الشرق الأوسط الحديث… بين مشروع التقسيم ومشروع الخلافة على منهاج النبوة
2021/04/14م
المقالات
1,889 زيارة
نصـــر فيـاض – أبـــو ابـــراهيم
قلقيلية – الأرض المباركة فلسطين
هدمت الخلافة منذ مئة عام، ورافق هدمها تقسيم تركة الدولة العثمانية بما عرف باتفاقية سايكس بيكو، وكان الهدف من هذا التقسيم الحيلولةَ دون عودة الخلافة من جديد، ومنعَ وحدة المسلمين في دولة واحدة، والتمكُّنَ من نهب خيرات المسلمين وإبقاءَهم تحت الاستعمار؛ ولكن الغرب الكافر وجد أن المسلمين أحيَوا فكرة الخلافة من جديد، واتَّسعت رقعة المطالبة بها لتشمل الكثير من بلاد المسلمين، ووجد أن المسلمين ازداد وعيهم على أحكام الإسلام وأفكاره، وعرفوا أن عدوَّهم الحقيقي هو الكافر المستعمِر، وأصبح الانعتاق منه وإجلاؤه عن بلاد المسلمين وعودة الخلافة من أسوأ هواجسه وما يتوقع حدوثه؛ فبدأ بالتفكير بوسائل جديدة تمنع قيام دولة الخلافة وتجعل وحدة المسلمين أمرًا غير ممكن، فتفتَّق عن أذهان بعض الماكرين الخبيثين من الكفار فكرة تقسيم المقسَّم وتجزئة المجزَّأ وإضعاف الدول وتحويلها إلى نماذج لا يمكن معها أن تصبح دولًا قوية، بالإضافة إلى إذكاء الحروب والصراعات الداخلية في الدولة الواحدة، وبين الدولة وغيرها من الدول، بإثارة النعرات الطائفية والمذهبية والقومية والعرقية؛ فأريقت الدماء لإعادة رسم خارطة المنطقة من جديد، وأُغرقت البلاد ببحار من الدماء، وما زالت شعوبها تنزف لتحقيق هذه الأهداف الخبيثة.
ومن أجل تحقيق ذلك، وُضعت خطط تم نشر بعضها، وكُتبت عدة مقالات عنها في الصحف ومراكز الأبحاث، وسنتعرض لها بشكل موجز، وسنتناول خطتين مما نشر بشيء من التفصيل، وهما خطة «برنارد لويس» مستشار وزير الدفاع الأمريكي في عهد «بوش الابن» وخطة رالف بيترز (نائب رئيس الأركان للاستخبارات العسكرية الأمريكي السابق) لخطورتهما، ولأن الوقائع على الأرض من قتل وإثارة النعرات الطائفية والقومية والمذهبية والعرقية تكشف عن بعض ما جاء فيهما، وخاصة التوصيات والإجراءات العملية لتطبيق هاتين الخطتين.
خطة عوديد ينون 1982م: (لبننة العالم الإسلامي):
تُعدُّ هذه الخطة من أوائل ما نشر في هذا السياق، وهي خطة بلورها عوديد ينون مستشار رئيس الوزراء (الإسرائيلي) آرييل شارون بعنوان: «استراتيجية إسرائيل» وتهدف الخطة إلى لبننة (مشتقة من لبنان) العالم الإسلامي كله بإعادة تقسيمه على أساس طائفي، وذكر أن من فوائد ذلك إرساء شرعية الكيان اليهودي، وبما أن كل طائفة ستكون لها دولة؛ فوجود «دولة يهودية» يصبح مبرَّرًا من الناحية «الأخلاقية”. وهذه الخطة تتناغم مع التوجُّه الأمريكي في ذلك الوقت، والذي عبَّر عنه في عام 1980م مستشار الأمن القومي الأمريكي للرئيس كارتر «بريجنسكي» عندما كانت الحرب العراقية الإيرانية مستعرة بقوله: «إن المعضِلة التي ستعاني منها الولايات المتحدة من الآن (1980م) هي كيف يمكن تنشيط حرب خليجية ثانية تقوم على هامش الحرب الخليجية الأولى التي حدثت بين العراق وإيران تستطيع أمريكا من خلالها تصحيح حدود (سايكس- بيكو)».
برنارد لويس وخطته وخرائطه الشهيرة لتقسيم العالم الإسلامي:
نُشرت خطة برنارد لويس الخطيرة وخرائطه عام 1992م، واكتسبت خطته أهميتها عندما تمَّت الموافقة عليها من قبل الكونجرس الأمريكي، وتمَّ اعتمادها وإدراجها في ملفات السياسة الأمريكية الاستراتيجية. وبعد 10 سنوات من نشرها، وُجدت رؤى برنارد لويس الاستعمارية ضالَّتها في إدارة «جورج بوش الابن» التي استعانت به كمستشار لها قبل غزو العراق، وليصبح مستشارًا لوزير الدفاع لشؤون الشرق الأوسط في هذه الإدارة. ولخطورة هذه الخطة، ولكونها من أوائل الخطط (سايكس بيكو الجديدة) التي خرجت برؤية شاملة ومدعَّمة بخرائط تفصيلية، وتمَّ اعتمادها في الاستراتيجية الأمريكية؛ فإننا سنسلِّط الضوء عليها وعلى مهندسها «برنارد لويس»:
«برنارد لويس» هو مستشرق بريطاني الأصل، يهودي الديانة، أمريكي الجنسية. ولنتعرف عليه أكثر، فقد نشرت صحيفة «وول ستريت جورنال» مقالًا قالت فيه: إن برنارد لويس (90عامًا) هو مؤرخ بارز للشرق الأوسط، وقد وفَّر الكثير من الذخيرة الأيديولوجية لإدارة بوش في قضايا الشرق الأوسط والحرب على الإرهاب؛ حتى إنه يعتبر بحق منظِّرًا لسياسة التدخُّل والهيمنة الأمريكية في المنطقة.
وفي مقابلة صحفية أجريت مع «برنار لويس» في 20/5/2005م، قال فيها: «إن العرب والمسلمين قوم فاسدون مفسدون فوضويون، لا يمكن تحضُّرهم، وإذا تركوا لأنفسهم فسوف يفاجئون العالم المتحضِّر بموجات بشرية إرهابية تدمِّر الحضارات، وتقوِّض المجتمعات؛ ولذلك فإن الحل السليم للتعامل معهم هو إعادة احتلالهم واستعمارهم وتدمير ثقافتهم الدينية وتطبيقاتها الاجتماعية، وفي حال قيام أمريكا بهذا الدور فإن عليها أن تستفيد من التجربة البريطانية والفرنسية في استعمار المنطقة؛ لتجنُّب الأخطار والمواقف السلبية التي اقترفتها الدولتان. إنه من الضروري إعادة تقسيم الأقطار العربية والإسلامية إلى وحدات عشائرية وطائفية، ولا داعي لمراعاة خواطرهم أو التأثُّر بانفعالاتهم وردود الأفعال عندهم. ويجب أن يكون شعار أمريكا في ذلك: إما أن نضعهم تحت سيادتنا، أو ندعهم ليدمِّروا حضارتنا، ولا مانع عند إعادة احتلالهم أن تكون مهمتنا المعلنة هي تدريب شعوب المنطقة على الحياة الديمقراطية. وخلال هذا الاستعمار الجديد، لا مانع أن تقدِم أمريكا على الضغط على قيادتهم الإسلامية – دون مجاملة ولا لين ولا هوادة – ليخلصوا شعوبهم من المعتقدات الإسلامية الفاسدة؛ ولذلك يجب تضييق الخناق على هذه الشعوب ومحاصرتها واستثمار التناقضات العرقية والعصبيات القبلية والطائفية فيها، قبل أن تغزو أمريكا وأوروبا لتدمِّر الحضارة فيها».
تفاصيل المشرع لتفتيت العالم الإسلامي «لبرنارد لويس»:
يقوم مشروع برنارد لويس على تقسيم المنطقة طبقًا لخطوط عرقية وطائفية ولغوية، فحسب مشروعه تقسَّم مصر إلى أربع دويلات، والسودان أيضًا إلى أربع، وتضاف إلى دول شمال أفريقيا بعد تفكيكها دولة البربر ودولة البوليساريو.
وتُقسَّم الجزيرة العربية بعد إلغاء دولها القائمة إلى ثلاث دول: الأحساء (الشيعية)، ودويلة نجد ودويلة الحجاز (السنِّيتين). وأما العراق فيُقسَّم إلى ثلاثة دول، وسوريا إلى أربع دويلات، ولبنان إلى ثمانية كنتونات، وإيران وأفغانستان والباكستان فتقسَّم إلى عشرة كيانات ضعيفة، أما الأردن فيكون وطنًا بديلًا للفلسطينيين.
واللافت في خطة برنارد أنها لا تكتفي بخرائط صمَّاء تستغل الصراعات الطائفية والعرقية؛ لكنَّها اشتملت أيضًا على إشعال تسع حروب في المنطقة، والعاشرة حرب البلقان في أوروبا، والتي توقَّع أن تمتدَّ لشرق البحر المتوسط… تلك الحروب ستسرِّع عجلة تقسيم المنطقة، وبعد التقسيم تنشب حرب أخرى كبرى عربية – إيرانية بمجرد هيمنة إيران على الدويلة العراقية (الشيعية).
خرائط رالف بيترز( Blood Borders) «الشرق الأوسط الكبير» 2006م:
بدأ تداول مصطلح «الشرق الأوسط الكبير» في الميدان السياسي لأول مرة في تل أبيب، على لسان كونداليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة في حزيران عام 2006م. التعبير الجديد هذا، والذي استخدمته الإدارة الأمريكية يهدف إلى إحداث عملية تغيير شاملة لمنطقة «الشرق الأوسط»، ويمكن تشبيهها بالعملية الجراحية الصعبة (الفوضى الخلَّاقة)، وأيضًا رسم خارطة «الشرق الأوسط» من جديد لتحقيق الأهداف الأمريكية؛ فيتحقَّق لها الاستقرار والسيطرة على منطقة الشرق الأوسط وخيراته، وفي مقدمتها النفط. وفي شهر حزيران من العام ذاته، كتب الخبير العسكري الاستراتيجي الأمريكي، ونائب رئيس الأركان للاستخبارات العسكرية الأمريكي السابق «رالف بيترز» مقالة بعنوان: «حدود الدم: كيف سيبدو «الشرق الأوسط» بحالته الأفضل؟» نشرت في العدد السادس من المجلة العسكرية الأمريكية (Armed Forces Journal) تضمَّنت خريطة جديدة للمنطقة مُفصَّلة على أساس عرقي ومذهبي. على ضوء هذه القاعدة تفترض خريطة «الشرق الأوسط الجديد» في خطوطها العريضة:
– تجاوز التقاليد السياسية والمحرَّمات السابقة عبر إقامة دولة كردية تُقتطع لها مناطق من شمال العراق، وجنوب شرق تركيا، وأجزاء من سورية وإيران.
– تقسيم ما تبقَّى من العراق إلى دولتين (شيعية) و(سنّية)، ويضاف إلى الدولة (الشيعية) مناطق من غرب إيران ومن شرق السعودية، والتي بدورها تُقتطَع منها المناطق الغربية المحاذية للبحر الأحمر، والتي تضمُّ الأماكن المقدسة في مكة والمدينة في دولة مستقلة تكون شبيهة بالفاتيكان.
– بالإضافة إلى ذلك، يتمُّ ضمُّ جزء من مناطق السعودية الشمالية الغربية إلى الأردن. كل ذلك تتمُّ الدعاية له وتسويقه عبر محاولة دفع (إسرائيل) إلى العودة إلى حدود ما قبل 1967م مع إدخال تعديلات حدودية تنسجم مع مخاوفها الأمنية بحسب مشروع رالف بيترز.
… وعلى الرغم من الادِّعاء بأن خريطة «بيترز» «للشرق الأوسط الجديد» لا تعكس وجهة نظر وزارة الدفاع الأمريكية، إلا أنها درِّست في منهج التخطيط الاستراتيجي في كلية ضباط الناتو العليا في روما، بالطبع بعد أن أجازتها الأكاديمية العسكرية الأمريكية التي يعمل بها «رالف بيترز»، بعد تقاعده من عمله في مكتب نائب رئيس هيئة الأركان لشؤون الاستخبارات في وزارة الدفاع. وقد أثار عرض خريطة «بيترز» في كلية الناتو العسكرية حفيظة تركيا التي اندهش ضباطها أثناء دراستهم فيها من رؤية بلادهم وقد تغيَّرت حدودها الحالية، ما دفع رئيس أركان الجيش التركي السابق «يشار بيو كانت” إلى الاتصال بنظيره الأمريكي معربًا له عن احتجاجه على عرض هذه الخريطة «المشوَّهة» «للشرق الأوسط»(RT Arabic)
بالمقابل، لم تتوقَّف الخطوات الأمريكية لتسويق مشروع تقسيم «الشرق الأوسط» عند هذا الحد؛ إذ إن مجلس الشيوخ الأمريكي بادر في أيلول/2007م إلى إصدار قرار غير ملزم دفع به، وعمل على إنجاحه «جو بايدن» عندما كان نائبًا للرئيس أوباما، يطالب الإدارة الأمريكية بتقسيم العراق إلى ثلاث مناطق اتحادية (شيعية) و(سنّية) و(كردية). ويؤكد بيترز أن الحرب وحمَّامات الدم في خضم إعادة تقسيم «الشرق الأوسط» لا يمكن تفاديها؛ لأن العدالة تتطلب ذلك.
وبحسب رالف بيترز، فهو يبيِّن أن التقسيمات ليست على أساس خرائط معدَّة مسبقًا، بل أُعدَّت على أساس وقائع ديموغرافية (الدين، القومية، والمذهبية) ولأن إعادة تصحيح الحدود الدولية يتطلَّب توافقًا لإرادات الشعوب التي قد تكون مستحيلة في الوقت الراهن. ولضيق الوقت لا بد من سفك الدماء للوصول إلى هذه الغاية التي يجب أن تستغل من قبل الإدارة الأمريكية وحلفائها. ويفترض أن (إسرائيل) لا يمكنها العيش مع جيرانها؛ ولهذا جاء الفصل عن جيرانها العرب؛ ولذا فإن الطوائف المتباينة التي لا يمكن التعايش فيما بينها من الممكن تجمُّعها بكيان سياسي واحد.
خريطة أتلانتيك 2008م:
في العام التالي لنشر (حدود الدم)، بدأ «جيفري جولدبرج» (إسرائيلي أمريكي، وأحد أبرز شخصيات اللوبي الصهيوني في أمريكا، وهو من المنتمين لنفس جناح «رالف بيترز» داخل أروقة السياسة الأمريكية…) في كتابة سلسلة مقالات ترسم خريطة جديدة «للشرق الأوسط»، على صفحات مجلة (أتلانتيك) الشهيرة، حدث هذا بالتزامن مع إقرار مجلس الشيوخ الأمريكي خطة لتقسيم العراق، مما يجزم بأنها حملة منظَّمة (… وامتدت الخريطة هذه المرة لعمق أفريقيا بتقسيم الصومال، وحسب « جولدبرج» إعطاء الشيعة في لبنان دولة (شيعية) مستقلة، واصطناع دولة درزية في شمال الأردن وجنوب سوريا. ولأول مرة دولة السودان الجديدة في جنوب السودان، والتي تأسَّست بعد أربع سنوات، وسيناء دولة مستقلة)
خريطة (صحيفة «نيويورك تايمز) 2013م:
(نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية خريطة جديدة تظهر تقسيم خمس دول في الشرق الأوسط إلى 14 دولة. وهذه الدول هي: سوريا إلى ثلاثة، والسعودية إلى خمسة، وليبيا إلى دولتين: طرابلس وطبرق، وقد تصبح ثلاثة بانضمام دولة فزان في الجنوب الغربي، واليمن إلى دولتين).
خرائط الدولة – المدينة :
تمَّ عرض أطروحات أخرى لتقسيم المنطقة عبر مراكز الدراسات الاستراتيجية ومنابر الصحافة العالمية. ففي مقال للنيويورك تايمز، فإنه خلال الفترة من (2014 – 2016)م، تم طرح فكرة (الدولة – المدينة) باستقلال مدن في «الشرق الأوسط» خلال العقود المقبلة منها: «القدس، الحجاز، دبي، بغداد، مصراته، جبل الدروز»، كلها مدن مرشحة للاستقلال بذاتها كدويلات ذات طابع خاص.
مناقشة الخطط المختلفة والخرائط المقترحة
إن المتابع لأحوال المنطقة والناظر للخرائط المقدمة يجد أنها تشترك في أمور وتختلف في أمور أخرى؛ ولكن الوقائع على الأرض تبيِّن ما نُفِّذ منها وما يجري تنفيذه، وإن بحور الدم التي أريقت في المنطقة ضمن مخطط حدود الدم وغيره من المخططات التي تُعيد تفتيت العالم الإسلامي إلى مجموعة من الكانتونات والدويلات العرقية والقبلية والمذهبية والطائفية، تكشف حقيقة الاستراتيجية الأمريكية والغربية في منطقة الشرق الأوسط، وأن هذه الخطط أنتجت صراعات وحروبًا وحالات استقطاب طائفية ومذهبية وعرقية وقبلية، كمقدمة للتقسيم أو تحويل الدول إلى دول ضعيفة لتبقى تحت الوصاية الاستعمارية. وأيضًا فإن الناظر إلى جميع الخرائط المنشورة يجد أنها متَّفقة على تفتيت دول المنطقة مع اختلاف في الرؤى والتفاصيل؛ ولكن معظم هذه الخطط حين تذكر كيان يهود تتَّفق على المحافظة عليه، وتحقيق أمنه واستقراره.
إنهاك الدول وإضعافها مقدمة لتقسيمها
من أجل تنفيذ الخطط الجديدة للتقسيم ورسم الخرائط على الأرض، أُشعلت حروب وأثيرت النعرات الطائفية والمذهبية والعرقية الـَمقيتة في كل المنطقة، وجرى إضعاف الدول وإنهاكها؛ وذلك كمقدمة للتقسيم أو إبقائها تحت الوصاية الاستعمارية؛ ولتسهيل هذه المهمة اعتُمد على أسلوب التقسيم بحكم الواقع (defacto partition) وإيجاد نماذج تقود إلى التقسيم الفعلي في هذه الدول.
النموذج الأول:
الدولة الفاشلة (failed states) أو الدولة الهشَّة (states fragile )
هذان المصطلحان يهدِّدان دولًا مثل سوريا واليمن وليبيا والعراق، ويحدث هذا النوع من التقسيم عندما تطول فترة الانفصال، ويتحوَّل المؤقت إلى دائم؛ فينتج عنه التقسيم الجغرافي الناتج عن الحروب الناتجة عن إذكاء النعرات الطائفية والعرقية والمذهبية؛ ما يؤدي إلى تشكل هويات واقتصادات جديدة تصبح فيما بعد عائقًا أمام الوحدة، فتصبح الدولة مقسَّمة بنيويًا على أرض الواقع؛ ولكنها تبقى دولة بالشكل فقط، فاقدة لمقومات الدولة بحكم هذا الانقسام.
النموذج الثاني: الدولة الفيدرالية
وهو نموذج قائم على أنقاض الدولة المركزية، ونموذج العراق أكبر شاهد عليه كيف يعمل على تقسيمه إلى ثلاث دول، وهذا النموذج يمكن تعميمه على مناطق أخرى في بلاد المسلمين مثل السودان وغيرها من الدول.
النموذج الثالث: أشباه الدول .
وهي أن تفقد الدولة مقوماتها الأساسية؛ فتفقد القدرة على العيش والبقاء؛ فتصبح معتمدة على غيرها فاقدة للإرادة والقرار، وهو ما يميِّز الدول ذات السيادة، وتعتمد على المساعدات الدولية التي تجعل إرادتها مرهونة، ويكون التدخُّل في شؤونها وإذكاء الصراعات داخلها سهل على هذه الدول المتحكِّمة (الاستعمارية) ومنظماتها الدولية.
يقول أستاذ العلوم السياسية روبرت جاكسون الذي درس نشوء الدول في العالم الثالث بعد الحرب العالمية الثانية عن أشباه الدول: «وهي التي تفرض حكوماتها السيطرة على حدودها؛ ولكنها تفتقد للقدرة التشغيلية للدولة، وتعتمد على المساعدات التي تأتيها من المجموعة الدولية، مثل مصر في الوقت الحالي على سبيل المثال لا الحصر».
مواجهة مخطَّطات التقسيم
للخروج من الحالة التي ترزح تحتها الأمة اليوم، ولإنهاء حالة التشرذم والانقسام، ومن أجل توحيد الأمة (شعوبها وأعراقها ومذاهبها) والابتعاد عمَّا يفرقها، ولجمع الشعوب في بلاد المسلمين تحت ظلِّ سلطان الإسلام وحكمه، وكذلك لإزالة الحدود المصطَنعة التي رسمت بقلم الاستعمار الإنجليزي والفرنسي، وحتى تنعتق الأمة من الاستعمار وتملك إرادتها وسلطانها نقول الآتي:
1- يجب على الأمة أن تعيَ ما يخطَّط لها، وأن تعيَ حجم المخطَّطات التي تحاكُ ضدها؛ فتفوِّتُ الفرصة على أعدائها الكفار المستعمرين.
2- يجب أن تدرك الأمة أن الغرب ينفذ أجنداته عبر وكلائه المحليين من حكام، وسياسيين، وأحزاب، وشخصيات مأجورة، فلا تنخدع بهم، بل تتصدَّى لهم.
3- يجب نبذُ الأفكار الهدَّامة التي استخدمها الكفار المستعمرون في حربهم على الإسلام والمسلمين من القومية والوطنية والطائفية والمذهبية الـَمقيتة التي تعمي صاحبها عن الحق وتجعله سهمًا في كنانة أعدائه.
4- يجب أن يرسخ في الأمة معنى الأخوة التي تفرضها العقيدة على معتنقيها، قال تعالى: ( إِنَّمَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ إِخۡوَةٞ فَأَصۡلِحُواْ بَيۡنَ أَخَوَيۡكُمۡۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُرۡحَمُونَ ١٠ ) [الحجرات: 10] فهي التي تجعل المسلمين على اختلاف أعراقهم ومذاهبهم الإسلامية أمة واحدة من دون الناس وتجعلهم يدًا واحدة على من سواهم.
5- يجب أن يرسخ مفهوم الذِّمة في الإسلام، ويبيَّن للطوائف المختلفة التي تعيش في بلاد المسلمين أنهم مصانو الدماء والأموال والأعراض، وأنهم والمسلمون جميعًا يحملون التابعية الإسلامية، فيُحكمون بالعدل والإنصاف، ويتمتعون بالأمن والأمان، وأن الغرب بمخطَّطاته هذه يستهدفهم كما يستهدف المسلمين، وهذه المخطَّطات تشكل خطرًا عليهم، ولا بد لهم من مجابهته.
6- يجب أن يبيَّن للأمة أن عوامل وحدتها إذا رجعت لدينها أكثر من عوامل فرقتها. فالأمة دينها واحد، وعقيدتها واحدة، وإرثها الثقافي والتشريعي واحد، وتاريخها واحد، وعدوُّها واحد، وبلادها كان يجمعها دولة واحدة قرابة ثلاثة عشر قرنًا من الزمان؛ فتفرقها هو الأمر الغريب والمستهجن وليس وحدتها.
7- يجب أن يبيَّن للأمة أن الإسلام نجح في سنوات قليلة من أن يصهر شعوبًا كثيرة متباينة القوميات والأديان واللغة والثقافة والقوانين والعادات والتقاليد؛ فجعلها أمة واحدة موحَّدة الدين واللغة والثقافة والقوانين، فكيف بأمة الإسلام اليوم وهي تملك الكثير من عوامل الوحدة كما بيَّنا آنفًا، فستكون وحدتها أسرع من رد الطرف، بعون الله.
الخاتمة
إن كثرة الخرائط والخطط التي يعكف على إعدادها الغرب، وعلى رأسه أمريكا، من أجل السيطرة على بلاد المسلمين واستعمارها، والحيلولة دون عودة الخلافة وتوحيد بلاد المسلمين في دولة واحدة… توجب على الثلة الواعية في الأمة كشف هذه الخطط الخبيثة، والتصدِّي لها ومجابهتها وحشد طاقات الأمة من أجل إحباطها.
ومن جهة أخرى يجب الإيمان بأن مكر الكفار مهما عظم فهو لا شيء أمام مكر الله جلَّ في علاه، قال تعالى: (وَقَدۡ مَكَرُواْ مَكۡرَهُمۡ وَعِندَ ٱللَّهِ مَكۡرُهُمۡ وَإِن كَانَ مَكۡرُهُمۡ لِتَزُولَ مِنۡهُ ٱلۡجِبَالُ ٤٦) وقال الله عزَّ وجلَّ: (وَإِذۡ يَمۡكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثۡبِتُوكَ أَوۡ يَقۡتُلُوكَ أَوۡ يُخۡرِجُوكَۚ وَيَمۡكُرُونَ وَيَمۡكُرُ ٱللَّهُۖ وَٱللَّهُ خَيۡرُ ٱلۡمَٰكِرِينَ ٣٠) [سورة الأنفال: 30] والإيمان بأن العقبات والصعوبات وحدود الدم التي عمل الكافر على إيجادها لن تمنع الأمة والثلة الواعية فيها من تحقيق عودة الإسلام للحياة عن طريق إقامة الخلافة، ومن توحيد بلاد المسلمين في دولة واحدة، ولن يفتَّ في عضُد الذين يدفعون عجلة التغيير من المضي قدمًا لتحقيق الغاية المنشودة، بالرغم من العراقيل والعقبات والصعوبات، وبالرغم من الدماء والأشلاء، متوكِّلين على الله سبحانه القوي العزيز، قال تعالى: ( ٱلَّذِينَ أُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِم بِغَيۡرِ حَقٍّ إِلَّآ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُۗ وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّهُدِّمَتۡ صَوَٰمِعُ وَبِيَعٞ وَصَلَوَٰتٞ وَمَسَٰجِدُ يُذۡكَرُ فِيهَا ٱسۡمُ ٱللَّهِ كَثِيرٗاۗ وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ٤٠ ).
إن حالات تفرُّق الأمة وانقسامها وتشرذمها والصراعات والحروب، وحالات الاستقطاب… ستنتهي بإذن الله عزَّ وجلَّ عندما يأذن الله بنصره، فتحرِّك العقيدةُ الأمةَ من جديد فتصبح خلقًا جديدًا تقتلع الجبال، فتجتمع على الحكم بالإسلام، وإقامة الخلافة؛ فتوحد بلادها وشعوبها في دولة واحدة، وتستظلُّ براية واحدة: راية لا إله إلا الله محمد رسول الله، تقاتل بها أعداء الله، فتحرِّر البلاد والعباد، وتفتح الفتوح من جديد، مصداقًا لقوله تعالى: (وَإِن يُرِيدُوٓاْ أَن يَخۡدَعُوكَ فَإِنَّ حَسۡبَكَ ٱللَّهُۚ هُوَ ٱلَّذِيٓ أَيَّدَكَ بِنَصۡرِهِۦ وَبِٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٦٢ وَأَلَّفَ بَيۡنَ قُلُوبِهِمۡۚ لَوۡ أَنفَقۡتَ مَا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا مَّآ أَلَّفۡتَ بَيۡنَ قُلُوبِهِمۡ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ أَلَّفَ بَيۡنَهُمۡۚ إِنَّهُۥ عَزِيزٌ حَكِيمٞ ٦٣ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ حَسۡبُكَ ٱللَّهُ وَمَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ٦٤)وقال تعالى: (هُوَ ٱلَّذِيٓ أَرۡسَلَ رَسُولَهُۥ بِٱلۡهُدَىٰ وَدِينِ ٱلۡحَقِّ لِيُظۡهِرَهُۥ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِۦۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيدٗا ٢٨).
إن دولة الخلافة الراشدة الثانية ستجتمع الأمة، بإذن الله القوي العزيز، في كنفها من جديد، وستبذل الأمة، إذا ما منَّ الله عليها بها، الغالي والنفيس حفاظًا عليها لأنها تطبِّق الإسلام، وتحكم بين الرعية بالعدل والقسط؛ فينعم من استظلَّ تحت حكمها بالحياة الطيبة وبالعدل والأمن والإيمان.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكًا عاضًا فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكًا جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت» رواه أحمد، والحديث صححه الألباني في السلسلة الصحيحة، وحسنه الأرناؤوط.
وفي الختام، يمكننا القول إن عملية التغيير أصبحت حالة مستمرة ومتصاعدة في الأمة، وتؤذن بأننا نعيش المرحلة الأخيرة للحكم الجبري وانهيار النظم السياسية العفنة، وإن الأمة لديها مشروع حضاري تسير لإيجاده بخطى ثابتة وعزيمة لا تلين؛ حتى ينفجر ينبوع الحياة من جديد، وحتى يبزغ الفجر بعد ليل بهيم، وكلنا رجاء من الله سبحانه أن لا يطول هذا المخاض، وأن يزول الألم بنصرٍ مؤزَّرٍ، خلافة على منهاج النبوة، وما ذلك على الله بعزيز.
2021-04-14