شيَّبَتْني هودٌ … فاستقمْ كما أُمِرْتَ (2)
2021/01/21م
المقالات
2,525 زيارة
الدكتور محمد الحوراني -الشام المباركة.
«في عام الحزن» أنزل الله سبحانه وتعالى ثلاث سور تحمل أسماء انياء عليهم الصلاة والسلام وهي سور يونس وهود ويوسف حملت آياتها طابع الفترة المكية من الدعوة،وتجلت معالمها تحدِّي قريش وتصدِّيها وتَعدِّيها عليها. وهي أحرج الفترات وأشقها في تاريخ الدعوة.. وآيات هذه السور قد واكبت الأحداث في هذه الفترة وعالجتها وأكدت على ضرورة سير النبي صلى الله عليه وسلم وفق الطريق التي أمره الله عز وجل أن ينتهجها ، وقد ذكرنا مَعْلَمين من معالمها وهما : أولاّ: الإستقامة على منهاج الله سبب النصر، وثانياّ : إفراغ الوسع في الدعوة . وسنعرض في هذه المقالة باقي المعالم وهي :
ثالثًا: الصبر على الابتلاء
لا يشكُّ عاقل بأن طريق التغيير مفروش بالأشواك والمصاعب التي قد تكون طبيعية أحيانًا وفوق الطبيعية أحيانًا أخرى. وعادة ما يكون الساعون للتغيير في بداية الأمر مستضعَفين قليلي الحيلة؛ لذلك وجب تكتلهم ووجب تثقيفهم بأدبيات مبدأ وتفاصيل مشروعهم للتغيير وإعدادهم الإعداد الفكري والنفسي بل والتنظيمي؛ لأن أنظمة الباطل التي استحكمت من رقاب الناس تمتلك أجهزةً سهر عليها أربابها الليالي، وتعبوا على تنظيمها وحمايتها ورعايتها وتفنَّنوا في ذلك، وجعلوا لها جيوشًا تدافع عنها وتحارب في سبيلها في كل المجالات فضلًا عن تأييد دول الكفر لها ورعايتها؛ لهذا لم تكن يومًا سهلةً مهمةُ دعاة التغيير، وخاصة في بلادنا بعد أن عاث فيها الكافر المستعمر بعد هدم خلافتنا.
وقد يكون من الطبيعي أن يدافع أهل الباطل عن امتيازاتهم ومصالحهم بكل ما أوتوا من قوة، وخاصة أصحاب النفوذ، فهم أول من يتصدى لحاملي لواء التغيير وتكاد تكون هذه سنة الحياة وسنة الناس منذ أن خلق الله الأرض ومن عليها. فقد قصَّ علينا القرآن نبأ فتيةٍ آمنوا بربهم وأرادوا الانقلاب على مجتمع الكفر وأنظمته في زمنهم؛ لكنهم ما وجدوا سبيلًا بعد فترة إلا الإيواء إلى كهف في الجبال خوفًا من بطش القوم المجرمين. فحملة الدعوة ودعاة التغيير يجب عليهم أن يعلموا أن المصاعب التي تلاقيهم في طريقهم هي أمر طبيعي، بل لولاها لما علم الناس صدق الصادقين، ولا علموا كذب الكاذبين والمنافقين، يقول الله عز وجل (أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتۡرَكُوٓاْ أَن يَقُولُوٓاْ ءَامَنَّا وَهُمۡ لَا يُفۡتَنُونَ ٢ وَلَقَدۡ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۖ فَلَيَعۡلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعۡلَمَنَّ ٱلۡكَٰذِبِينَ ٣) فهذه هي سنة الله عز وجل في خلقه، وهذه هي سنة من أرسل الله من قبل، ولن تجد لسنة الله تبديلًا، ولن تجد لسنته تحويلًا، قال تعالى: (وَلَقَدۡ كُذِّبَتۡ رُسُلٞ مِّن قَبۡلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَىٰ مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّىٰٓ أَتَىٰهُمۡ نَصۡرُنَاۚ وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِ ٱللَّهِۚ وَلَقَدۡ جَآءَكَ مِن نَّبَإِيْ ٱلۡمُرۡسَلِينَ ٣٤ وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيۡكَ إِعۡرَاضُهُمۡ فَإِنِ ٱسۡتَطَعۡتَ أَن تَبۡتَغِيَ نَفَقٗا فِي ٱلۡأَرۡضِ أَوۡ سُلَّمٗا فِي ٱلسَّمَآءِ فَتَأۡتِيَهُم بَِٔايَةٖۚ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَمَعَهُمۡ عَلَى ٱلۡهُدَىٰۚ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡجَٰهِلِينَ ٣٥) [الأنعام: 34-35] ولهذا وجب على حملة الدعوة أن يتنبهوا لذلك، فوعد الله حق، وأمر الله حق، وسنة الله لا تتبدَّل، والعاقبة للمتقين. فقد ذكر البخاري في باب كيف كان بدء الوحي: «فقال له ورقة بن نوفل: هذا الناموس الذي نزّل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعًا، ليتني أكون حيًّا إذ يخرجك قومك. فقال صلى الله عليه وسلم: «أوَمخرجيَّ هم؟» قال: نعم، لم يأتِ رجلٌ قطُّ بمثل ما جئتَ به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا». فقد أدرك ورقة بن نوفل وهو العليم بسير الأولين، بأن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ستستعدي قومه عليه وسيخرجونه. وكذلك قول بيحرة بن فراس شيخ قبيلة عامر بن صعصعة للنبي صلى الله عليه وسلم: «أَفَنُهْدِفُ نحورنا للعرب دونَك، فإذا أظهرك الله: كان الأمر لغيرنا»؟! فإن هذا الشيخ قد استشعر بنظرته الثاقبة أن هذه الدعوة ستستعدي كل قبائل العرب على حاملها، كيف لا، وهو القائل: «والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب»!!. وكذلك قول المثنى رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم قبل إسلامه: «وإنِّي أرى هذا الأمر الذي تدعونا إليه يا أخا قريش! مما تكرهه الملوك». فهذا المثنى شيخ بني شيبان وصاحب حربهم كان واضحًا في ذهنه خطورة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنها تمسُّ بخطرها أصحاب الحكم وأربابه؛ ولهذا هم أول من ينبري لمحاربتها.
فدعوة التغيير كما هي الدعوة لإقامة الخلافة، ولتحكيم الشريعة الإسلامية، لا يغيب عن عاقل مدى خطورتها على أنظمة الكفر القائمة؛ ولهذا تجدهم يتصدّون لها ويحاربونها بشتى السبل والأساليب. وهذا هو ديدن الطغاة عبر تاريخ البشرية؛ ولهذا يجب على حملة الدعوة التنبُّه لذلك وأخذ الحيطة والحذر، والتزود بتقوى الله عز وجل فإنها خير الزاد، وكذلك وجب عليهم أن يطّلعوا على سير الأولين، فكما أسلفنا فإن سنّة الله واحدة ثابتة لا تتغير ولا تتبدل.
وقد عالجت آيات سور هذه المرحلة هذه النقطة بشكل كامل ومفصَّل ودقيق، فقال الله عز وجل في سورة هود: (فَلَعَلَّكَ تَارِكُۢ بَعۡضَ مَا يُوحَىٰٓ إِلَيۡكَ وَضَآئِقُۢ بِهِۦ صَدۡرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوۡلَآ أُنزِلَ عَلَيۡهِ كَنزٌ أَوۡ جَآءَ مَعَهُۥ مَلَكٌۚ إِنَّمَآ أَنتَ نَذِيرٞۚ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ وَكِيلٌ ١٢) [هود: 12]
فمن أساليب الضغط النفسي التي يتعرض لها حامل الدعوة الاستهزاء وتسخيف الهدف أو إظهار استحالة تحقيقه، وهذا ما قد يجعل حامل الدعوة في موقف ضنك، الأمر الذي قد يحمله على التراجع عن دعوته أو تغيير طريقته أو بعضها، وهو عين ما يعانيه حملة الدعوة للخلافة في هذه الأيام. فالبعض يصور العودة إلى الخلافة بالعودة إلى ركوب البعير استخفافًا واستهزاءً، بينما تجد بعض المضبوعين بالثقافة الغربية، ومنهم محسوبون على «الإسلاميين للأسف» تجدهم ينسفون فكرة الخلافة من أصلها الشرعي، بل ويعدُّونها من نتاج الصحابة وقد اندثرت بمضي عصرهم، كما وتجد الكثيرين من العاملين الإسلاميين يرفضون فكرة طلب النصرة من أساسها ويجعلونها فكرة أقرب للخيال، وأنه من المستحيل أن يقبل بها أهل القوة في هذا الزمان، وكذلك مستحيل أن يقبل بها «المجاهدون» على شاكلة «أنهدف نحورنا للعرب ثم نسلمكم الحكم؟؟!، فقد قال تعالى: ( وَلَقَدِ ٱسۡتُهۡزِئَ بِرُسُلٖ مِّن قَبۡلِكَ فَحَاقَ بِٱلَّذِينَ سَخِرُواْ مِنۡهُم مَّا كَانُواْ بِهِۦ يَسۡتَهۡزِءُونَ ١٠) [الأنعام: 10].
وهنا إن لم يكن حامل الدعوة مستيقنًا بطريقته، موقنًا بنصر الله؛ فإنه ما يلبث أن ينحني أمام هذه الضغوطات؛ وهذا ما يفسر انحراف الكثيرين من الذين انبروا للعمل في الشأن الدعوي الإسلامي.
ومن ناحية أخرى فقد يتعرض حملة الدعوة لأنواع كثيرة من الأذى الجسدي، ومنها السجن لفترات طويلة، فينبغي عليهم أن يصبروا بل ويثبتوا على دعوتهم. وقد تطرقت آيات القرآن في هذه الفترة التي نحن بصددها إلى هذا الأمر وعالجته معالجة شافيةً وافيةً، قال تعالى: ( وَإِن يَمۡسَسۡكَ ٱللَّهُ بِضُرّٖ فَلَا كَاشِفَ لَهُۥٓ إِلَّا هُوَۖ وَإِن يُرِدۡكَ بِخَيۡرٖ فَلَا رَآدَّ لِفَضۡلِهِۦۚ يُصِيبُ بِهِۦ مَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦۚ وَهُوَ ٱلۡغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ ١٠٧) [يونس: 107]. ففي هذه الآية الكريمة يخبر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بأن ما أصابك من ضرٍّ فهو من الله سبحانه وبإذنه، وأنه لن يَكشفَ عنك هذا الضرَّ إلا اللهُ سبحانه وتعالى وحده، فإنّ (لا) في هذه الآية هي النافية للجنس، وهي التي أفادت بأن الضرَّ إذا وقع على العبد فلن يرفعه كاملًا ولا حتى جزئيًا إلا الله وحده سبحانه وتعالى. ومتى يردك الله بخير فلا أحدٌ يرد فضله سبحانه، وأن الله هو الغفور الرحيم بعباده. وقال الله سبحانه :
(وَإِن يَمۡسَسۡكَ ٱللَّهُ بِضُرّٖ فَلَا كَاشِفَ لَهُۥٓ إِلَّا هُوَۖ وَإِن يَمۡسَسۡكَ بِخَيۡرٖ فَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ ١٧ وَهُوَ ٱلۡقَاهِرُ فَوۡقَ عِبَادِهِۦۚ وَهُوَ ٱلۡحَكِيمُ ٱلۡخَبِيرُ١٨) [الأنعام: 17-18].
ولا يُتصور أبدًا أن الأذى الذي يلقاه حملة الدعوة إلا من باب التمحيص والميزة. فمن يصبر على ابتلاء الله عزَّ وجلَّ سينال رضوانه، وسينال الفوز في الدنيا والآخرة، قال تعالى:
(وَٱتَّبِعۡ مَا يُوحَىٰٓ إِلَيۡكَ وَٱصۡبِرۡ حَتَّىٰ يَحۡكُمَ ٱللَّهُۚ وَهُوَ خَيۡرُ ٱلۡحَٰكِمِينَ ١٠٩) [يونس: 109] وقال تعالى: (وَٱصۡبِرۡ فَإِنَّ ٱللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجۡرَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ ١١٥) [هود: 115].
ولكن بالرغم من معالجة هذه الآيات وغيرها، إلا أنه من الوارد جدًا أن يتسلَّل الضعف إلى نفس حامل الدعوة، وهنا وجب على الجماعة أو قائدها أن يعالج هذا الخلل، فقد ذكرت لنا السيرة النبوية الشريفة حوادث من هذا القبيل… فعنْ أبي عبدِاللَّهِ خَبَّابِ بْن الأَرتِّ رضي الله عنه قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُو مُتَوسِّدٌ بُردةً لَهُ في ظلِّ الْكَعْبةِ، فَقُلْنَا: أَلا تَسْتَنْصرُ لَنَا أَلا تَدْعُو لَنَا؟ فَقَالَ: «قَد كَانَ مَنْ قَبْلكُمْ يؤْخَذُ الرَّجُلُ فيُحْفَرُ لَهُ في الأَرْضِ فيجْعلُ فِيهَا، ثمَّ يُؤْتِى بالْمِنْشارِ فَيُوضَعُ علَى رَأْسِهِ فيُجعلُ نصْفَيْن، ويُمْشطُ بِأَمْشاطِ الْحديدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعظْمِهِ، مَا يَصُدُّهُ ذلكَ عَنْ دِينِهِ، واللَّه ليتِمَّنَّ اللَّهُ هَذا الأَمْر حتَّى يسِير الرَّاكِبُ مِنْ صنْعاءَ إِلَى حَضْرمْوتَ لاَ يخافُ إِلاَّ اللهَ والذِّئْبَ عَلَى غنَمِهِ، ولكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ» رواه البخاري. فهذا الصحابي الجليل ليس بحديث عهد بالدعوة، بل هو سادس من آمن بها، فهو من السابقين الأولين؛ لكنَّ شدة ما لاقاه من الأذى جعله يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو لهم بالنصر ويستعجل؛ ولكن النبي صلى الله عليه وسلم ذكّره بصبر الأولين الذي لا يقارن بصبره الحالي، ثم زفَّ له البشرى مقسمًا صلى الله عليه وسلم بأن نصر الله آتٍ.
رابعًا: اليأس ممنوع
إن حامل الدعوة بعد أن يتم إعداده الإعداد الفكري والنفسي والتنظيمي، فإنه يجب أن ينطلق محلِّقًا نحو الهدف، متحدِيًا كل الصعاب، مندفِعًا بكل ما أوتي من قوة، خائِضًا غمار الظلم، مبدِّدًا له، رافِعًا راية النور الإلهي ولواء سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، مقتفيًا أثر دعوته، فإنْ تعرَّض للأذى النفسي أو الجسدي، فإنَّ عليه أن يصبر على ذلك؛ ولكن أن يصل إلى درجة اليأس أو الإحباط فإن ذلك ممنوع كل المنع. وقد عالجت آيات هذه الفترة موضوع اليأس وتطرقت إليه.
فقد تم ذكر لفظ اليأس والاستيئاس في آيات هذه الفترة أربع مرات ما يعادل نصف ماتمَّ ذكره في جميع القرآن. قال الله عز وجل: (يَٰبَنِيَّ ٱذۡهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَاْيَۡٔسُواْ مِن رَّوۡحِ ٱللَّهِۖ إِنَّهُۥ لَا يَاْيَۡٔسُ مِن رَّوۡحِ ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡقَوۡمُ ٱلۡكَٰفِرُونَ ٨٧) [يوسف: 87]. فقد بيَّنت هذه الآية دون أي لَبْس، أن مفهوم اليأس من روح الله ليس من صفات حامل الدعوة، فقد جعلت الآية اليأس من صفات الكافرين، أي أن اليأس ممنوع على حامل الدعوة، فمهما بدت الحال صعبة مستحيلةً على الإنسان العادي، فإن حامل الدعوة يرى الأمل من قلب الألم، ويرى النصر من قلب الانكسار، كما إنه يرى النور من قلب الظلمات. كيف لا، وهو الذي يحمل مشعل النور الإلهي يبدد به ظلمات الكفر الذي اقترفته أيدي الآثمين المجرمين.
كماحدثتنا الآيات القرآنية عن الاستيئاس، وأن الرسل والأنبياء قد يصلون إلى حالة يرَون أن أقوامهم قد وصلوا إلى حالة من الصد بوجه الدعوة يصير فيها المجتمع متحجرًا أمامها، ففي هذه الحالة على حامل الدعوة أن لا ييأس بل عليه أن يبقى مستبشرًا بنصر الله، وأنه إن تحجر مجتمع ما فإن أفق مجتمع آخر سيفتح أمام الدعوة إن شاء الله. فالنبي صلى الله عليه وسلم عندما تحجَّر المجتمع المكي، وأفرغ الوسع في طلب النصرة من القبائل العربية التي كان يرجو النصرة منها، بدأت تباشير طلائع الأنصار تأتي إليه، ولم تلبث إلا فترة يسيرة حتى لاحت معالم نصرة النبي صلى الله عليه وسلم ونصرة دين الله عز وجل من المدينة، ثم كانت هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة. قال تعالى: ( حَتَّىٰٓ إِذَا ٱسۡتَيَۡٔسَ ٱلرُّسُلُ وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُمۡ قَدۡ كُذِبُواْ جَآءَهُمۡ نَصۡرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَآءُۖ وَلَا يُرَدُّ بَأۡسُنَا عَنِ ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡمُجۡرِمِينَ ١١٠ ) [يوسف: 110] فاستيئاس الرسل مؤذن بالنصر إن شاء الله تعالى.
خامسًا: لكل أجل كتاب
إنّ سنة الله اقتضت بأن لكل مخلوق أجل، وأجل مسمى، وكذلك فإنّ لكل أمر قضاه الله عز وجل أجلًا محددًا ووقتًا معلومًا لا يتأخر عنه أو يتقدَّم، لحكمة يعلمها الله عز وجل، فهذا الأمر لا يخرج عن سنة الله في خلقه، وهذا الأمر ينسحب على الفرد كما ينسحب على الأمم، وكذلك هو الحال بالنسبة إلى المجتمعات البشرية، والأيام دول، قال تعالى: (.. وَتِلۡكَ ٱلۡأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيۡنَ ٱلنَّاسِ وَلِيَعۡلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمۡ شُهَدَآءَۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلظَّٰلِمِينَ ١٤٠) [آل عمران: 140] هذا من حيث المبدأ، أما بالنسبة إلى الدعوات فهي كذلك تقع ضمن سنة الله هذه، فلا بد من أن تستكمل الدعوة أطوارها، ثم تأتي الخاتمة وفق ما قدر الله لها.
هكذا كانت حال كل دعوات الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، وقد أشارت الآيات القرآنية التي أُنزلت في هذه الفترة التي نحن بصددها إلى ذلك فقال تعالى: (.. لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌۚ إِذَا جَآءَ أَجَلُهُمۡ فَلَا يَسۡتَٔۡخِرُونَ سَاعَةٗ وَلَا يَسۡتَقۡدِمُونَ ٤٩) [يونس: 49] بل تكاد تنفرد سورة هود بتكرار الإشارة إلى ذلك، عند ذكرها قصص الأولين على غير ما ذَكرت بقية السور التي تحدثت عن أحوال الأمم السابقة. فقد قال الله تعالى في ذكر قوم نوح عليه السلام: (حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَ أَمۡرُنَا وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ قُلۡنَا ٱحۡمِلۡ فِيهَا مِن كُلّٖ زَوۡجَيۡنِ ٱثۡنَيۡنِ وَأَهۡلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيۡهِ ٱلۡقَوۡلُ وَمَنۡ ءَامَنَۚ وَمَآ ءَامَنَ مَعَهُۥٓ إِلَّا قَلِيلٞ ٤٠) وقال سبحانه في ذكر عاد: (وَلَمَّا جَآءَ أَمۡرُنَا نَجَّيۡنَا هُودٗا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ بِرَحۡمَةٖ مِّنَّا وَنَجَّيۡنَٰهُم مِّنۡ عَذَابٍ غَلِيظٖ ٥٨) وقال سبحانه في ذكر ثمود: (فَلَمَّا جَآءَ أَمۡرُنَا نَجَّيۡنَا صَٰلِحٗا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ بِرَحۡمَةٖ مِّنَّا وَمِنۡ خِزۡيِ يَوۡمِئِذٍۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ ٱلۡقَوِيُّ ٱلۡعَزِيزُ ٦٦) وقال سبحانه في ذكر قوم لوط: (يَٰٓإِبۡرَٰهِيمُ أَعۡرِضۡ عَنۡ هَٰذَآۖ إِنَّهُۥ قَدۡ جَآءَ أَمۡرُ رَبِّكَۖ وَإِنَّهُمۡ ءَاتِيهِمۡ عَذَابٌ غَيۡرُ مَرۡدُودٖ ٧٦) وقال تعالى: (فَلَمَّا جَآءَ أَمۡرُنَا جَعَلۡنَا عَٰلِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمۡطَرۡنَا عَلَيۡهَا حِجَارَةٗ مِّن سِجِّيلٖ مَّنضُودٖ ٨٢) [هود: 82] وقال سبحانه في ذكر مدين: (وَلَمَّا جَآءَ أَمۡرُنَا نَجَّيۡنَا شُعَيۡبٗا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ بِرَحۡمَةٖ مِّنَّا وَأَخَذَتِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ ٱلصَّيۡحَةُ فَأَصۡبَحُواْ فِي دِيَٰرِهِمۡ جَٰثِمِينَ٩٤) [هود: 94] فهذه الصيغة (لمـَّا جاء أمرنا) كأنها تهمس في أذن السامع أن أمر الله لا بد آت؛ ولكن له وقتًا محددًا قدّره الله عز وجل، ولم يُطلع أحدًا من عباده عليه. وعليه، فما على حملة الدعوة إلا الاجتهاد في دعوتهم، والالتزام بطريقتهم، والاستقامة عليها، والصبر على ما يعترضهم في سبيل دعوتهم من أذى كان الله عز وجل قد كتبه عليهم ليميز الله عباده، ثم لينتظروا النصر مع الصبر من الله تعالى. فقد قال الله تعالى على لسان موسى عليه السلام:
(قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِ ٱسۡتَعِينُواْ بِٱللَّهِ وَٱصۡبِرُوٓاْۖ إِنَّ ٱلۡأَرۡضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦۖ وَٱلۡعَٰقِبَةُ لِلۡمُتَّقِينَ ١٢٨ قَالُوٓاْ أُوذِينَا مِن قَبۡلِ أَن تَأۡتِيَنَا وَمِنۢ بَعۡدِ مَا جِئۡتَنَاۚ قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمۡ أَن يُهۡلِكَ عَدُوَّكُمۡ وَيَسۡتَخۡلِفَكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَيَنظُرَ كَيۡفَ تَعۡمَلُونَ١٢٩) [الأعراف: 128-129] هنا يذّكر نبي الله موسى قومه بعد أن أفرغ الوسع في دعوته فرعون وقومه، بأن عليهم أن يصبروا وينتظروا الفرج والنصر من الله، وهو يعلم بأنه لا بد آتٍ ذلك اليوم، ثم بعد ذلك بدأ مسلسل النهاية، نهاية حقبة فرعون بالسنين ونقص من الثمرات، ثم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، إلى أن جاءت ساعة الحقيقة التي تم القضاء فيها على الطاغية فرعون، وكان الأمر الإلهي بإغراق آل فرعون وقومه في اليمِّ، وتمكين القوم المستضعفين بما صبروا. قال تعالى: (وَأَوۡرَثۡنَا ٱلۡقَوۡمَ ٱلَّذِينَ كَانُواْ يُسۡتَضۡعَفُونَ مَشَٰرِقَ ٱلۡأَرۡضِ وَمَغَٰرِبَهَا ٱلَّتِي بَٰرَكۡنَا فِيهَاۖ وَتَمَّتۡ كَلِمَتُ رَبِّكَ ٱلۡحُسۡنَىٰ عَلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ بِمَا صَبَرُواْۖ وَدَمَّرۡنَا مَا كَانَ يَصۡنَعُ فِرۡعَوۡنُ وَقَوۡمُهُۥ وَمَا كَانُواْ يَعۡرِشُونَ ١٣٧) [الأعراف: 137]
أما ما يخصُّ دعوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فإنه لما أفرغ الوسع في دعوته وطلبه للنصرة من القبائل التي كان يظن أنها أهل للنصرة، ولما فشلت كل مفاوضاته مع قادة القبائل، وأمام تحجُّر المجتمع المكي، وفي السنة الحادية عشرة للبعثة، جاء النبيَ صلى الله عليه وسلم ستةُ نفر من الخزرج، فآمنوا بدعوته، ثم بعد عام جاء النبيَ صلى الله عليه وسلم اثنا عشر رجلًا من الأوس والخزرج ، وكانت بيعة العقبة الأولى؛ حيث أرسل معهم النبي صلى الله عليه وسلم الصحابي الجليل مصعب بن عمير، ذلك الرجل الذي فتح الله على يديه قلوب أهل المدينة وقلوب ساداتها، ولم تمضِ سنة من الزمان حتى كانت المدينة جاهزةً لأن تكون حاضرة دولة الإسلام، فكانت بيعة العقبة الثانية، وكانت الهجرة العظيمة. فإنه لكل أجل كتاب، وأمر الله لا بد آتٍ، فإن الأمر كله بيده سبحانه، قال تعالى: (وَلِلَّهِ غَيۡبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَإِلَيۡهِ يُرۡجَعُ ٱلۡأَمۡرُ كُلُّهُۥ فَٱعۡبُدۡهُ وَتَوَكَّلۡ عَلَيۡهِۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعۡمَلُونَ ١٢٣) [هود: 123].
وفي الختام، وبعد مضي حوالى قرن من الزمان على هدم الخلافة الإسلامية، لا تزال أمة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ترزح تحت أتون الحكم الجبري وحكَّامه المجرمين، وأحكام الكفر الظالمة التي أرهقت العباد فسُفكت الدماء وانتُهكت الأعراض وعاش المسلمون حياة الضنك والذل والهوان. فالكافر المستعمر قد سلَّط على رقاب هذه الأمة حكَّامًا فجرةً، نهبوا خيرات هذه الأمة ودفعوا بها إليه وسخروها في خدمته وخدمة مصالحه. وبالرغم من كل هذا، فإن الأمة لا تزال تبحث عن طريق تستعيد فيه سلطانها وهويتها، وقد فشلت كل المحاولات التي قامت في الأمة حتى الآن في تحقيق ذلك.
ولتحقيق ذلك فلا بد لحملة دعوة التغيير من الالتزام بالطريقة التي أمر الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم والتي سار عليها حتى أقام سلطان الإسلام. قال تعالى: (ثُمَّ جَعَلۡنَٰكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٖ مِّنَ ٱلۡأَمۡرِ فَٱتَّبِعۡهَا وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَ ٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَ ١٨) فإذا كان على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلتزم طريقة التغيير التي حددها الله عز وجل له، فحريٌّ بدعاة التغيير أن يلتزموا بها كذلك لأنها الطريقة الشرعية الوحيدة؛ فلن يصلح خلف هذه الأمة إلا بما صلح سلفها.
هذا وقد بشرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن سلطان هذه الأمة سيعود بإذنه تعالى، روى أحمد في مسنده عن حذيفة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكًا عاضًا فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها الله إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكًا جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت».
وأنه سيبلغ ملك هذه الأمة ما بلغ الليل والنهار، روى مسلم في صحيحه: «عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِيَ الأَرْضَ فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِىَ لِي مِنْهَا. وَأُعْطِيتُ الْكَنْزَيْنِ الأَحْمَرَ وَالأَبْيَضَ، وَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي لأُمَّتِي أَنْ لاَ يُهْلِكَهَا بِسَنَةٍ بِعَامَّةٍ، وَأَنْ لاَ يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ، وَإِنَّ رَبِّى قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنِّي إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لاَ يُرَدُّ، وَإِنِّي أَعْطَيْتُكَ لأُمَّتِكَ أَنْ لاَ أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ بِعَامَّةٍ، وَأَنْ لاَ أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ وَلَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مَنْ بِأَقْطَارِهَا – أَوْ قَالَ مَنْ بَيْنَ أَقْطَارِهَا – حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا وَيَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا».
ومنذ ما يقارب العقد من الزمان، والأمة تغلي من أقصاها إلى أقصاها، وخاصة بعد اندلاع ثورات الربيع العربي، وبالأخص بعد قيام ثورة الشام المباركة، فقد أدركت الأمة أن المنظومة المتحكِّمة برقابها ما هي إلا صنيعة الكافر المستعمر وخادمة لمصالحه، وأنها غريبة عن هذه الأمة، ولا بد من السعي لخلعها. وكذلك أدركت الأمة أن لا عزَّة لها ولا كرامة إلا بتحكيم شريعة ربها، وخاصة بعد انهيار المنظومة الاشتراكية منذ ثلاثة عقود، وتخلخُل المنظومة الرأسمالية في عقر دارها.
وما يجري في العالم اليوم من حراك عارم في الأمة بسبب تعدي الكفار على حرماتها، الكفار الذين كشفوا عن وجوههم الكالحة أقنعةً طالما خدعوا الأمة بها لعقود؛ وما ذلك إلا لأنهم صُعِقوا عندما رأَوا اندفاع جماهير المسلمين تنادي قائدنا للأبد سيدنا محمد، هذا الحراك العارم قد أوقظ في الأمة السعي إلى التغيير والانقلاب على أدوات الكافر المستعمر.
فالأمة أدركت أن لا خلاص لها إلا بالإسلام؛ ولكن على الساعين لذلك أن يلتزموا طريقة النبي صلى الله عليه وسلم… وعلى أهل القوة من قادة جيوش الأمة، أن يبادروا لنصرة أصحاب المشروع الإسلامي، مشروع الخلافة على منهاج النبوة؛ فيفوز أهل القوة بما فاز به سعد بن معاذ رضي الله عنه، ويسعد المسلمون في أرجاء الأرض، وتعود القدس وفلسطين وكشمير والأندلس وتركستان وأراكان والقوقاز والقرم إلى عز الإسلام، وتكنس الكافر المستعمر وأدواته وترفع راية العقاب، راية رسول الله صلى الله عليه وسلم في أرجاء المعمورة، ويومئذٍ يفرح المؤمنون بنصر الله، ينصر من يشاء، وهو العزيز الرحيم.
2021-01-21