مصلحة الدعوة يقررها العقل أم الشرع؟
2006/12/30م
المقالات
2,313 زيارة
مصلحة الدعوة يقررها العقل أم الشرع؟
دأب الكثير من أبناء المسلمين، وممن يسمون بمفكرين إسلاميين، ومن المشتغلين بالعمل الإسلامي، إذا ما تعارضت طرقهم وأساليبهم ووسائلهم للتغيير، وبرامجهم وأهدافهم وغاياتهم التي يسعون للوصول إليها، مع العقيدة الإسلامية أو مع أحكامها الشرعية، أن يقدموا الأولى متذرعين بأن مصلحة الدعوة تقتضي ذلك. وما أثار حفيظتي أكثر قول أحد المشتغلين بالعمل الإسلامي البارزين والممثلين الرسميين له، ومن على منبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، حيث قال: «بغض النظر عن الحِلّ والحُرمة، فإن مشاركتنا في الانتخابات التشريعية ودخولنا المجلس التشريعي هو من المصلحة»، وقول آخر في منطقة أخرى ومن نفس المقام «دعونا نضع الأحكام الشرعية جانباً وننظر إلى ما ستحققه الانتخابات من مصلحة لشعبنا».
إن الأقوال كثيرة والتصريحات التي تحمل المضمون نفسه أكثر، ولسنا بصدد الوقوف عند كل هذه الأقوال والتصريحات بقدر ما نحن بصدد الوقوف عند ما تحمله هذه التصريحات من معانٍ ومفاهيم. والمدقق في هذه الأقوال والتصريحات ومثيلاتها يجد أن هؤلاء إنما بنوا تصريحاتهم على مفهوم أساسي لديهم وهو أن مصلحة الدعوة إنما يحددها العقل وليس الشرع، أي أن الذي يقرر المصلحة هو ما وصلت إليه عقولهم وليس الله سبحانه وتعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبغض النظر إن وافقت تصريحاتهم وقراراتهم كتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أم خالفتها، فمصلحة الدعوة يحددها ويقررها العقل وليس الشرع، بمعنى آخر إنه قد أصبحت القاعدة الفكرية التي تنبثق منها الأحكام وتبنى عليها الأفكار في وجهة نظرهم هي العقل وليس العقيدة الإسلامية، فهم مسلمون يعتقدون العقيدة الإسلامية لكنهم وقفوا منها عند حد الشعائر التعبدية وبعض الأحكام الفقهية فقط، ولم يجعلوا العقيدة الإسلامية، كما أراد الله لها أن تكون، القاعدة الفكرية التي تنبثق منها جميع الأحكام والمعالجات، وتبنى عليها جميع الأفكار الموجودة والتي يمكن للإنسان أن يوجدها.
وعودة إلى مصلحة الدعوة هل يحددها العقل أم الشرع، لنقف عند مثالين أو حادثتين حصلتا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
الأولى: ما جاء في تفسير ابن كثير في قوله تعالى : ( وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ) [الأنعام 52] «وقال ابن أبي حاتم: حدثنا ابن سعيد بن يحيى بن سعيد القطان حدثنا عمرو بن محمد العنقزي حدثنا أسباط بن نصر عن السدي عن أبي سعيد الأزدي -وكان قارئ الأزد- عن أبي الكـنود عن خباب في قول الله عز وجل ( وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ) [الأنعام 52] قال: جاء الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصن الفزاري فوجدوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مع صهيب وبلال وعمار وخباب قاعداً في ناس من الضعفاء من المؤمنين، فلما رأوهم حول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حقروهم في نفر في أصحابه، فأتوه فخلوا به وقالوا: إنا نريد أن تجعل لنا منك مجلساً تعرف لنا به العرب فضلنا، فإن وفود العرب تأتيك فنستحيي أن ترانا العرب مع هذه الأعبد، فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا، فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت، قال: «نعم» قالوا: فاكتب لنا عليك كتاباً، قال: فدعا بصحيفة ودعا علياً ليكتب ونحن قعود في ناحية فنزل جبريل فقال: ( وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ) [الأنعام 52] فرمى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالصحيفة من يده ثم دعانا فأتيناه».
والثانية: ما رواه الحاكم في صحيحه عن علي بن عيسى الحيري عن العتابي عن سعد ابن يحيى. في قوله تعالى: ( عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى ) [عبس 1-2]: أخبرنا محمد بن عبد الرحمن المصاحفي أخبرنا أبو نجم ومحمد بن أحمد بن حمدان أخبرنا أبو يعلى حدثنا سعيد بن يحيى بن سعيد حدثنا أبي قال: هذا ما قرأنا على هشام بن عروة عن عائشة قالت: أنزلت عبس وتولى في ابن أم مكتوم الأعمى أتى إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فجعل يقول: يا رسول الله، أرشدني، وعند رسول الله رجال من عظماء المشركين، فجعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يعرض عنه ويقبل على الآخرين، ففي هذا نزلت عبس وتولى.
في الحادثة الأولى نلاحظ أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد كان حريصاً على إيمان صناديد وزعماء قريش لما سيحققه إيمانهم من قوة وعزة للدعوة، فقد رأى أن من مصلحة الدعوة أن يجعل لزعماء قريش وقتاً يجلس فيه معهم غير الوقت الذي يجلس فيه مع ضعفاء وفقراء المسلمين، وفي الحادثة الثانية كان إعراضه عن ابن أم مكتوم الذي جاء يطلب العلم منه عليه الصلاة والسلام فهو من المسلمين، فإن إعراضه هذا لم يكن تكبراً عنه، حاشاه عليه الصلاة والسلام، لكنه عليه الصلاة والسلام ركن إلى إسلامه ورأى أن اهتمامه الآن بكفار قريش هو من صميم مصلحة الدعوة.
إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وفي حوادث كثيرة كانت تعرض له كان لا يجيب عليها ولكن كان ينتظر الوحي حتى ينزل ويخبره بحكم الله من فوق سبع سماوات، وهنا وفي حالة ابن أم مكتوم فإن الحكم الشرعي هو وجوب تبليغ الدعوة لكل من استطاع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يبلغه إياها، وكان (صلى الله عليه وآله وسلم) يحاول مع زعماء قريش وهو فرض عليه، فلما جاءه ابن أم مكتوم لم يعطه الاهتمام اللازم طمعاً في إسلام زعماء قريش مع أنه فرض عليه، لكنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أرجأ تعليمه، وكان الأولى أن يجيب ابن أم مكتوم لطلبه في التعليم، فما كان من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا أن قدم غير الأولى على الأولى فنزل العتاب له من فوق سبعة أرقعة على مخالفة الأَوْلى، فإن كان الأمر كذلك في حال مخالفة الأولى فما ظننا لو كان تحكيماً للعقل في الدعوة، حاشاه (صلى الله عليه وآله وسلم). وفي حالة الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصن الفزاري عزم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على تخصيص مجلس لهما وتخصيص مجلس لضعفاء المسلمين، وهو نوع من أنواع التنظيم، فنزل الأمر الإلهي يبين حقيقة هذا التنظيم بأنه طرد للذين يدعون ربهم بالغداة والعشي، حتى لو كان هذا التنظيم طمعاً في إسلام الزعماء منهم. وبناءً على ما سبق يتبين أن مصلحة الدعوة تقررها الأحكام الشرعية ولا تدخل ضمن الموازنات العقلية، حتى الموازنات بين الواجبات أو المندوبات لا بد فيها من أن تستند إلى الشرع لا إلى أي شيء آخر.
وفي الختام أقول إنه يجب على المسلمين: علمائهم ومفكريهم وقادتهم وعوامهم أن يدركوا هذه الحقيقة الربانية، وأن يجعلوا جميع أعمالهم وأقوالهم وتصرفاتهم، وأن يجعلوا برامجهم وأهدافهم وغاياتهم، ليست خاضعة لعقولهم إنما يجب أن تكون مسيرة بأحكام الله، مسيرة حسب أوامر الله ونواهيه؛ لينالوا عز الدنيا والفلاح في الآخرة.
اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
2006-12-30