مقتطفات من كتاب التيسير في أصول التفسير للعالم الجليل عطاء بن خليل أبو الرشته
2014/10/30م
المقالات
3,977 زيارة
مقتطفات من كتاب التيسير في أصول التفسير للعالم الجليل عطاء بن خليل أبو الرشته
وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) ).
جاء في كتاب التيسير في أصول التفسير لمؤلفه
عطاء بن خليل أبو الرشته
أمير حزب التحرير حفظه الله في تفسيره لهذه الآيات ما يلي:
-
يخبرنا الله سبحانه أنه ابتلى إبراهيم عليه السلام بكلماتٍ أوحاها إليه فأمره ونهاه اختباراً له عليه السلام فأتمها إبراهيم على أكمل وجه، وشهد الله له بذلك ( وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ) النجم/آية37.
-
على أثر ذلك تفضل الله سبحانه على إبراهيم عليه السلام بمثوبة جزاء إتمامه ما ابتلاه الله به أن جعله إماماً للناس.
والإمام يعني القدوة ولذلك قيل لخيط البناء إمام وللطريق إمام، وكذلك يطلق على كلّ من يؤتم به في الخير والشرّ، أما في الخير فكما في الآية ( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ) وأما في الشرّ كما في الآية ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ) القصص/آية41.
-
إن إبراهيم عليه السلام كان نبياً عندما ابتلاه الله سبحانه بقرينة ( بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ) وهذه تعني أن إبراهيم كان يوحى إليه عند الابتلاء أي أنه عليه السلام كان نبياً وكان الابتلاء بعد نبوته عليه السلام .
-
وحيث إن ( إِمَامًا ) تعني القدوة في الخير كما بينا في الدين والدنيا فإن هذا يدلّ على أن الله سبحانه بعد أن ابتلى النبي إبراهيم عليه السلام لم يبقه نبياً فحسب بل أضاف إليه الرسالة ليكون رسولاً إماماً للناس – أي لقومه – يأتمون ويقتدون بهديه في دينهم ودنياهم.
-
بعد أن آتى الله إبراهيم الرسالة بعد الابتلاء استفسر إبراهيم عليه السلام عن ذريته، هل سيؤتيها ما آتاه الله سـبحانه ( وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ) فأعلمه الله أن عهده هذا – إتيان الرسالة – لا يشمل الظالمين، وفي هذا إشارة إلى أنه سيكون من ذرية إبراهيم ظلمة لا يشملهم عهد الله ( وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ ) الصافات/آية113 والظلم وضع الشيء في غير محله، فكل من وضع شيئاً في غير محله فهو ظالم ( إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) لقمان/آية13 فهو ظلمٌ في العقيدة ( وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ) البقرة/آية231 وهذا ظلمٌ في الحكم الشرعي، أي أن الظلم يقع في العقيدة ويقع في الأحكام الشرعية. وعهد الله بالرسالة لا يكون في الظلمة من ذرية إبراهيم عليه السلام ( لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ).
( وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) ).
-
إن الله سبحانه قد جعل البيت الحرام موصوفاً بصفتين متلازمتين له: الأولى ( مَثَابَةً ) أي مرجعاً للناس يأتونه كلّ عامٍ يرجعون إليه فلا يقضون منه وطراً، فمن جاءه مرةً لا تكون له نهاية المطاف، بل تحدثه نفسـه أن يرجع إليه ثانية ( رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ) إبراهيم/آية37. والثانية ( وَأَمْنًا ) وهو مصدر من أمِنَ يأمَنُ أمناً، وقد وقع المصدر هنا موقع اسم الفاعل للمبالغة في الأمن أي جعلنا البيت آمناً، نحو قوله سبحانه: ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ) العنكبوت/آية67 وقد كان في الجاهلية يتخطف الناس من حولهم وهم آمنون لا يُسْبَوْن، وكان الرجل منهم يلقى الرجل قاتل أبيه أو أخيه فلا يعرض له حتى يخرج منه.
وفي الآية الكريمة يبين الله سبحانه أنه قد جعل البيت مثابةً للناس وأمناً (كذلك للناس). ولفظ (الناس) لفظ عام، لذلك فالأمن لكل إنسانٍ والتخصيص بحالةٍ معينةٍ يحتاج إلى نصّ “كإهداره صلى الله عليه وسلم دم بضعة نفر ولو تعلقوا بأستار الكعبة“[1] وذلك عند الفتح، وهكذا فالأمن فيه لعموم الناس إلا بتخصيصٍ بنصٍ صحيحٍ.
-
يأمر الله سبحانه أن يُتخذ مقام إبراهيم مصلىً ( وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ) كما جاء في حديث ابن عمر “أن النبي صلى الله عليه وسلمأخذ بيد عمر بن الخطاب tفقال: يا عمر، هذا مقام إبراهيم. فقال عمر: أفلا نتخذه مصلى؟ قال: لم أؤمر بذلك. فلمّا تغرب الشمس حتى أنزل الله سبحانه ( وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى )”[2].
ومقام إبراهيم عليه السلام هو المكان المعروف اليوم في الحرم فهو الحجر الذي تعرفه الحجيج والذي يصلون عنده ركعتي طواف القدوم وذلك لحديث عمر السابق، ولما أخرجه مسلم عن جابر “أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ من طوافه عمد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين وقرأ الآية“[3].
( مَقَامِ ) لغة موضع القدمين أي المكان الذي يضع قدميه عليه وهو واقف من قام يقوم والمصدر مقام.
(والحجر) هو الذي به أثر قدمه عليه السلام في المكان المعروف في الحرم. أما ما هو هذا الحـجـر ففيه روايات لعل أرجـحـهـا أنه الذي كان يـقـف عليه إبراهيم عليه السلام عندما ارتفع بناء البيت وأصبح لا يتمكن من البناء إلا أن يضع تحت قدميه حجراً، فكأنه هو الحجر المعروف اليوم.
-
( وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ) أي أوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل أن يقيما البيت ويُخْلِصَاه للذين ذكرهم الله سبحانه ( لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ) فلا يغشاه غيرهم.
( وَعَهِدْنَا إِلَى ) أوصينا لأن العهد إذا تعدى بـ(إلى) يكون بمعنى التوصية.
( أَنْ طَهِّرَا ) ( أَنْ ) بمعنى (أي) المفسرة فالجملة لا محلّ لها من الإعراب.
( أَنْ ) أي ابنياه طاهراً أي خالصاً نقياً للطائفين والعاكفين والركع السجود، وإنما قلنا (طاهراً) بهذا المعنى المجازي أي خالصاً نقياً لأن المكان الذي بني فيه البيت لم يكن يسكنه أحد فلا أصنام ولا أرجاس يطهَّر منها ( رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ ) إبراهيم/آية37.
( لِلطَّائِفِينَ ): الذين يطوفون بالبيت.
( وَالْعَاكِفِينَ ): المقيمين فيه للعبادة (المعتكفين).
( وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ): المصلين.
معنى الآية كاملاً: أوصينا إبراهيم وإسماعيل ببناء البيت نقياً خالصاً للطواف حوله والاعتكاف فيه والصلاة.
ولا تناقض هذه الآية ( وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ ) ما ذكره الله سبحانه في سورة الحج ( وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ ) الحج/آية26، ففي سورة الحج ذكر إبراهيم عليه السلام وحده فالله أعلمه المكان الذي أمره بإقامة البيت فيه بدلالة ( بَوَّأْنَا ) أي هيأنا مكان البيت كناية عن إعلام الله سبحانه لإبراهيم مكان البيت، أما في هذه الآية فالأمر متعلق بإقامة البيت، فعهد الله لإبراهيم وإسماعيل أن يقيماه، وهذه غير تلك فلا تعارض بين ذكر (إبراهيم وإسماعيل) في هذه الآية وبين ذكر (إبراهيم) وحده في آية الحج لاختلاف الأمرين.
( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ).
-
دعا إبراهيم عليه السلام أن يكون البلد الذي ترك أهله فيه بلداً آمناً وأن يرزق أهله، ولكن إبراهيم عليه السلام جعل دعاءه لمن آمن منهم بالله واليوم الآخر، أي أن ( مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ) بدل بعض من كلّ فهو بدل من ( أَهْلَهُ ).
-
استجاب الله دعاء إبراهيم وأضاف عليه أنه سبحانه سيرزق كذلك ( وَمَنْ كَفَرَ ) فيمتعه قليلاً أي عيشه في الدنيا، وهو قليل مهما كانت النسبة إلى عيش الآخرة، وبعد متعة العيش هذه سيكون مصير ذلك الكافر إلى النار.
فقد تفضل الله سبحانه على الناس بأن رزقهم مؤمنين وكافرين في الدنيا ثم الجزاء الأوفى في جنان الخلد للمؤمنين، وبئس المصير في نار جهنم للكافرين على نحو قوله سبحانه ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ) الإسراء/آية18-20.
أي أن الرزق في الدنيا يصيب المؤمنين والكافرين، وأما الآخرة فالأمر فيها مختلف؛ فرضوان الله والجنة للمؤمنين، وسخط الله والنار للكافرين، والحمد لله رب العالمين.
[1] سيرة ابن هشام: 4/51 وما بعدها
[2] البخاري: 4123، مسلم: 4412، تفسير الطبري: 1/534
[3] مسلم: 2137، ابن ماجه: 998، 2951، تفسير الطبري: 1/535
2014-10-30