ وَعِلَلٍ مُعَيَّنَة، وَرَفضِ فَريقٍ لَها؛ ظَهَرَ ادِّعاءُ التَّعليلِ بِالوَصفِ الـمُناسِبِ من غَيرِ أَن يَدُلَّ دَليلٌ شَرعِيٌّ على الوَصف، أَي أَنَّ الحُكمَ الشَّرعِيَّ إِذا احتَمَلَ أَن يَكونَ لَهُ عِلَّةٌ مُعَيَّنَةٌ لِمُجَرَّدِ أَنَّ العَقلَ يَرى فِيها حِكمَةً أَو مَصلَحَةً، فَإِنَّ هَذِهِ العِلَّةَ تَكونُ مَحَلَّ ظَنٍّ، وَبِما أَنَّ الظَّنَّ مَعمولٌ بِهِ في الشَّرعِيَّات؛ تَكونُ هَذِهِ العِلَّةُ عِلَّةً شَرعِيَّةً. وَهكذا دَخَلَ في الجِدالِ مَوضوعُ اتِّخاذِ (الـمُناسَبَةِ) مَسلَكًا من مسالِكِ العِلَّةِ أَو دَليلًا عَليها وَليسَ فَقط شَرطًا فيها. فَعلى سَبيلِ الـمِثالِ، إِذا أَردنا أَن نُعلِّـلَ تَحريمَ الخَمرِ، فَيجبُ أَن يَكونَ الوَصفُ الـمُعـَلـَّلُ بِهِ صالحًا لِلتعليلِ، أَي مُناسبًا. وَمِن أَوصافِ الخَمرِ: رَائحتُها، وَكَونُها مُسْكِرةً، أَما رَائحتُها فَهيَ وَصفٌ غَيرُ مُناسِبٍ لِتكونَ عِلةً لِلتحريمِ، وَلكِنَّ العَقلَ يَتقبلُ الرَّبطَ بَينَ تَحريمِها وَبينَ وَصفِ الإِسكارِ؛ لِأَنَّهُ يُدركُ مصلحةً أَو حِكمةً في مَنعِ ما يُسكِر؛ وَلذلكَ يصلحُ وَصفُ الإِسكارِ لِيكونَ عِلةً لِلتحريمِ عِندَ مَن يُعلِّلُ بِه. وَلكنَّ هذا الوَصفَ لم يَأتِ أَصلًا في مَسلكٍ شَرعِيٍّ، أَي إِنَّهُ لا يُوجدُ دَليلٌ شَرعِيٌّ على كَونِ الإِسكارِ عِلةً؛ وَلِذلكَ رَفضَهُ الَأحنافُ رَفضًا باتًّا.
وَهكذا يَتبيَّنُ الفَرْقُ بَينَ أَن يَكونَ هُناكَ دَليلٌ على عِليَّةِ الوَصفِ ثُمَّ اشتراطُ الـمُناسبةِ لِثبوتِهِ كَعلَّةٍ، وَبينَ أَن يَكونَ مُناسِبًا لِيكونَ عِلَّةً وَلكنْ لا دَليلَ عَلى عِليَّتِه. وَالأَخذُ بِهذا الأَمرِ الثانيِّ يُعدُّ تَطورًا عَلى طَريقِ ظُهورِ مَقاصدِ الشَّريعةِ؛ إِذ إِنَّ هَذهِ الخُطوةَ هِيَ القَولُ بِتعليلِ الأَحكامِ بِالحِكَم. وَهكذا ظَهرَ مَسلكٌ جَديدٌ لِلتعليلِ هُوَ مَسلكُ الـمُناسَبةِ. على أَنَّ مِنَ الجَديرِ التَّنبيهَ إِليهِ أَنَّ هَذِهِ الخُطوةَ لَيسَ فِيها اتِّخاذُ الوَصفِ الـمُناسبِ أَو الحِكمَةِ أَو الـمَصلحةِ دَليلًا شَرعيًا؛ إِذ لا يُستَدَلُّ بِالمصلحةِ على حُكمٍ، وَلا يَنشأُ حُكمٌ بِناءً عَلى الـمَصلحةِ، وَإِنَّما تُقرأُ مَصلحةٌ في حُكمٍ شَرعِيٍّ مَوجودٍ يُظَنُّ أَنَّها عِلَّةٌ لِلحكم، وَبِتعبيرٍ آخرَ: تُـُتـَخـَيَّلُ حِكمةٌ مُناسبةٌ لِلحكمِ الشَّرعيِّ في حُكمٍ شَرعِيٍّ مَوجودٍ أَو في أَكثرَ مِن حُكمٍ، ثُمَّ تُـُعرضُ كَعلة؛ وَلذلكَ أُطـْلـِقَ على هذا الاستدلالِ اسمُ مَسلكِ الـمُناسبَةِ أَو الإِخالة. وَيُقالُ حينئذٍ: إِنَّ هذا الوَصْفَ أَو الـمَعنى شَهدَ لَهُ حُكمٌ. وَلا يُقالُ: شَهدَ لَهُ نَصٌّ أَو دَليل، أَي أَنَّ هَذا الوَصفَ مَأخوذٌ مِن دِلالةِ مَعنى النَّصِّ وَليسَ مِن دِلالةِ النَّص. يقولُ الغَزالِيُّ: «فَبِهَذِهِ الشُّرُوطِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا يَجُوزُ اتِّبَاعُ الْمَصَالِحِ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ الِاسْتِصْلَاحَ لَيْسَ أَصْلًا خَامِسًا بِرَأْسِهِ بَلْ مَنْ اسْتَصْلَحَ فَقَدْ شَرَّعَ كَمَا أَنَّ مَنْ اسْتَحْسَنَ فَقَدْ شَرَّعَ» ( المستصفى: 1/180).
َثارَ هَذا التَطَوُّرُ سِجالًا وَمجادَلاتٍ بَينَ الشافِعِيَّةِ الذينَ استرسلوا فيِهِ، وبينَ الأَحنافِ الذينَ رَدُّوهُ وَقالوا عنهُ: إِنَّهُ خَيالٌ وباطِلٌ، وَإِنَّ الظَّنَّ بِهِ لَيسَ ظَنًّا شَرعِيًّا. وقال الذين دافعوا عَنهُ: إِذا لم نُعلل الأَحكامَ تَخلو الوقائِعُ والمستجداتُ مِنَ الأَحكام، وَبرزَ عِندهُم قَولٌ: إِنَّ الأَصلَ في الأَحكامِ التَّعليلُ، فَإِذا دَلَّ الشَّرعُ عَلى العِلةِ فَـَبِها، وَإِذا لَم يدلَّ فَعَلينا أَن نَبحثَ عَن أَصلحِ وصفٍ لِنـُعَـلـِّلَ، وَأَصلحُها هُوَ أَكثرُها مُناسبةً بِشرطِ أَن لا يَدلَّ الشَّرعُ على رَدِّهِ أَو إِلغائه. فَقامَ الجُوَينِيُّ الشَّافِعِيُّ يُدافِعُ عَن مَسلَكِ الـمُناسَبَة، فاتَّهَمَ الأَحنافَ الذينَ رَدُّوهُ بِالتَّقصيرِ في فَهمِ هَذِهِ الأُصول، وَرَدَّ القَولَ بِأَنَّها تَحَكُّمٌ بِغيرِ دَليلٍ وَتحكيمٌ لِلعَقل، وقال: «بِأَنَّ التَّحَكُّمَ وَتحكيمَ العَقلِ إِنَّما يَلزمُ مَن لم يَسلكْ مَسلكَ الشَّافِعيِّ في ذَلك. وَقالَ في أَبي حَنيفةَ وأَصحابِهِ: وَبِالجُملةِ ليسَ مَعهُم مِن عِلمِ الأُصولِ قَليلٌ وَلا كَثير، وَإِن أَقامَ وَاحدٌ منهم لقبَ مسألةٍ فسننقضها في تفصيلِ الفروعِ، فَإنَّ صَاحبَهم ما بَنى مَسائِلهُ على أُصول، وَإِنَّما أَرسلَها عَلى ما تَأتَّى له» «البُرهان: 2/587).
استَمرَّ هذا السِّجالُ والأَحنافُ يَرُدُّونَ هذا الـمَنهجَ كُلَّه، فيقولُ البَزدَوِيُّ (ت: 482هـ) مثلًا عَن مَسلكِ الإِخالَةِ وَالـمُناسبة: وَأَما الخيالُ فَأَمرٌ بَاطلٌ لِأنَّهُ ظَنٌّ لا حَقيقَةَ لَهُ، وَلأنَّهُ باطنٌ لا يَصلُحُ دَليلًا على الخَصمِ وَلا دليلًا شَرعيًّا» (أُصولُ البَزدَوِيُّ: 3/518) وَقالَ أَيضًا: «فَلا يُسْمعُ مِنَّا الاستدلالُ بالأَصلِ، وَهوَ أَنَّ التعليلَ أَصلٌ في النُّصوصِ، بَل لا بُدَّ من إِقامَةِ الدَّليلِ على أَنَّ هذا النَّصَّ بِعينِهِ مَعلول» (أُصول البزدوي: 3/438). ويقولُ عَبدُ العَلِيِّ مُحمَّدُ الأَنصارِيُّ (ت: 1225هـ): «خِلافًا لِلحنفيةِ، فَإِنَّهُم لا يَقبلونَ الإِخالَةَ أَصـلًا.. وَهُوَ لا يُغني مِنَ الحـقِّ شَـيئًا، وَغايتُهُ أَن يُجْعَلَ مِثلَ الإِلهام، وَهوَ لا يَصلحُ حُجَّة» (فَواتِحُ الرَّحموت: 2/301).
استَمَرَّ الأمرُ على هذا الحالِ من السِّجالِ إلى أَن جاءَ الشاطِبيُّ -رحمه الله- وَسطَّرَ مَنهجَهُ في كِتابهِ (الموافقات). فَقد وَقفَ الشَّاطِبيُّ موقفًا وافقَ فيه كُلًا من الفريقينِ بِشيءٍ من رأيه، وخالفَ أيضًا كُلًا منهما بشيءٍ آخر من رأيه، ورأى أَنَّهُ بذلك وَفـَّقَ بينَ الفريقينِ، وهذا هو مقصوده بِتسميةِ كتابِه (الموافقات). فَقَد وافقَ الشافِعِيَّةَ الـمُعلـِّلينَ بِالاعتبار، وَلكنهُ لم يقبل أَن يشهدَ لِلمعنى أَو للوَصفِ (كالإسكار) حكمٌ واحدٌ ولا حُكمانِ أَو أَكثر؛ لأنهُ بهذا يَظلُّ الاعتبارُ رأيًا راجعًا للناظرِ وليسَ للشرع، وَاشترطَ لِقبولِ التعليلِ بالوصفِ الـمُعتبرِ أَن يَثبُتَ ثُبوتًا قَطعيًّا. وَرأى أَنَّ الوصفَ إِذا تَوفَّرَ لهُ هذا الشرطُ فَلا يُمكنُ رَدُّه، وَسيقبَلُهُ الأَحنافُ. وَرأَى أَنَّهُ وَفـَّقَ بِهذا الشرطِ بينَ الحنفيةِ وغيرِهم. وَيحصُلُ القَطعُ عِندَ الشَّاطِبِيِّ، بِأَن تشهدَ للوَصفِ أَحكامٌ كثيرةٌ تفوقُ الحصرَ، وبِهذا يَحصلُ للمعنى أَو لِلوَصفِ ما سمّاهُ التَّواتُرَ الـمَعنويَّ الذي يَحصُلُ بالاستقراءِ الـمُفيدِ لِلقَطعِ، أي بوجود المعنى المعتبرِ في عددٍ غيرِ محصورٍ من الَأَحكام. يقولُ رحمهُ الله: «وَدَلِيلُ ذَلِكَ اسْتِقْرَاءُ الشَّرِيعَةِ، وَالنَّظَرُ فِي أَدِلَّتِهَا الْكُلِّيَّةِ وَالْجُزْئِيَّةِ، وَمَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الْعَامَّةِ عَلَى حَدِّ الِاسْتِقْرَاءِ الْمَعْنَوِيِّ الَّذِي لَا يُثْبَتُ بِدَلِيلٍ خَاصٍّ، بَلْ بِأَدِلَّةٍ مُضَافٍ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، مُخْتَلِفَةِ الْأَغْرَاضِ، بِحَيْثُ يَنْتَظِمُ مِنْ مَجْمُوعِهَا أَمْرٌ وَاحِدٌ تَجْتَمِعُ عَلَيْهِ تِلْكَ الْأَدِلَّةُ، عَلَى حَدِّ مَا ثَبَتَ عِنْدَ الْعَامَّةِ جُودُ حَاتِمٍ، وَشَجَاعَةُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ» (الموافقات: 2/81).
ويحسُنُ بِنا بَعدَ هذا الاستِقصاء غَيرِ الـمُخِلِّ لمسألة مقاصِد الشريعَةِ كما هِيَ عِندَ الأُصوليِّينَ أَن نَعرِضَ إِلى ما سَطَّرَهُ حِزبُ التَّحريرِ في ثقافَتِهِ حَولَ مَسأَلَةِ المقاصِد. فَقَد فَرَّقَ الشيخُ الـمُجَدِّدُ العَلامَةُ تَقِيُّ الدِّينِ النَّبَهانِيُّ – رحِمهُ اللَّه – بَينَ كَونِ المَقاصِدِ مِمَّا قَصَدَهُ الشَّارِعُ؛ فَيكونُ بِذلِكَ مقبولًا، وبينَ مَا قصَدَهُ العقلُ؛ فيكونُ بِذلِكَ مردودًا. وَما قَصَدهُ الشَّارِعُ إِمَّا أَن يكونَ قَصدَ الشَّارِعِ مِن الشَّريعَةِ كُلِّها كَقولِهِ تَعالى: (وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا رَحۡمَةٗ لِّلۡعَٰلَمِينَ) [الأنبياء: 107]. وَإِمَّا أَن يكونَ قَصدَهُ مِن آحادِ الأَحكام كَقولِهِ تَعالى: (إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ تَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِۗ) [العنكبوت: 45]؛ وَعليهِ فالحِزبُ يَشتَرِطُ في اعتِبارِ المقاصِدِ سواءَ ما كَانَ منها من مقاصِدِ الشَّريعَةِ كَكُلٍّ، أَو مقصِدِ كُلِّ حُكمٍ بِعَينِه، أَن تكونَ مِنَ وَضعِ الشَّارِعِ لا مِن وَضعِ الـمُكَلَّف. وَإِذا كَانَ أَكثَرُ الأُصولِيِّينَ قد دَرجوا على تَقسيمِ الـمَقاصِدِ إِلى: ضَرورِيَّاتٍ وحاجِيَّاتٍ وتحسينياتٍ، وجَعلوا الضَّرورِيَّاتِ خمسة: حِفظُ العَقلِ والنَّفسِ والنَّسلِ والدِّينِ والمال، فَإِنَّ الحِزبَ زادَ عليهَا ثلاثةً. جاءَ في كتاب: (الشخصِيَّةِ الإِسلامِيَّةِ/الجزء الثالث): «… فمثلًا الـمَقاصدُ الخَمسةُ التي يَقولونَ إِنَّها لم تَخلُ مِن رِعايتِها مِلةٌّ مِنَ المِلَل، وَلا شَريعَةٌ مِنَ الشَّرائِع، وَهي: حِفظُ الدِّين، والنَّفسِ، والعَقل، والنسل، والمال، ليست كُلَّ ما هُوَ ضَروريٍّ لِلمجتمعِ مِن حَيثُ هُوَ مُجتمع، فَإِنَّ حِفظَ الدَّولةِ، وَحفظَ الأَمن، وحِفظَ الكرامَةِ الإِنسانية، هِيَ أيضًا مِنَ ضَروراتِ الـمُجتمع. فَالضروراتُ إِذن في واقِعها ليست خَمسةً وَإِنَّما هِيَ ثَمانية… انتهى». ويُفَرِّقُ الحِزبُ بَينَ الـمَقاصِدِ والعِلَل، فَالـمَقصِدُ لا يَكونُ عِلَّةً لِتَشريعِ الأَحكامِ إِلا إذا تَوفَّرَت فِيهِ شُروطُ التَّعليلِ. يقولُ في المصدَرِ السابِق: «وَذلكَ أَنَّ النَّصَّ الذي يَدُلُّ عَلى التعليلِ هُوَ أَن يكونَ التَّعليلُ بِالوصفِ بِلفظٍ مَوضوعٍ لَهُ في اللغة، بِأَن يَكونَ الوَصفُ مُناسبًا، وَذلكَ بِإِدخالِ حَرفٍ مِن حُروفِ التَّعليلِ على هَذا الوصفِ الـمُناسبِ مِثل: (كَيۡ لَايَكُونَ دُولَةَۢ بَيۡنَ ٱلۡأَغۡنِيَآءِ مِنكُمۡۚ) أَو بِوضعِهِ في الجُملةِ على وجهٍ يُفهِمُ الِعليَّةِ مِثل: «وَلاَ يَرِثُ الْقَاتِلُ شَيْئًا» أخرجه أبو داود، «لاَ يَقْضِي الْقَاضِي بَيْنَ اثنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ» أخرجه أحمد، «… فِي صَدَقَةِ الْغَنَمِ، فِي سَائِمَتِهَا…» أخرجه البخاري، وغيرُ ذلك، فَإِنَّ هذا يُفهِمُ الِعليَّة، فَيكونُ ما أَتى فيه عِلَّةً لِلحكم، بِخلافِ ما لو لم يكن اللفظُ وصفًا، أَو وصفًا غير مُناسب، فَإِنَّهُ لا يُفيدُ العِلية، ولا يُفهَمُ مِنهُ التعليل؛ وَلذلكَ لا يكونُ علة… انتهى» وَعلى هذا فَالعِلَّةُ عِندَ الحِزبِ لا تكونُ عِلَّةً إِلا إِذا تَوفَّرَت فيها شُروطُ التَّعليل، وهِيَ بِذلِكَ تختَلِفُ عن الحِكمَةِ أَو الغايَةِ مِنَ التَّشريع. فالعِلَّةُ موجودَةٌ قبلَ الحُكمِ ومَعهُ تدورُ معهُ وجودًا وعدَمًا، وَالعِلَّةُ هِيَ الباعِثُ على تَشريعِ الحُكمِ، فالحُكمُ وَجَبَ بِها. بينما الحِكمَةُ أَو الغايَةُ على ما جاءَ في كثيرٍ مِنَ النُّصوصِ كقولِهِ تَعالى: (لِّيَشۡهَدُواْ مَنَٰفِعَ لَهُمۡ) [ الحج: 28]. وقولِهِ: (إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ تَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِۗ) [العنكبوت: 45]. فَإِنَّ الـمَنافِعَ مِنَ الحَجِّ قَد تحصُلُ لِلحُجَّاج وقد لا تحصُل، وكذَلِكَ الصلاةُ، قد يَنتَهي بِها الـمُصلِّي عَن الفحشاءِ والـمُنكَر وقد لا يَنتَهي. فالغايَةُ أَو الحِكمَةُ مِنَ التَّشريعِ نتيجَةٌ مَن نتائِجِ تطبيقِ الحُكمِ لا عِلَّةً لِتَشريعِه. فَالعِلَّةُ بِذلِكَ تختَلفُ عن الحِكمَةِ أَو الغايَة، والخَلطُ بينهُما غَلطٌ يُخِلُّ في الشَّريعَةِ فَهمًا والتِزامًا.