بسم الله الرحمن الرحيم
الربيع بن زياد الحارثي رضي الله عنه
عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
وما صدقني أحد منذ استُخلفت
كــمــا صــدقــــني الربــــيــع بــــن زيـــــــاد
هذه مدينَةُ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ما تَزالُ تُكَفِكفُ أَحزَانَها على فَقدِ الصِّدّيق… وها هي ذي وُفُودُ الأَمصارِ تَقدمُ كُلَّ يومٍ على المدينة مُبايعةً خَليفتَه عُمَرَ بنَ الخَطابِ على السَّمعِ والطاعةِ في المنشطِ والمَكرَه (في اليسر والعسر) وفي ذات صباح قدم على أمير المؤمنين وفد البحرين مع طائفة أخرى من الوفود.
وكانَ الفاروقُ رِضوانُ اللهِ عليه شَديدَ الحِرصِ على أَن يَسمَعَ كلامَ الوافدين عليه؛ لَعَلَّه يَجِدُ فيما يقولونه مَوعِظةً بالِغَةً، أو فِكرَة نافِعةً، أو نصيحةً للهِ ولِكتابِهِ ولِعامةِ المسلمين. فَنَدبَ عَدداً من الحاضرين لِلكَلام فَلَم يقولوا شَيئاً ذا بالٍ. فالتَفَتَ إلى رَجُلٍ تَوَسم فيه الخيرَ، وأَومأ إليهِ وقالَ: هاتِ ما عِندكَ.
فَحَمِدَ الرَّجُلُ اللهَ وأثنى عليهِ ثم قال: إنكَ يا أميرَ المُؤمِنينَ ما ولِّيتَ أمرَ هذه الأمةِ إلا ابتِلاءً مِنَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ ابتلاكَ به. فاتِّقِ الله فيما وُليتَ، واعلَم أنَّهُ لَو ضَلَّت شاةٌ بِشاطِئِ الفُراتِ لَسئِلتَ عَنها يَومَ القِيامَةِ.
فَأجهَشَ عُمَرُ بالبُكاءِ وقال: ما صدقني أحَدٌ مُنذُ استُخلِفتُ كما صدقتني، فمن أنتَ؟! فقال: الرَّبيعُ بنُ زيادٍ الحارِثيُّ. فقال: أخو المهاجِرِ بنِ زيادٍ؟ فقال: نعم. فلما انفَضَّ المَجلِسُ دَعَا عُمَرُ بنُ الخطّابِ أَبَا مُوسى الأَشعَرِيَّ وقال: تَحَرَّ أمر الرَّبيعِ بنِ زيادٍ، فإن يَكُ صادِقاً فإنَّ فيه خَيراً كثيراً وعَوناً لنا على هذا الأمرِ. واستَعمِلهُ واكْتُبْ لي بِخَبَرِه. ثم لَم يَمضِ على ذلك اليومِ غَيرُ قليلٍ حتى أعدَّ أبو مُوسى الأشعرِيُّ جَيشاً لِفتحِ «مناذر» مِن أَرضِ الأهوَازِ بِناءً على أمرِ الخَليفةِ، وجَعَلَ في الجيشِ الربيعَ بنَ زيادٍ وأخاهُ المهاجِرَ.
حاصَر أبو موسى الأشعريُّ «مناذر» وخَاضَ مَعَ أهلِهَا مَعَارِكَ طاحِنَةً قَلَما شَهِدَت لها الحُرُوبُ نَظِيراً.
فقد أبدَى المشرِكونَ مِن شِدَّةِ البأسِ وقُوَّةِ الشَّكِيمةِ ما لَم يَخطُر على بالٍ، وكَثُرَ القَتلُ في المسلمين كَثرَةً فاقَت كُلَّ تَقديرٍ. فلما رأى « المهاجِرُ « أخو الرَّبيعِ بنِ زياد أَنَّ القَتلَ قَد كَثُرَ في صُفوفِ المسلِمينَ عَزَمَ على أن يبيع نَفسَهُ ابتِغاءَ مَرضَاةِ الله، فَتَحَنَّطَ (الحنوط: نوع من الطيب يوضع على جسد الميت) وتكفّنَ وَأَوصَى أخاه… فَمَضَى الرَّبيعُ إلى أبي مُوسى وقال: إنَّ المهاجِر قَد أَزمَعَ أن يَبيع نَفسَهُ وهُوَ صائِمٌ، والمسلِمُونَ قَدِ اجتَمَعَ عَلَيهِم مِن وَطأَةِ الحَربِ وشِدَّةِ الصَّومِ ما أوهَنَ عَزَائِمهُمُ، وَهُم يَأبَونَ الإفطَارَ فَافعَل ما تَرَى. فَوَقَفَ أبو موسى الأشعَريُّ، ونَادى الجَيشِ: يا مَعشَرَ المسلمين، عَزَمتُ (أقسمت) على كُلَّ صائِمٍ أن يُفطِر أو يَكُفَّ عَنِ القِتالِ، وشَرِبَ من إبريقٍ كان معهُ لِيَشربَ النَّاسُ بِشُربِهِ.
فَلَما سَمِعَ المهاجِرُ مَقالَتَهُ جَرَعَ جُرعَةً من الماءِ وقال: والله ما شَرِبتُها من عَطَشٍ ولكنني أَبَررتُ عَزمَةَ أَمِيرِي، ثُمَّ امتَشَقَ حُسامَهُ وَطَفِقَ يَشُقُّ به الصفُوف، ويُجندِلُ الرِّجالَ غَيرَ وَجلٍ ولا هَيابٍ. فَلما أَوغَلَ في جيشِ الأعدَاءِ أَطبقوا عَلَيهِ مِن كُلِّ جانِبٍ، وَتَعَاوَرَتهُ (تداولته) سُيُوفُهُم من أمامِه ومن خَلفِه حَتى خَرَّ صريعاً… ثم إنَّهم احتَزُّوا رَأسَهُ ونُصبوهُ على شُرفَةٍ مُطِلَّةٍ على ساحةِ القِتالِ. فَنظَرَ إليهِ الرَّبيع وقال طُوبَى لك وَحُسنُ مآب… واللهِ لأَنتقِمَنَّ لك ولِقَتلى المُسلمينَ إن شَاءَ اللهُ. فَلما رَأى أبو موسى ما نَزل بالربيعِ منَ الجَزَعِ على أخيهِ، وأَدركَ ما ثَارَ مِنَ الحَفِيظَةِ في صَدرِهِ على أعدَاءِ اللهِ، تَخَلَّى لَهُ عن قِيادَةِ الجيشِ، ومَضَى إلى «السُّوسِ» لفتحِها.
هَبَّ الرَّبيعُ وجُندُه على المشركينَ هُبُوبَ الإعصارِ، وانْصبُّوا على مَعَاقلهِمُ انصِبابَ الصُّخورِ إذا حطَّها السَّيلُ؛ فمزَّقُوا صُفوفهُم وأَوهنُوا بَأسَهم فَفَتحَ الله «مَنَاذِرَ» للرَّبيعِ بنِ زيادٍ عَنوَةً… فَقَتلَ المقاتلةَ، وسَبَى الذُّرِّيةَ، وغَنِمَ ما شاءَ اللهُ أن يَغنمَ.
لمعَ نجمُ الربيعِ بن زيادٍ بعد معركةِ «مناذرَ» وذاع اسُمه على كلِّ لسان، وأصبح أحدَ القادةِ المَرموقين الذين يُرجَّون لجلائِلِ الأعمال. فلما عزَمَ المسلمون على فتحِ «سِجِستَانَ» عهدوا إليه بقيادةِ الجيش وأمَّلوا على يديه النَّصر.
مَضى الرَّبيعُ بن زيادٍ بِجيشهِ الغازِي في سبيلِ الله إلى سِجِستانَ عَبرَ مَفازَةٍ طُولُها خَمسَةٌ وسَبعُونَ فَرسَخاً، تَعيا عَن قطعِها الوحوشُ الكاسِرةُ من بناتِ الصَّحراءِ. فكان أوَّل ما عَرضَ لهُ «رُستاقُ زالِقَ» وهي مدينة كبيرة حصينة على حُدُود سجستان، وهو رُستاقٌ عامرٌ بالقُصورِ الفخمةِ مَحوطٌ بالحُصونِ الشامخةِ وافرُ الخيراتِ كثيرُ الثِّمارِ. بثَّ القائدُ الأرِيبُ عُيُونَهُ في « رستاق زالق « قَبل أن يَصِلَ إليه، فَعلِم أنَّ القومَ سيحتفلونَ قريباً بمِهرجانٍ لهم، فتربَّصَ بِهم حتى بَغَتَهُمْ في ليلةِ المِهرجانِ على حِينِ غِرَّة، وأعمَلَ في رقابِهمُ السَّيفَ وأخذَهَم عنوةً. فَسبَى مِنهم عشرين ألفاً، ووقَعَ دُهقَانُهُم (كلمة فارسية معناها رئيس الإقليم) في يَدِهِ أسِيراً. وكان بينَ السَّبيِ مملوكٌ للدُّهقان، فوجدَوهُ قد جَمعَ ثلاثَمائةِ ألفٍ ليَحمِلها إلى سَيدهِ، فقال له الربيع: مِن أينَ هذهِ الأموالُ؟! فقال: مِن إحدَى قُرى مَولاي. فقال له: وهَل تُعطيهِ قريةٌ واحدةٌ مِثل هذا المَالِ كلَّ سَنةٍ؟! قال: نعم. فقال: وكيف؟! قال: بفُؤُوسِنَا، ومَنَاجِلنَا، وعَرقِنَا. ولمَّا وضَعتِ المَعركةُ أَوزَارهَا تَقدَّمَ الدُّهْقانُ إلى الرَّبيع يعرِضُ عَليهِ افتِداءَ نَفسِهِ وأهلهِ. فقال له: أفديَكَ إذا أجزَلتَ لِلمسلِمينَ الفِدية. فقال: وكمْ تَبغِي؟ فقال: أَرْكُزُ هذا الرُّمحَ في الأرضِ ثُم تَصبُّ عليهِ الذهَبَ والفضَّةَ حتى تَغمُره غَمراً. فقال: رَضيتُ، واستخرَج ما في كُنُوزهِ من الأصْفرِ والأبيَضِ وطَفِقَ يَصُبها على الرُّمحِ حتى غَطاه.
تَوغَّلَ الربيعُ بن زيادٍ بجيشهِ المنتصرِ في أرضِ سجستَانَ، فَطفَقت تَتَساقطُ الحُصونُ تحتَ سَنَابِكِ خَيلهِ كما تَتَساقطُ أوراقُ الشَّجرِ تحتَ عصفِ رياحِ الخريفِ. وهبَّ أهلُ المدُن والقُرى يستقِبلونَهُ مُستَأمِنِينَ خاضِعِينَ قبلَ أن يُشهرَ في وجُوههمُ السَّيفَ حتى بَلغَ مدينة «زَرَنجَ» عاصمة سجستان. فإذا بِالعدو قد أَعَدَّ لِحربهِ العُدَّةَ، وَكَتبَ (أعد قطع الجيش ونظمها ونسقها) لِلقائهِ الكتائِبَ، واستَقدمَ لمُواجهتِهِ النَّجداتِ، وعَقد العَزمَ على أن يَذُودَهُ (يدفعه) عن المدينة الكبيرةِ، وأن يوقف زَحفَه على سِجِستانَ مهما كان الثمن غالياً. ثم دارتْ بينَ الربيع وأعدائِهِ رحَى حربٍ طحونٍ لم يَضِنَّ عليها أيِّ من الفريقين بما تَطلبته من الضحايا. فلما بَدرَت أولُ بادِرةٍ من بوادِرِ النصرِ للمسلمين رأى مرزبان (رئيس القوم وهي كلمة فارسية) القومِ المدُعو «بَرويز» أن يسعَى لمصالحةِ الربيع، وهو ما تزال فيه بَقيَّةٌ من قُوةٍ، لعلَّه يحظى لنفسِه ولقومه بشروطٍ أفضلَ. فبعث إلى الربيع بن زيادٍ رسولاً من عنِده يسأله أن يَضربَ له موعداً للقائه ليفاوضَه على الصُّلحِ فأجابه إلى طلبِه.
أمَرَ الربيع رجالَه أن يُعدُّوا المكانَ لاستقبالِ «برويزُ» وطلب منهم أن يكدِّسوا حَولَ المجلسِ أكوِاماً من جُثثِ قتلى الفُرسِ، وأن يطرَحوا على جانبي الطريق الذي سيمر به «برويز» جُثثاً أُخرى منثورةً في غيرِ نظامٍ.
وكان الربيعُ طَويلَ القامةِ، عظيمَ الهامةِ، شديدَ السُّمرةِ، ضخمِ الجُثَّةِ، يبعثُ الروع في نفسِ من يرَاهُ. فَلمَّا دَخلَ عليه «برويز» ارتَعدتْ فرائِصُهُ جَزعَاً منهُ، وانخَلعَ فُؤادُهُ هَلعاً من مَنظر القَتلى، فَلم يَجرُؤ على الدُّنوِّ وخافَ فلم يَتقدم لمُصافحتِهِ. وكلمَهُ بلِسانٍ مُتلجِلجٍ مُلتاثٍ، وصَالحَهُ على أن يُقدمَ لهُ ألفَ وَصيفٍ (غلام) وعلى رأسِ كُلِّ وصيفٍ جامٌ (كأس) من الذهب، فَقَبلَ الربيعُ وصَالحَ «برويز» على ذلك. وفي اليومِ التالي دخلَ الربيعُ بن زيادٍ المدينَةَ يَحُفُّ بهِ هذا الموكبُ من الوُصفَاءِ بين تَهليلِ المسلمين وتكبيِرهم، فكان يوماً مَشهوداً من أيَّام الله.
ظلَّ الربيعُ بنُ زيادٍ سيفاً مُصلتاً في يدِ المسلمينَ يَصُولون به على أعداءِ الله؛ ففَتحَ لهُمُ المدُنَ، وولي لهم الوِلايَاتِ حتى آل الأمرُ إلى بني أُميةَ فَوَلاهُ معاويةُ بنُ أبي سُفيان خراسَانَ. بيد أنَّه لم يكن مُنشَرح الصدرِ لهذه الولاية. وقد زادَه انقِباضاً منها وكُرهاً لها أنَّ زياد بن أبيه أحَدَ كبارِ وُلاة بني أمية بعث إليه كتاباً فيه: «إن أميرَ المؤمنين معاويةَ بنَ أبي سفيان يأمرك أن تَستَبقِيَ الأصفَرَ والأبيضَ (كناية عن الذهب والفضة) من غنائمِ الحرب لبيتِ مالِ المسلمين، وتقسم ما سِوى ذلك بين المجاهدين». فكتب إليه يقول: «إني وَجدتُ كتابَ الله عَزَّ وجلَّ يَأمُرُ بغير ما أمرتني على لسان أمير المؤمنين». ثم نادى في النَّاسِ: أن اغدوا على غنائِمِكم فخذوها. ثم أرسلَ الخُمُسَ (القرآن الكريم يجعل خمس غنائم الحرب لبيت مال المسلمين والأخماس الأربعة الباقية تقسم على المقاتلين) إلى دارِ الخلافةِ في دمشق.
ولما كان يومُ الجمعةِ الذي تلا وصولَ هذا الكتابِ، خرجَ الربيعُ بنُ زيادٍ إلى الصلاة في ثيابٍ بيضٍ، وخَطبَ النَّاسَ خطبةَ الجمعةِ، ثم قال: أيُّها الناسُ إني قد مَلَلْتُ الحياةَ، وإني داعٍ بدعوةٍ، فأمِّنوا على دعائي.
ثُم قال: اللًّهُمَّ إن كُنتَ تريدُ بي خيراً فاقبِضني إلَيكَ عاجِلاً غير آجلٍ. فأمَّنَ النَّاسُ على دُعائِهِ. فلم تغِب شمسُ ذلك اليومِ حتى لحق الربيعُ بنُ زيادٍ بجوار رَبِّه.q