عظمة التشريع الإسلامي
2021/04/14م
المقالات
2,011 زيارة
د. محمد ملكاوي
يقول نوح فيلدمان في كتابه (انهيار وظهور الدولة الإسلامية): «الدولة الإسلامية في حقيقتها هي دولة شريعة ذات رؤية موجهة بنظام القانون. وتاريخيًا كان دستور الدولة، وهو غير مكتوب كما هو الحال في بريطانيا، يجعل من الدولة الإسلامية دولة قانون. وكان نظام الدولة مبرَّرًا بالقانون، وكانت الدولة تدار بالقانون أي بالشريعة». ويقول فيلدمان أيضًا: «الدعوة لإقامة الدولة الإسلامية هي في واقعها دعوة لإقامة التشريع والقانون الإسلامي. وحين ينظر المسلمون إلى الدول التي تحكمهم يجدون أنها تحكم بقوة السلطان وليس بقوة القانون. في حين إن الدولة الإسلامية المنشودة هي دولة قانون تحكم بالقانون وتوجد تحت ظل القانون».. ويقول فيلدمان كذلك: «كثير من الناس يظنون أن الشريعة في الإسلام لا تعني أكثر من غطاء الرأس للنساء والعقوبات الصارمة. والحقيقة أن الشريعة في الإسلام هي تنظيم شؤون الفرد والمجتمع في جميع مناحي الحياة بناء على قانون يستنبط من القرآن والسنة».
إن الغاية الرئيسية من القانون والدستور وبالتالي التشريع الذي ينتج القانون والدستور هو تحقيق العدل. يقول الله تعالى في محكم كتابه العزيز: (لَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلَنَا بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَأَنزَلۡنَا مَعَهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلۡقِسۡطِۖ). وتحقيق العدل التشريعي يقتضي أركانًا عدة أهمها:
تنزُّه المشرِّع عن الهوى.
العلم المحيط بأحوال الناس.
العلم بالمشكلة التي تقتضي التشريع.
سلطان القانون/التشريع على سلوك الإنسان.
وجميع الشرائع في الدنيا تعمل بشكل أو بآخر على تحقيق هذه الأركان جميعها أو بعضها. وعظمة التشريع الإسلامي تكمن في أن الإسلام يحقق جميع هذه الأركان وبشكل منتظم، بينما تعجز باقي الأنظمة عن تحقيق أي من هذه الأركان على وجه مقبول.
فالدولة المدنية مثلًا التي بشَّر بها جان جاك روسو وفولتير والتي ظهرت بأشكال مختلفة من الديمقراطية، حاولت حل مشكلة النزاهة وانتفاء الهوى في التشريع عن طريق إشراك أكبر عدد من الناس في صياغة القانون أو الأصل الذي يستند إليه القانون، فجعلوا الإرادة الجماعية هي التي يصدر عنها القانون، وهم بذلك ظنوا أن الهوى والميل الذي يصاحب الأفراد من الممكن أن ينتفي أو يقل على أقل تقدير. وقالوا أيضًا إن القانون الذي يصدر عن إرادة الجماعة له السلطان نفسه على كل فرد من أفراد الجماعة؛ لأن إرادة الجماعة هي إرادة كل فرد منهم، وإرادة الفرد على نفسه مضمونة، ما يجعل طاعة القانون والتشريع طبيعية. أما العلم بأحوال الناس، فقد قالوا إن القانون الذي يصدر عن المجموع بالضرورة يحيط بأحوال المجموع، وإن المشكلة التي يعالجها القانون هي واقع محسوس يحصل العلم به من قبل المشرع طبيعيًا.
والحقيقة أن الإرادة الجماعية المسؤولة عن التشريع لا تحقِّق أيًّا من الأركان الأربعة سالفة الذكر. فالواقع العملي يقول إن عملية التشريع عند أرباب الدولة المدنية تنشأ عند شخص أو لجنة تشريع قليلة العدد، وهذه اللجنة هي مجموعة أفراد، لكل فرد منهم إرادته وعلمه وعقله وله عواطفه وهواه وميله. وإذا جمع هؤلاء في لجنة أو مجموعة عمل فإن الهوى لا ينتفي ولكنه يتعدد وتصبح القضية هي التوفيق بين هوى هذا وذاك، وبالتالي فإن الحل الوحيد لإخراج أي قانون أو تشريع هو الحل الوسط والالتقاء عند نقاط التقاء لدى مجموع الأفراد. وانتفاء الهوى والميل يستحيل عند المجموع كما يستحيل عند الفرد. أما استحالته عند الفرد فلأن الفرد لا يمكن أن يتجرد من مشاعره وميوله لأنها جزء منه. واجتماع الأفراد لا ينزع منهم الهوى والميل بل يجعل الهوى والميول أكثر، ما يقتضي عملية التوفيق. ومن هنا فإن التشريع القائم على إرادة الجمهور أو الإرادة الجماعية لا يمكن أن يكون مجردًا عن الهوى والميل، وبالتالي فإن الركن الأول والأهم لتحقيق الغاية من التشريع منتفٍ تمامًا. وليس أدل على ذلك من واقع التشريع الذي نشاهده اليوم في الدول التي تمارس أشكال الديمقراطية المختلفة ولعهود طويلة في أمريكا وأوروبا.
فأمريكا كانت قد أصدرت قانونًا يتعلق بمنع إنتاج وبيع الخمور سنة 1920م، ثم عادت وألغت هذا القانون عام 1933م. وفي الحالتين كان إصدار أو إلغاء القانون حسب ميول ورغبات الأطراف التي شاركت في صياغة القانون. وكذلك قانون حيازة السلاح في أمريكا، فلا يزال القانون خارج إطار التشريع بالرغم من المطالبة به بشكل دائم من جماعات تنادي بحظر ملكية السلاح. ولا تزال شركات إنتاج السلاح وجماعات الضغط التابعة لها قادرة على عدم تمرير القانون، في الوقت الذي تعجز فيه جماعات حقوق الإنسان عن تمرير القانون. وكذلك على مستوى القوانين الدولية التي تصدر عن المنظمات الدولية كالأمم المتحدة ومجلس الأمن، فقضية الميول التي تفرضها الدول الأقوى واضحة. وأكثرها وضوحًا القوانين المتعلقة بمكافحة التلوث والتي لا تزال تمنع أمريكا صدورها بقوتها وعنجهيتها.
أما العلم بأحوال الناس والمشاكل التي تعالجها القوانين الصادرة من لجان التشريع في الدول الديمقراطية، فإنها لا تتعدَّى العلم بالواقع المعاصر للناس، ولا يمكن أن تصل إلى أحوال الناس في المستقبل وكيف يمكن أن تؤول إليه. وكذلك فإن التشريع يعالج الوقائع ولا يعالج الأسباب التي تدفع للوقائع والعمل والسلوك. وبالتالي فإن كثرة التغيُّر والتبدُّل في القانون والتشريعات في الدول التي تحكمها قوانين الديمقراطية أكثر من أن تحصى.
أما سلطان القانون على النفس البشرية فإن ما تسمى الإرادة الجماعية قد ثبت أنها لا سلطان لها على النفس البشرية. فالنفس البشرية لا تخضع بشكل طبيعي لإرادة القانون لكون القانون صدر عن مجموعة تمثل الأفراد. وقانون مكافحة الخمور في أمريكا أثبت بطلان نظرية العقد الاجتماعي برمته؛ حيث ثبت أن تعاطي الخمور والإتجار بها قد زاد في فترة منعه عن الفترة التي سبقته. فأين سلطان القانون على النفس؟ وقد برَّر دعاة منع الخمور بأن الدولة لم تصدر قوانين صارمة بحق المخالفين!!
والقوانين والتشريعات التي كانت تصدر إبان العهد الاشتراكي/الشيوعي في الاتحاد السوفياتي لم تكن أحسن حالًا. ومثلها التشريعات التي تصدر في الدول التي يحكمها أفراد بالقوة العسكرية؛ وتكفي نظرة سريعة إلى قوانين وفرمانات السيسي في مصر ليُعلم تخلّف التشريع في مثل هذه الدول عن تحقيق أي ركن من أركان العدل.
أما التشريع الإسلامي فالأمر مختلف تمامًا؛ فهو يحقق جميع الأركان الضرورية لإنتاج العدل، وهنا تكمن عظمة التشريع في الإسلام.
التنزُّه عن الهوى
إن أهم ركن من أركان تحقيق العدل هو انتفاء الهوى والتنزُّه عن الميل. والتشريع الإسلامي قائم على أن المشرع أي مصدر التشريع الوحيد هو الله تعالى. وقد جاءت آيات كثيرة جدًا تبيِّن وتوضِّح وتركِّز على أن الله تعالى متفرد واحد أحد لا شريك له، ليس له ولد ولا والد، وهو مستغنٍ بنفسه غير محتاج لأحد، حيث إن الهوى والميل يأتي من الولد والوالد والشريك والحاجة والنقص والمحدودية. فالخالق المدبر جل وعلا أحد صمد، لم يلد ولم يولد، وليس له كفوٌ أحد. والله تعالى يقول: (وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلۡحَقُّ أَهۡوَآءَهُمۡ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ وَمَن فِيهِنَّۚ بَلۡ أَتَيۡنَٰهُم بِذِكۡرِهِمۡ فَهُمۡ عَن ذِكۡرِهِم مُّعۡرِضُونَ ٧١ أَمۡ تَسَۡٔلُهُمۡ خَرۡجٗا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيۡرٞۖ وَهُوَ خَيۡرُ ٱلرَّٰزِقِينَ ٧٢).
العلم المطلق
والمشرِّع في الإسلام، وهو الله تعالى، عالم بأحوال الناس، سواء في الحاضر أم الماضي أم المستقبل. يقول الله تعالى: (مَن ذَا ٱلَّذِي يَشۡفَعُ عِندَهُۥٓ إِلَّا بِإِذۡنِهِۦۚ يَعۡلَمُ مَا بَيۡنَ أَيۡدِيهِمۡ وَمَا خَلۡفَهُمۡۖ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيۡءٖ مِّنۡ عِلۡمِهِۦٓ إِلَّا بِمَا شَآءَۚ). وهو عالم الغيب، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض.(عَٰلِمِ ٱلۡغَيۡبِۖ لَا يَعۡزُبُ عَنۡهُ مِثۡقَالُ ذَرَّةٖ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَلَا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَآ أَصۡغَرُ مِن ذَٰلِكَ وَلَآ أَكۡبَرُ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٖ ٣).
فالمشرع الذي لا تغيب عنه شاردة ولا واردة لا يمكن لتشريعه أن يصيبه الخلل بسبب قلة العلم أو الجهل الذي يعتري البشر بسبب نقصهم وعجزهم الطبيعي. وعلم الله تعالى المطلق يشمل علمه بواقع الإنسان وما يصلحه وما لا يصلح له. (وَنَفۡسٖ وَمَا سَوَّىٰهَا ٧ فَأَلۡهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقۡوَىٰهَا ٨ قَدۡ أَفۡلَحَ مَن زَكَّىٰهَا ٩ وَقَدۡ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا ١٠).
السلطان على النفس
إن من أهم أركان التشريع المفضي إلى العدل هو وجود السلطان الطبيعي على النفس البشرية، والذي يجعلها تقبل بالتشريع وتعمل على تنفيذه وتطبيقه بشكل طبيعي، ولا تحتاج إلى قوة السلطان المادي لتنفيذ القانون إلا في حال عدم امتثال بعض النفوس لسلطان القانون الطبيعي. وسلطان التشريع في الإسلام مصدره أن الله تعالى، وهو مصدر التشريع هو رب وإله، ومدبِّر وصاحب الأمر في الدنيا والآخرة، وأنه يحيي ويميت ويرزق بغير حساب. والله تعالى يقول: (لِإِيلَٰفِ قُرَيۡشٍ ١ إِۦلَٰفِهِمۡ رِحۡلَةَ ٱلشِّتَآءِ وَٱلصَّيۡفِ ٢ فَلۡيَعۡبُدُواْ رَبَّ هَٰذَا ٱلۡبَيۡتِ ٣ ٱلَّذِيٓ أَطۡعَمَهُم مِّن جُوعٖ وَءَامَنَهُم مِّنۡ خَوۡفِۢ ٤). ويقول (قُلِ ٱللَّهُمَّ مَٰلِكَ ٱلۡمُلۡكِ تُؤۡتِي ٱلۡمُلۡكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلۡمُلۡكَ مِمَّن تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُۖ بِيَدِكَ ٱلۡخَيۡرُۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ ٢٦ تُولِجُ ٱلَّيۡلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَتُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلَّيۡلِۖ وَتُخۡرِجُ ٱلۡحَيَّ مِنَ ٱلۡمَيِّتِ وَتُخۡرِجُ ٱلۡمَيِّتَ مِنَ ٱلۡحَيِّۖ وَتَرۡزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٖ ٢٧). ويقول تعالى (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيۡنَهُمۡ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَرَجٗا مِّمَّا قَضَيۡتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسۡلِيمٗا ٦٥).
قضايا في التشريع
فلننظر إلى بعض الأمثلة من التشريع الإسلامي التي تُظهر عظمته، ولنبدأ من أكثر القضايا جدلية وهي التي تتعلق بالمرأة وحقوقها.
المرأة في التشريع الإسلامي
نظر المشرِّع في الإسلام على أن المرأة هي نوع إنساني كما هو الرجل، ونظر إليها على أنها أمٌّ تنجب أطفالًا وتقوم بإرضاعهم حتى عامين، وأنها زوجة في أسرة.
أما أنها إنسان ونوع من النوعين الإنساني فواضح من تحديد النوع وتبيينه في كل ما يتعلق بعلاقة الإنسان (ذكرًا أو أنثى) بربه، والذي يجعل للمشرع سلطانًا على نفس المرأة كما له سلطان على نفس الرجل. ومن ذلك قوله تعالى: (مَنۡ عَمِلَ صَٰلِحٗا مِّن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَلَنُحۡيِيَنَّهُۥ حَيَوٰةٗ طَيِّبَةٗۖ وَلَنَجۡزِيَنَّهُمۡ أَجۡرَهُم بِأَحۡسَنِ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ٩٧)، (إِنَّ ٱلۡمُسۡلِمِينَ وَٱلۡمُسۡلِمَٰتِ وَٱلۡمُؤۡمِنِينَ َٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ وَٱلۡقَٰنِتِينَ وَٱلۡقَٰنِتَٰتِ وَٱلصَّٰدِقِينَ وَٱلصَّٰدِقَٰتِ وَٱلصَّٰبِرِينَ وَٱلصَّٰبِرَٰتِ وَٱلۡخَٰشِعِينَ وَٱلۡخَٰشِعَٰتِ وَٱلۡمُتَصَدِّقِينَ وَٱلۡمُتَصَدِّقَٰتِ وَٱلصَّٰٓئِمِينَ وَٱلصَّٰٓئِمَٰتِ وَٱلۡحَٰفِظِينَ فُرُوجَهُمۡ وَٱلۡحَٰفِظَٰتِ وَٱلذَّٰكِرِينَ ٱللَّهَ كَثِيرٗا وَٱلذَّٰكِرَٰتِ أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُم مَّغۡفِرَةٗ وَأَجۡرًا عَظِيمٗا ٥).
والمشرِّع قد جعل علاقة النوعين بعضهما ببعض علاقة زواج، وجعل الغاية من التشريعات المتعلقة بهذه العلاقة منصبة على استمرار النوع الإنساني بشقيه الذكر والأنثى. فجعل الزواج هو محور العلاقة، ومنع كل علاقة تحول دون استمرار النوع من خلال الزواج. فمنع الزنا وكل ما يؤدي أو يقود إليه، فمنع الاختلاط لغير حاجة، وفرض سترًا لمفاتن المرأة التي قد تفسد طريق استمرار النوع من خلال علاقة الزواج، وهكذا تجد جميع التشريعات المتعلقة بالمرأة وعلاقتها بالرجل تقود حتمًا إلى استمرار نوع الإنسان والذي هو غريزة مفطور عليها الرجل كما المرأة. ومن ذلك منع المثلية الجنسية.
أما قضية الميراث التي يطرقها كثير من المشكِّكين في التشريع الإسلامي، فقد جعل الإسلام للمرأة حقا في الميراث؛ بنتًا، وزوجًا، وأمًا، وأختًا أحيانًا. والإسلام حين شرع ميراثًا محددًا للمرأة فإننا نجد أن جميع الشرائع المعروفة في الدنيا لم تجعل نصيبًا محددًا للمرأة في الميراث، وجعلتها خاضعة لإرادة الشخص المورِّث؛ فله أن يعطي وله أن يمنع. ومن ناحية أخرى فإن المشرِّع الإسلامي حين وضع قوانين الإرث نظر إلى قضيتين في آن واحد؛ القضية الأولى: المرأة كجزء من الأسرة وأحد نوعي الإنسان في العلاقة الاجتماعية، فأفرد لها حقًا ونصيبًا في الإرث. والقضية الثانية هي توزيع الثروة ومبحثها في العلاقات الاقتصادية وحل المشكلة الاقتصادية. فقوانين الإرث والميراث هي أحد وسائل توزيع الثروة بشكل طبيعي في المجتمع. والمرأة من هذه الناحية مسؤوليتها في النفقة والإنفاق على الغير أقل من مسؤولية الرجل. وبالتالي فإن توزيع الثروة على الوجه الذي جاء به التشريع الإسلامي قد أخذ بعين الاعتبار المرأة بوصفها الإنساني فأفرد لها نصيبًا من الثروة، وبوصفها جزءًا من النظام الاقتصادي فجعل نصيبها أقل من نصيب الرجل المسؤول عن النفقة… وهنا مظهر عظمة التشريع الإسلامي
التشريع المتعلق بالاقتصاد
من أهم مظاهر عظمة التشريع في الإسلام تلك التشريعات المتعلقة بالاقتصاد والمال. فجميع التشريعات جاءت تعالج قضايا أساسية تتعلق بالإنسان نفسه وبحاجاته وغرائزه ودوافعه للعمل، ولم تأتِ مجرد قوانين تحكم تصرفاته. وجاءت منصبَّة على علاج مشكلة فقر الأفراد حتى لا يبقى فرد في المجتمع مفتقرًا لسد حاجاته الأساسية كالمأكل والمشرب والملبس والمسكن. فحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم «وَأَيُّمَا أَهْلُ عَرْصَةٍ أَصْبَحَ فِيهِمْ امْرُؤٌ جَائِعٌ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُمْ ذِمَّةُ اللَّهِ تَعَالَى» وقوله «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا» يدلُّ على أن الإسلام وتشريعاته جاءت منصبَّة على توفير الأمن والغذاء والكساء واللباس والصحةلكل فرد. وبالتالي فقد جاء التشريع الإسلامي في الناحية الاقتصادية منصبًا على علاج مشكلة أساسية حددها الشرع نفسه. ولتبيين ذلك أكثر نسوق أمثلة من التشريع المتعلِّق بالاقتصاد التي توضِّح كيف أن التشريع جاء منصبَّا على أساس المشكلة الاقتصادية وليس على التصرف الشخصي وواقعة الحال كما هي التشريعات الموجودة في ظل أنظمة الدولة المدنية والديمقراطية.
الملكية العامة وملكية الدولة
بعد أن منَّ الله بالنصر على المسلمين في معركة بدر وغنم المسلمون غنائم كثيرة، برزت للمرة الأولى في الدولة الإسلامية الناشئة قضية الأنفال، وجاء المسلمون يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن توزيع الغنائم. فجاء التشريع على النحو التالي (يَسَۡٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَنفَالِۖ قُلِ ٱلۡأَنفَالُ لِلَّهِ وَٱلرَّسُولِۖ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَصۡلِحُواْ ذَاتَ بَيۡنِكُمۡۖ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ ١)، فبيَّن حقيقة ملكية الأنفال بأنها ملكية للدولة باعتبار الرسول هو الحاكم ورأس الدولة، وترك تفصيل عملية توزيع الغنائم للدولة نفسها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو الرسول وولي الأمر. ثم جاء تشريع آخر في سورة الحشر يتعلق بالغنائم غير المنقولة كالأرض وجعلها ملكية عامة للمسلمين على مدى الزمن، وبين سبب التشريع بأنه الحيلولة دون تجمُّع الثروة بأيدي القلة الأغنياء. فكان التشريع منصبًا على مشكلة توزيع الثروة وعدم حصرها والعمل على تداولها فقال سبحانه: (مَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِيلِ كَيۡ لَا يَكُونَ دُولَةَۢ بَيۡنَ ٱلۡأَغۡنِيَآءِ مِنكُمۡۚ وَمَآ ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمۡ عَنۡهُ فَٱنتَهُواْۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ ٧). ثم أتبع ذلك ليبيِّن أن ملكية الأرض التي ضُمَّت إلى دار الإسلام عن طريق الحرب تعود للأمة الإسلامية جميعًا، وأن الحاكم هو مسؤول عنها بوصفه ولي أمر المسلمين وراعي شؤونهم وليس بوصفه مالكًا لها، قال تعالى: (لِلۡفُقَرَآءِ ٱلۡمُهَٰجِرِينَ ٱلَّذِينَ أُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِمۡ وَأَمۡوَٰلِهِمۡ يَبۡتَغُونَ فَضۡلٗا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَٰنٗا وَيَنصُرُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلصَّٰدِقُونَ ٨ وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلۡإِيمَٰنَ مِن قَبۡلِهِمۡ يُحِبُّونَ مَنۡ هَاجَرَ إِلَيۡهِمۡ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمۡ حَاجَةٗ مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤۡثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ وَلَوۡ كَانَ بِهِمۡ خَصَاصَةٞۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ٩وَٱلَّذِينَ جَآءُو مِنۢ بَعۡدِهِمۡ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱغۡفِرۡ لَنَا وَلِإِخۡوَٰنِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلۡإِيمَٰنِ وَلَا تَجۡعَلۡ فِي قُلُوبِنَا غِلّٗا لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٞ رَّحِيمٌ ١٠). فقد فهم أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أن هذه الآيات قد دلَّت على أن الأرض المملوكة عن طريق الحرب هي للمسلمين كافة، ورفض توزيع أرض السواد على أفراد المسلمين.
وهكذا نجد أن التشريع الإسلامي لم يأتِ منصبًّا على تصرُّف بعينه وإن كان التصرف يدخل ضمن التشريع، بل جاء منصبًّا على قضية أساسية من قضايا الإنسان كالحاجة إلى الطعام والشراب والمسكن والتطبيب، أو على حاجة للمجتمع وقوامه كالملكية العامة التي يشترك بها الناس بوصفهم جزءًا من مجتمع، أو حاجة الدولة بوصفها راعية لشؤون الناس.
الأسرى
ومثل أحكام الغنائم والملكية العامة، كذلك حكم الأسير الناتج عن الحرب. فقد جاء التشريع الإسلامي بحكم يتعلق بالتعامل مع أسرى الحرب بقوله سبحانه: (فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرۡبَ ٱلرِّقَابِ حَتَّىٰٓ إِذَآ أَثۡخَنتُمُوهُمۡ فَشُدُّواْ ٱلۡوَثَاقَ فَإِمَّا مَنَّۢا بَعۡدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلۡحَرۡبُ أَوۡزَارَهَاۚ ذَٰلِكَۖ وَلَوۡ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَٱنتَصَرَ مِنۡهُمۡ وَلَٰكِن لِّيَبۡلُوَاْ بَعۡضَكُم بِبَعۡضٖۗ) فبيَّن الشرع أن الغاية من الحرب ليست إبادة العدو والقضاء على أفراده فردًا فردًا، بل الغاية هي إحراز النصر والتمكُّن، فإذا حصل ذلك النصر الذي عبر عنه بالإثخان، فلا بد من أخذ الأسرى. والأسير في هذه الحالة، إما أن يطلق سراحه دون مقابل (منًّا)، وإما مقابل فدية. فالسبب في أخذ الأسرى ابتداء هو تشريع لغاية الحرب والقتال، وبأن هذه الغاية ليست القضاء على الناس وإبادتهم وحرقهم وإتلاف أرواحهم. وجاءت أحاديث كثيرة تفصل في ذلك منها: «كانَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذَا أَمَّرَ أَمِيرًا علَى جَيْشٍ، أَوْ سَرِيَّةٍ، أَوْصَاهُ في خَاصَّتِهِ بتَقْوَى اللهِ، وَمَن معهُ مِنَ المُسْلِمِينَ خَيْرًا، ثُمَّ قالَ: اغْزُوا باسْمِ اللهِ، في سَبيلِ اللهِ، قَاتِلُوا مَن كَفَرَ باللَّهِ، اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تَمْثُلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا».
الربا والكنز
ومن أعظم ما جاء في التشريع الإسلامي ذلك المتعلق بالربا والكنز. فتحريم الربا قد انصبَّ على تحريم نمو المال من ذات المال. فالمال لا ينمو وحده هكذا بدون إنتاج. والربا وسيلة من وسائل تكثير المال بالمال. فقال تعالى في سورة الروم: (وَمَآ ءَاتَيۡتُم مِّن رِّبٗا لِّيَرۡبُوَاْ فِيٓ أَمۡوَٰلِ ٱلنَّاسِ فَلَا يَرۡبُواْ عِندَ ٱللَّهِۖ وَمَآ ءَاتَيۡتُم مِّن زَكَوٰةٖ تُرِيدُونَ وَجۡهَ ٱللَّهِ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُضۡعِفُونَ ٣٩). ومثل هذا التشريع عالج قضيتين أساسيتين في الاقتصاد؛ إحداها استقرار المال والنقد حتى لا يتضخم المال دون سبب، والثانية ضمان استمرار عجلة الإنتاج؛ لأن الطريقة الوحيدة لنماء المال هي الإنتاج. وفي الوقت نفسه حرَّم كنز المال، أي منع الوسيلة الأخرى التي تعطل الإنتاج في المجتمع وهي كنز المال وإخراجه من دورة الإنتاج.
التشريع المتعلِّق بالحكم
وتظهر عظمة التشريع الإسلامي كذلك في التشريع المتعلِّق بالحكم. فقد انصبَّ التشريع في الحكم على قضيتين أساسيتين؛ أولاهما السيادة، وثانيهما الرعاية. فالسيادة ليست لأي أحد من البشر مهما كانت مرتبته. فالوحيد الذي له حق السيادة الذي لا يرد له تشريع ولا قانون، وله حق الطاعة المطلقة هو الله تعالى. وبالتالي فإن التشريع الإسلامي قد رفع كل أنواع الحصانة والحماية عن أي شخص في الدولة مهما كانت صفته، وليس هناك أحد خارج إطار القانون بما في ذلك الخليفة ومجلس الأمة وغيرهم. قال تعالى: (إِنِ ٱلۡحُكۡمُ إِلَّا لِلَّهِۖ يَقُصُّ ٱلۡحَقَّۖ وَهُوَ خَيۡرُ ٱلۡفَٰصِلِينَ) وقال سبحانه:(مَا تَعۡبُدُونَ مِن دُونِهِۦٓ إِلَّآ أَسۡمَآءٗ سَمَّيۡتُمُوهَآ أَنتُمۡ وَءَابَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلۡطَٰنٍۚ إِنِ ٱلۡحُكۡمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّآ إِيَّاهُۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ٤٠). أما الحاكم فهو راعٍ يرعى الشؤون ويحاسب على هذه الرعاية. فقد قال رسول الله: «الْإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» وعن معقل بن يسار رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ». والحاكم إنما يحكم بشرع الله وينصح لرعيته ويدافع عنهم ويحمي أموالهم. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّمَا الْإِمَامُ جُنَّةٌ يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ وَيُتَّقَى بِهِ، فَإِنْ أَمَرَ بِتَقْوَى اللَّهِ وَعَدَلَ، فَإِنَّ لَهُ بِذَلِكَ أَجْرًا، وَإِنْ أَتَى بِغَيْرِهِ فَعَلَيْهِ إِثْمُهُ». والطاعة لولي الأمر مشروطة بطاعة الله وليست مطلقة في كل شيء. والنزاع بين الحاكم والمحكوم أمر وارد وله طريقة للتعامل معه؛ فلا يؤجل الخصام حتى تنتهي ولاية الحاكم كما هو الحال عند الدول في العالم الديمقراطي، بل يفصل في الخصام دون تأخير، ومن ذلك قوله تعالى: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ فَإِن تَنَٰزَعۡتُمۡ فِي شَيۡءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ ذَٰلِكَ خَيۡرٞ وَأَحۡسَنُ تَأۡوِيلًا ٥٩). فجاءت هذه الآيات لتؤكد على أن أصل التشريع ومصدره هو الله تعالى، وأن الحاكم مستخلَف في هذا الأمر وهو مسؤول أمام الله تعالى ويحاسبه الناس على ذلك. وجاءت كل الأحكام المتعلقة بالعلاقة بين وليِّ الأمر والناس منصبة على هذه الحقائق المتعلقة بالسيادة المطلقة لله تعالى والرعاية التامة للرعية. ومن عظمة التشريع الإسلامي في هذه الناحية أنه لم يكتفِ بتبيين حق السيادة وحق الرعاية، بل عمل على إيجاد آلية واضحة للحفاظ على جوهر الحكم هذا، ومن ذلك الطلب بإنشاء أحزاب سياسية تكون مهمتها محاسبة الحاكم وأطره على الحق أطرًا. ومن ذلك قوله تعالى: (وَلۡتَكُن مِّنكُمۡ أُمَّةٞ يَدۡعُونَ إِلَى ٱلۡخَيۡرِ وَيَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِۚ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ١٠٤). وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كَلاَّ، وَاللَّه لَتَأْمُرُنَّ بالْمعْرُوفِ، وَلَتَنْهوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، ولَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدِ الظَّالِمِ، ولَتَأْطِرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا، ولَتقْصُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ قَصْرًا، أَوْ لَيَضْرِبَنَّ اللَّه بقُلُوبِ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ، ثُمَّ لَيَلْعَنكُمْ كَمَا لَعَنَهُمْ» رواه أبو داود، والترمذي. وعن أبي بكر رضي الله عنه قال: إِني سَمِعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّه بِعِقَابٍ مِنْهُ» رواه أبو داود والترمذي والنسائي بأسانيد صحيحة. فكل هذه التشريعات جاءت تؤكد أن الحاكم، أي وليّ الأمر، ليس إلا راعيًا مسؤولًا عن رعية، ومستخلف في عباد الله، ومؤتمن على شرع الله. فلا يجمع مليارات الدنانير، ولا يصدر القوانين التي تضمن استمرار حكمه وتوريث الحكم من بعده لأبنائه، فالدولة ليست مزرعة له ولأبنائه ومحاسيبه. بل الدولة هي مؤسسة لرعاية شؤون الناس جميعًا حسب تشريع يصدر من صاحب الحق الأوحد بالتشريع الذي لا ينازعه هوى، وليس بينه وبين أحد من عباده نسب ولا قربى.
العقوبات
ومن أعظم ما تميَّز به التشريع الإسلامي هو نظام العقوبات، والذي جاء بمجموعه نظام زواجر للناس عن مخالفة القوانين والتشريعات ونظام جوابر لجبر ما ينكسر بسبب المخالفات. ففي الوقت الذي جاء التشريع متلازمًا مع العقيدة والإيمان بالله تعالى وبربوبيته التي تجعل له الحق الأوحد في التشريع، ما يجعل للتشريع سلطانًا ذاتيًا على النفوس تؤدي إلى الالتزام الطبيعي والذاتي بالأحكام والقوانين، في الوقت نفسه أقر التشريع الإسلامي بوجود المخالفين والذين يفقدون أثر السلطان النفسي ولو مرحليًا، فجاء بتشريعات لزجر هؤلاء عن المخالفة والمعصية ولجبر ما قد ينشأ عن معصيتهم من أذى مادي للغير أو عقاب في الآخرة.
فالمشرع حين أنزل قوانين وأحكامًا تؤدي إلى حفظ غريزة النوع، فشرع الزواج وشرع أحكام اللباس والاختلاط والخلوة وصلة الرحم والنفقة وغيرها؛ مما يحفظ النوع البشري بقوانين محكمة، في الوقت نفسه جاء بتشريع زاجر لكل من يعمل على خرق هذا النظام المحكَم. فجاء بعقوبة الزنا واللواط الصارمة، واشترط لها، أي للعقوبة، ظروفًا محكمة. فالعقوبة صارمة ورادعة وهي في الوقت نفسه جابرة للذنب إن رافقتها التوبة عن المعصية.
والمشرِّع جاء بأحكام وقوانين للمحافظة على الملكيات بأنواعها: ملكية الفرد، وملكية الدولة، والملكية العامة من الناس، وهذه القوانين مكَّنت كل فئة من امتلاك ما يحق لها من ملكيات، ثم جاء الشرع بقوانين صارمة لزجر كل من يعتدي على هذه الملكيات بالاعتداء أو السرقة أو الإفساد؛ فكانت عقوبة السرقة رادعة بالدرجة الأولى ثم هي جابرة للذنب إن كانت العقوبة قد تبعتها توبة للمعتدي؛ ما يحفِّز المعتدي على التوبة وعدم الإقدام على التعدي على حق الآخرين مرة أخرى. ولا يخفى على المتتبع لأحوال المجتمعات الحالية أن السارق يعود ليسرق والقاتل يعود ليقتل، وليس أدل على ذلك من أن أجهزة الأمن حين تواجه بقضية اعتداء فإنهم أول ما يستدعون للتحقيق أصحاب السوابق عندهم. أما في التشريع الإسلامي فآخر ما يتبادر للذهن عن مسبب الجرم هم أصحاب السوابق؛ لأن العقوبة في الإسلام زاجرة وجابرة للذنب، فالمجرم يعلم أن ذنبه مجبور إن هو أقلع عن الجريمة.
وهكذا جميع أحكام العقوبات جاءت مكمِّلة للتشريع المتعلق برعاية شؤون الفرد والجماعة، ولم تأتِ نشازًا ولا عارضًا غير منسجم مع باقي التشريعات. فغريزة البقاء عند الفرد حفظها التشريع الإسلامي بشكل تام، سواء بأحكام توزيع الثروة عن طريق الملكية العامة أم الميراث، أم النفقة، أم العمل أم غيره، ثم حافظ عليها بتشريع عقوبات صارمة لمن يتعدَّى على بقاء الإنسان، سواء بالاعتداء على حياته أم ملكيته. وكذلك غريزة النوع، وغريزة التدين. وهكذا شرع الإسلام قوانين وأحكامًا لعلاج قضية الإنسان الأساسية المتعلقة بحاجاته وغرائزه كما شرع قوانين تمنع الاعتداء على أيٍّ من حقوقه.
خاتمة
إن أحد أهم أسرار انتشار الإسلام في السابق وتوسُّع رقعة الدولة ودخول الناس في الإسلام أفواجًا هو ما لمسه الناس مباشرة من عدالة التشريع الإسلامي. وإن هذا العدل ليس نظريةً تُكتب ولا خطبًا تُلقى ولا كلامَ إنشاء يُتلى في المحافل، بل هو أمر محسوس ملموس يُحسه من عايشه ويدركه من بحث عنه. فهذا رسول كسرى يصف حكم عمر بن الخطاب قائلًا: «حكمتَ فعدلتَ فأمنتَ فنمتَ». ويخاطب رجل من المسلمين عمر سائلًا إياه عن البرود اليمانية لِمَ يلبس عمر ثوبًا أطول من أثواب العامة؟ فيجيبه عمر ويبين له من أين جاءت الزيادة، فيقول الرجل سمعًا وطاعة. ولما فتحت الأمصار، لم يهرب الناس من جيوش المسلمين بل أقبلوا عليهم يرحبون بهم لأن عدلهم قد سبق ذكره خيولَهم، وأصبح عدل التشريع الإسلامي مثلًا واقعًا محسوسًا.
ومن هنا فإن أول ما يحكم على دولة الإسلام ودولة الخلافة الإسلامية من كونها تمثل حقيقة الإسلام أو لا هو ما يلمسه الناس من عدالة التشريع وعظمة التشريع الذي يمارَس على الناس. فالناس لا يعنيهم ما في بطون الكتب وما سطَّره التاريخ عن عمر وأبي بكر والمعتصم والمأمون… إنما يعنيهم ما يصل إليهم من أمن وأمان، ومن إشباع للحاجات، ومن رعاية لشؤون الناس. فنتيجة التشريع الإسلامي وتطبيق أحكام الله عز وجل لا يمكن أن تكون إرهابًا للعامة، ولا فرارًا من جنود الدولة، ولا خوفًا من العقوبات الصارمة، ولا هجرات بالآلاف من الأقليات أو غيرهم. بل إن المظهر الرئيس والطابع الذي يطبع الدولة من أول يوم تظهر فيه هو مظهر الرحمة والعدل والنزاهة الذي تميزت به شريعة الإسلام العظيمة.
وبالتالي فإنه مهما حاول الغرب وأتباعهم من أن ينالوا من الإسلام أو يظهروه بمظهر الفظاعة والرعب والظلم، فإن الإسلام أرقى وأعظم، ولا يزال عصيًا على كل ظالم متجبِّر، أو كافر مستكبر، أو جاهل ذي عقل متحجِّر. قال تعالى: ﴿۞يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ بِٱلۡقِسۡطِ شُهَدَآءَ لِلَّهِ وَلَوۡ عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۡ أَوِ ٱلۡوَٰلِدَيۡنِ وَٱلۡأَقۡرَبِينَۚ إِن يَكُنۡ غَنِيًّا أَوۡ فَقِيرٗا فَٱللَّهُ أَوۡلَىٰ بِهِمَاۖ فَلَا تَتَّبِعُواْ ٱلۡهَوَىٰٓ أَن تَعۡدِلُواْۚ وَإِن تَلۡوُۥٓاْ أَوۡ تُعۡرِضُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٗا ١٣٥﴾.
2021-04-14