أزمةُ الثورات مرحلية عابرة، وستحقق أهدافها قريبًا الثورة التونسية نموذجًا
2021/04/14م
المقالات
1,640 زيارة
حمد طبيب – بيت المقدس
إنه من الخطأ الكبير أن نقول ونردّد خلف عملاء الاستعمار إن الثورات قد فشلت وأخفقت ولم تحقق أهدافها، وإن الشعوب قد اتَّجهت في طريق أخطأت فيه المسير؛ أي أخطأت في ثورتها ضد الظلم والظالمين من الحكَّام وحواشيهم وحرَّاسهم. هذا معناه أن الشعوب لا يجوز لها أن تنتفض، ولا أن ترفع صوتها بالنقد، ولا بالوقوف في وجه الظلم، ومعناه أنها يجب أن تُذبح ألف مرة، ولا تتحرك، ولا تنتفض حتى انتفاضة المذبوح!!
فانتفاضة الشعوب وثورتها؛ هي التعبير الأوّلي الغريزي ضد الظلم، وضد القهر، وضد الاستعباد بأبشع صوره. فحتى البهائم العجماء إذا ظلمْتَها أو اضطهدْتَها؛ فإنها تعبِّر عن ذلك بحركة أو هُروبٍ، أو غير ذلك من أساليب غريزية، فكيف بالشعوب التي أكرمها الله عز وجل بالعقل؟! وكيف إذا كانت هذه الشعوب مسلمة لها كرامتها وحريتها وعزّتها؟! إن حركة الشعوب في الثورة والانتفاضة هي حركة أوَّلية صحيحة وطبيعية، وإذا لم تحصل فلا فرق بينها وبين الجماد – لا أقول البهائم العجماء – ولكن الخطأ ليس في الثورات أو الانتفاضات، إنما الخطأ الفادح هو في الاقتصار على ذلك فقط؛ أي الاقتصار على الثورة والانتفاضة فحسب دون مشروعٍ حضاريّ، ودون قيادات مخلصة تنقاد الأمة خلفها بموجب هذا المشروع الحضاري. فالضابط والضمانة لعدم ضياع الجهود، وسرقة الدماء لأية ثورة في العالم هو: أولًا: ضابطٌ حضاري؛ يحمله أناس منضبطون بالفكر النابع من حضارتهم. وثانيًا: أناسٌ مخلصون يقودون الناس بهذه الحضارة، ويحملون همّهم ومشاكلهم، ويحاولون جاهدين تخليصهم من الظلم؛ انطلاقًا من فكرها النابع من حضارتها. بمعنى آخر: وعي الجماهير على دينها (عقيدتها وأحكام شريعتها) ووعيها على كل ما يخالف ذلك أو يحُول دونه أو يقف في طريقه، ووعيها على المخلصين من أبنائها ممن يحملون فكرها النقي الصافي، ووعيهم أيضًا على كل المخططات الخبيثة الماكرة الهادفة إلى صرف الشعوب عن أهدافها السامية في التحرر والانعتاق من ربقة الاستعمار، وانقيادها لهؤلاء المخلصين ممن يحملون همَّها وحضارتها، والتفافها حولهم. وبهذا فقط، فإن الأمة لا تضيع جهودها أبدًا، ولا تُسرق من بين أيديها بسهولة، ضمن مخططات المكر والخديعة، كما هو حاصل اليوم بثورات الشعوب في بلاد المسلمين.
إن تخصيص الحديث عن تونس في موضوع الأزمات المتعدِّدة والمتجدِّدة لا يعني أن هذه الأزمات تتعلَّق بتونس وحدها، بل إن سبب التخصيص هو أن الكثير من الناس يعتقد أن النموذج التونسي الثوري قد نجح وحقَّق أهدافه المنشودة، وأنه يسير في الطريق الصحيح (ضمن ما يسمى بالنموذج الديمقراطي التونسي) وأن على باقي البلاد التي خاضت الثورات أن تقتدي به وتحذو حذوه؛ في النظام الديمقراطي، والانتخابات والبرلمان، والنظام الدستوري؛ ولكن الحقيقة التي تغيب عن أذهان الكثيرين هي أن البلاد الإسلامية التي خاضت الثورات تعاني ما تعانيه تونس؛ من ظلمٍ وإخفاقات متتابعة متعدِّدة ومتجدِّدة، سواء أكان ذلك في المجال السياسي، أم الاقتصادي، أم القضائي، أم ما يتعلق بالحريات التي يتحدَّثون عنها باستمرار. وقد يدور في خلد البعض أن السبب في ذلك هو طبيعة الثورات، أو القائمون عليها كأشخاص؛ ولكن الحقيقة هي أن الأمر لا يتعلق بهذا ولا بذاك، بل إن السبب في تأخُّرِ تحقُّقِ الأهداف – ولا أقول فشل الثورات – هو أن هذه الثورات قد أُحيطت بقيود من الحديد والنار، وأُحيطت بالأكاذيب والتضليلات، وأدخل عليها ما ليس منها من عملاء الحكام، وأُشغلت عن الأهداف العليا السامية (الحضارية) بأهداف جانبية لا تسمن ولا تغني من جوع، مثل الانتخابات، وتعدّد الأحزاب، والصراعات السياسية المرتبطة بذلك؛ حتى أصبحت الانتخابات في كل البلاد الثائرة، والمنتفِضة ألهيةً، وستارةً، وصارفةً؛ تصرف الناس عن الأهداف العليا إلى أهدافٍ وغاياتٍ تضليلية لا تسمن ولا تغني من جوع!!
فالموضوع التونسي كمثال حيّ وواقعي عملي لهذا الأمر، ليست مشكلته اقتصادية، ولا دستورية تتعلق بالبرلمان والتمثيل وعدد المرشحين لهذا الحزب أو ذاك، كما يدَّعي البعض، أو كما يقولون إن الحل في تونس هو إصلاح الاقتصاد، أو الدخول في انتخابات تتلوها انتخابات، ثم انتخابات بعدها. وليس أيضًا في ترتيب الأمور تحت قبة البرلمان ضمن الفساد الموجود، وضمن الصراعات والمناكفات والمنافسات على كرسي ملتصق بالأبهة، أو حب الظهور، أو الطمع في مناصب ذاتية لخدمة الذات، فهذا كله يزيد الأمور تعقيدًا والأزمة تولِّد أزمات متجدّدة ومتفاقمة، وكل أزمة تستجدّ هي أكبر من سابقتها.
إن الواقع وما يحصل داخل تونس أو في غيره من بلاد المسلمين يدلِّل بشكل قطعي لا شكَّ ولا لبس فيه أن ما يجري داخل البرلمان، أو خارجه من سياسات ضالَّة مضِلَّة إنما هي لصرف الناس عن الهدف الصحيح، وإشغالهم عن المخلصين من أبنائهم، بمن هم من ذيول الاستعمار. وبمعنى أدقّ: هو صرفٌ للأمة عن مشروعها الحضاري العظيم (في ظل حكم الإسلام)، والذي به حُلَّتْ جميع مشاكلها ومشاكل العالم أجمع سابقًا، وبه سادت العالم بلا منازع وأصبحت الدولة الأولى في الأرض.
لقد جرّب الشعب في تونس الانتخابات الرئاسية أكثر من مرة منذ سنة 2011م، أي من بداية الثورة حتى يومنا هذا سنة 2021م، خلال عشر سنوات مضت، وجرَّب الانتخابات النيابية أو البرلمانية كذلك أكثر من مرة. واليوم يتطاحن أعضاء هذا البرلمان، ويتصارعون، ويدورون في دائرة مفرغة ليس لها أي علاقة بمشاكل تونس؛ سواء منها الاقتصادية أم الأمنية، أم الحريات السياسية، أم ترتيب الأمور بين الناس وسيادة الإخاء والمودَّة.
إن تونس بلدٌ إسلامي له عراقة وتاريخ، وشعبه مسلم يحب دينه، ويحب تاريخه، ولو خُيِّر بين دينه وغيره لاختار دينه، فما المانع إذًا الذي يحول بين أهل تونس، وبين تطبيق دينهم عمليّاً في الدولة والمجتمع؟!
إن المانع الذي يمنع أهل تونس وغيرهم من المسلمين، من تطبيق مشروعهم الحضاري (حكم الإسلام) ضمن كيان سياسي، هو الاستعمار، وعملاء الاستعمار، من الأوساط السياسية الفاشلة العفنة. وهذا ما نطق به أكثر من مسؤول غربي في فترة الثورات وقبلها، ونطق به كذلك أكثر من مسؤول في البلاد الإسلامية؛ حيث صرح وزير الداخلية البريطاني الأسبق تشارلز كلارك في كلمة له في معهد هيرتيج في سنة 2005م فقال: «لا يمكن أن تكون هناك مفاوضات حول إعادة دولة الخلافة، ولا مجال للنقاش حول تطبيق الشريعة الإسلامية». أما جورج بوش الابن فقال في تصريح صحفي سنة 2006م: «إن المتطرفين المسلمين يريدون نشر أيديولوجية الخلافة التي لا تعترف بالليبرالية، ولا بالحريات… ولهذا يريدون لنا أن نرحل، ولكننا باقون حتى لا نندم، وليعلم الشعب الأمريكي حينئذ أن وجودنا في العراق كان يستحق المغامرة والرهان» وقال رئيس وزراء بريطانيا الأسبق توني بلير يوم 16/7/2005م: «إننا نجابه حركة تسعى إلى إزالة دولة (إسرائيل)، وإلى إخراج الغرب من العالم الإسلامي، وإلى إقامة دولة إسلامية واحدة تحكّم الشريعة الإسلامية في العالم الإسلامي عن طريق إقامة الخلافة لكل الأمة الإسلامية».
وفي ظل الثورات، صرَّح أوباما الرئيس الأمريكي الأسبق لصحيفة نيويورك تايمز في 8/8/2014م: «لن نسمح لهم (أي للثورات) بإقامة خلافة بصورة ما في سوريا والعراق». أما وزير الخارجية السوري وليد المعلم فقد حذَّر الغرب في مقابلة تلفزيونية سنة 2013م من سعي بعض القائمين على الثورة السورية من إقامة خلافة إسلامية فقال: «إذا سقط بشار الأسد فسوف تعود الخلافة الإسلامية في سوريا».
إن الأمر الطيِّب الذي يبشر بالخير في موضوع الثورات في تونس على وجه الخصوص، وفي كل بلاد المسلمين على وجه العموم، هو أن الشعوب في بلاد المسلمين قد صارت تدرك شيئًا فشيئًا أن كل ما مرَّت به من تجارب هو زيف وتضليلٌ وانحدارٌ نحو الأسفل، وأن كل ما مضى من تجارب قد زادها يقينًا أن مشكلتها ليست دستورية، ولا في انتخابات رئاسية ولا وزارية، ولا برلمانية، ولا حتى اقتصادية، إنما هي حضارية، وأنها صارت تدرك بأغلبيتها أن كل من خاضوا التجارب السابقة عن قصد أو جهالة لا يستطيعون قيادة الناس ولا الأخذ بأيديهم نحو برّ الأمان، وأن القادر على ذلك هم فقط من تنزَّهوا وابتعدوا عن كل هذه الخزعبلات والضلالات، سواء منها الرئاسية أم البرلمانية أم غيرها. وتمسَّكوا بدينهم (بحضارتهم)، ودعَوا الناس إليها في كل مرة كانت تتنكَّب خُطاهم في تحقيق الأهداف.
إن المرحلة القادمة من مراحل الثورات هي جني ثمرة عشر سنوات مضت؛ وذلك باستنتاج النتائج بعد تفحُّص الأمور تفحُّصًا دقيقًا من جماهير الناس في البلاد الإسلامية، وبعد النظر والتمعُّن فيما فعله من سار في خط الانتخابات والأحزاب المرتبطة بذلك. فالشعوب لم تدرك حقيقة الحكام وعمالتهم وسيرهم في طريق تدمير الشعوب إلا بعد سنوات مرت على التحرُّر والانعتاق من ربقة الاستعمار الأول في أواسط القرن الماضي، وكانت تظنُّ أنها بسيرها خلف هؤلاء القادة، بدون أي مشروع حضاري، أنها ستتحرَّر وتنعتق وتنهض كما نهضت شعوب أخرى في العالم، وإذا بها تنتكس، وتتردَّى وتجد نفسها مرة أخرى في ذيل الاستعمار الذي انعتقت منه عسكريًا! وهذا بالفعل ما يحصل اليوم في مسألة الثورات؛ سواء في تونس أم في غيرها. وقد بدأت الأصوات بالفعل تظهر على السطح؛ تطالب جميع الأحزاب التي خاضت هذه المرحلة بالتنحِّي والابتعاد من طريقها ليتسلَّم قيادتَها أناسٌ من جنس دينها، من جنس فكرها وحضارتها، وليس لهم أي ارتباط بالاستعمار الغربي، ولا بعملائه ممن يوجِّهون بوصلته في بلاد المسلمين في تركيا وقطر والإمارات وغيرها من أذناب الاستعمار.
إن دماء الثورات وجهودها، وإن تأخرت، لن تذهب سدًى ولا هدرًا كما يتصوَّر عملاء الاستعمار والمضبوعون بثقافته، بل إن تأخُّر جني الثمرة هو مرحلة لا بد منها؛ ليميز الله الخبيث من الطيب عبر تجارب وامتحانات تمرُّ بها الشعوب، فتصل الشعوب بعدها عن قناعة ووعي إلى الطريق الصحيح المستقيم.
نعم، إن الشعوب سوف تجني ثمرة دمائها وتعبها، ولن تضيع سدًى، وسوف تكون هذه الدماء والسنوات الماضية من ثورة الأمة هي النور الذي يضيء لها طريقها، ويعرِّفها بالطريق الصحيح، وبمن يحمل همَّها ومشروعها الحضاري العظيم.
فنسأل الله العلي العظيم أن تكون هذه السنوات هي خاتمة المرحلة الحاضرة، وأن تكون الشعوب قد وصلت إلى الوعي التام على حقيقة أمرها، وحقيقة السائرين في مشروعها الحضاري، ليُتوّج ذلك قريبًا بحكم الإسلام في ظل خلافة راشدة على منهاج النبوة، وفي ظل قادة عظام أمثال عقبة بن نافع، وموسى بن نصير، ويوسف بن تاشفين وطارق بن زياد. اللهم آمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
2021-04-14