حدائق ذات بهجة: الإمام البخاري… نموذج يحتذى به للعلماء وحملة الدعوة
2020/09/11م
المقالات
1,944 زيارة
تيم الله أبو لبن
إنه لا يمكن التقليل من أهمية العلماء الصالحين. فالعلماء هم ورثة الأنبياء كما أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم. وهم كالنجوم التي تتطلع لها بقية الأمة للبحث عن حلول عندما تواجهها محنٌ ومشاكل صعبة. ومع ذلك، فهناك أيضًا من بين العلماء من ذاقوا طعم الدنيا، فهم يشتهون الشهرة والمناصب العليا وأن يشار إليهم بالبنان، ويشعرون بالفخر – وليس بالعار أو بالذنب – عندما يُنظر إليهم وهم على أبواب الحكام الفاسدين. وهؤلاء لا تقوم فتاواهم على ما هو أقرب إلى الحق بل على ما هو أكثر فائدة للطغاة ومصالحهم.
إن العلماء الحقيقيين الذين ارتقَوا إلى مستوى كونهم ورثةً للأنبياء هم الذين ناضلوا في الحياة من خلال النجاح في شيئين:
1- العمل الجاد في البحث عن علوم الدين واكتسابها ونشرها.
2- والثبات على الحق؛ والسعي لرضا الله سبحانه في علومهم.
كان الإمام البخاري من بين هؤلاء العلماء الحقيقيين، فلم يقتصر على اكتساب معرفة هائلة في الدين، المعرفة التي لم تكن افتراضية أو غير عملية؛ بل إن المعرفة التي اكتسبها ونشرها لم تكن مفيدة لجيله فحسب، بل إنها أفادت هذه الأمة حتى يوم القيامة بفضل الله.
لقد كان البخاري أيضًا مثالًا مشرقًا في الإخلاص؛ فلم يهتم إلى إغراءات مؤقتة في هذه الدنيا، ولم يكن مهتمًا برضا الحكام عنه، بل كانت لديه مصلحة واحدة فقط وهي البحث عن رضا الله سبحانه وتعالى من خلال الدعوة إلى دينه والعمل على الحفاظ عليه حتى يكون دينه هو المهيمن على جميع الأديان الأخرى.
هذه المقالة سوف تعطي ملخصًا موجزًا :
1) للمعرفة التي اكتسبها البخاري: كم كان يعمل بجد لاكتسابها ونشرها.
2) لوجهات نظر في حياته تُظهر صدقه الذي لا يوصف وحبه للحق والدين.
المختارات المختصرة التالية من حياة البخاري لن تنصف في إعطاء وصف مفصل كامل عن شخصيته وعمله ومحاكماته. ومع ذلك، نأمل أن تكون بإذن الله، نقاطًا مفيدة لحامل الدعوة ولطالب العلم الذي يقرؤها.
حب فطري وشغف بالمعرفة الإسلامية
ولد الإمام البخاري عام 194هـ في مدينة بخارى في أوزبكستان الحالية، وسمي محمدًا. كان والده، إسماعيل بن إبراهيم، عالمـًا أيضًا تتلمذ على أيدي علماء مثل الإمام مالك. ومع ذلك، فإنَّ البخاري لم يعرف والده ولم يحصل على أي علم منه، فقد توفي أبوه عندما كان البخاريُّ رضيعًا.
لم يمنعه كونه طفلًا يتيمًا من البحث عن المعرفة. فقد حفظ القرآن في سن مبكرة جدًا، وبدأ في حفظ الأحاديث أيضًا. فقد طوَّر اهتمامه وهو صبي صغير في تمييز الأحاديث الصحيحة من الضعيفة. وفي سن الخامسة عشرة تقريبًا، يُعتقد أنه جمع تقريبًا كل علوم الحديث في خراسان حيث كان يعيش. حتى إنه حفظ كتب علماء مثل عبد الله بن المبارك.
وفي سن الـ16، ذهب في رحلة طويلة من بخارى إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج مع والدته وشقيقه أحمد. غير أنه بعد الانتهاء من الحج، لم يعد إلى بخارى مع عائلته. وعلى الرغم من كونه يبلغ من العمر 16 عامًا فقط، إلا أنه كان يعتقد أن الأهم بالنسبة له البقاء في الحجاز حيث يمكنه الوصول إلى العلماء والمعرفة التي لم يكن الوصول إليها متاحًا في بخارى.
كان هذا القرار بترك عائلته لطلب العلم وإفادة الأمة أول علامة رئيسية على إخلاص البخاري وشعوره بالمسؤولية تجاه الأمة، وهو يعيش في عصر لم يتمَّ فيه اختراع الإنترنت ولا حتى آلات الطباعة. وكان واضحًا له أن الكثير من العمل في مجال التحقُّق من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم كان ضروريًا حيث لم يكن هناك عمل كامل في جمع أصح الأحاديث في ذلك الوقت.
وفي غضون عامين – عندما كان يبلغ من العمر 18 عامًا فقط – أكمل أول عمل له في المدينة المنوَّرة. هذا الكتاب الذي سماه «التاريخ الكبير» لم يكن أي كتاب، بل كان كتابًا يتألف من 9 مجلدات وأصبح مرجعًا رئيسيًا لعلماء الحديث؛ لأنه عالج المسألة الأكثر تعقيدًا في علم الحديث: مسألة علم الرجال والجرح والتعديل. وأصبح الكتاب على الفور مرجعًا لعلماء الحديث، ولا يزال مرجعًا حتى هذا اليوم لأنه يتضمن السير الذاتية لحوالى 40.000 من الرواة من الذكور والإناث.
ومن هناك قام من قمة جبل إلى أخرى، متنقلًا عبر المدن الكبرى في العالم الإسلامي، باحثًا عن المعرفة ونشرها، وسرعان ما اشتهر واعتبر بأنه أكثر العلماء دراية في الحديث.
وكان عمله الأكثر شهرة وتقديرًا «الجامع المسند الصحيح المختصر من أُمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه» وهو المعروف أيضًا ببساطة بـ»صحيح البخاري»، الذي كان خلاصة أكثر من 600.000 حديث (23.000 بدون المتون المكرَّرة من الروايات) التي جمعها طوال حياته، والتي لم يجمع منها سوى مجموعة من 7.200 (2.600 بدون المتون المكرَّرة من الروايات) والتي شقَّت طريقها إلى صحيحه! وتثبت أصالته من حقيقة أن أيًا من الروايات في صحيحه لا يرويها راوٍ ضعيف.
هذا العمل هو المرجع الأكثر أهمية عندما يتعلق الأمر بسنة النبي صلى الله عليه وسلم حتى يومنا هذا.
على الرغم من معرفته الواسعة في الحديث، فإن كتاباته لم تقتصر على علم الحديث، بل إنه كتب حتى في الفقه ومسائل في العقيدة؛ لذا، فقد كان فقيهًا مشرق الإيمان، وهذا بحد ذاته شهادة على إحساسه بالمسؤولية كمسلم وبيان لعمله الشاق المذهل في البحث عن المعرفة.
حادثة الدنانير المسروقة المزعومة
كانت إحدى حوادث البخاري، التي كشفت شخصيته الحقيقية، هي الحادثة الشهيرة للدنانير المسروقة المزعومة؛ حيث ذكر الشيخ عبد السلام المباركفوري في كتابه: (سيرة الإمام البخاري سيِّد الفقهاء وإمام المحدثين) حادثة في حياة البخاري، تكفي لإثبات صدق ومستوى المسؤولية التي تُظهر شعور البخاري العميق تجاه الدين والأمة:
«ركب الإمام البخاري البحر مرة في أيام طلبه وكان معه ألف دينار (وكانت الألف دينار مبلغًا طائلًا في ذاك الزمان)، فجاءه رجل من أصحاب السفينة، وأظهر له حبه ومودته وأصبح يقاربه ويجالسه. فلما رأى الإمام حبه وولاءه، مال إليه وبلغ الأمر أنه بعد المجالسات أخبره عن الدنانير الموجودة عنده. وذات يوم قام صاحبه من النوم فأصبح يبكي ويعول ويمزق ثيابه ويلطم وجهه ورأسه، فلما رأى الناس حالته تلك أخذتهم الدهشة والحيرة وأخذوا يسألونه عن السبب، وألحُّوا عليه في السؤال، فقال لهم: عندي صرة فيها ألف دينار وقد ضاعت! فأصبح الناس يفتشون ركاب السفينة واحدًا واحدًا، وحينئذ أخرج البخاري صرة دنانيره خفية وألقاها في البحر، ووصل المفتشون إليه وفتشوه أيضًا حتى انتهوا من جميع ركاب السفينة، ولم يجدوا شيئًا فرجعوا إليه ولاموه ووبخوه توبيخًا شديدًا. ولما نزل الناس من السفينة، جاء الرجل إلى الإمام البخاري وسأله ماذا فعلت بصرة الدنانير؟! فقال: ألقيتها في البحر! قال: كيف صبرت على ضياع هذا المال العظيم؟ فقال له الإمام: يا جاهل… أتدري أنني أفنيت حياتي كلها في جمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرف العالم ثقتي، فكيف كان ينبغي لي أن أجعل نفسي عرضة لتهمة السرقة؟ وهل الدرة الثمينة (الثقة والعدالة) التي حصلت عليها في حياتي أضيعها من أجل دراهم معدودة!!”
هذا التفاني والمثابرة والإخلاص الكامل في جمع السنة النبوية هو شهادة أنه من بين أولئك الذين اختارهم الله سبحانه وتعالى للحفاظ على الدين. قال تعالى: (ثُمَّ أَوۡرَثۡنَا ٱلۡكِتَٰبَ ٱلَّذِينَ ٱصۡطَفَيۡنَا مِنۡ عِبَادِنَاۖ ).
قام البخاري بتدريس أكثر من 90.000 طالب علم طوال حياته، ومن بينهم المحدثَان المشهورَان مسلم والترمذي. فأين كانت الأمة ستكون اليوم بدون صحيح البخاري وصحيح المسلم وسنن الترمذي؟
رفض طلب الحاكم
هذه الحادثة في أواخر عمر البخاري ربما كانت الأكثر أهمية. يعود كرجل عجوز إلى موطنه الأصلي لأول مرة منذ أن تركها في شبابه وأتيحت له الفرصة ليعيش حياة مرموقة. أصبحت هذه الفرصة أكثر احتمالًا عندما تلقى خطابًا من أمير بخارى، خالد بن أحمد الذهلي. فقد روى الخطيب البغدادي في كتابه «تاريخ بغداد»: «أن خالد بن أحمد الذهلي الأمير خليفة الطاهرية ببخارى سأل أن يحضر منزله فيقرأ «الجامع» و«التاريخ» على أولاده فامتنع أبو عبد الله عن الحضور عنده، فراسله أن يعقد مجلسًا لأولاده لا يحضره غيرهم فامتنع عن ذلك أيضًا وَقَالَ: لا يسعني أن أخص بالسماع قومًا دون قوم».
هذا الموقف المذهل من البخاري هو ما يعرّفه في نهاية المطاف بأنه عالم حقيقي ومن ورثة الأنبياء. ما الذي يمكن أن يكون أكثر شهرة من إتيان قصر الحاكم والجلوس معه بشكل خاص وعائلته، من شأنه أن يسأل شخص عادي؟ لا شك في أنه قد تمَّ تقديم تعويض مالي كبير عن التعليم ناهيك عن تعليم أبناء الأمير.
لن يفكر العلماء اليوم لبرهة لو تلقَّوا دعوة من أحد حكام الأمة لحضور فساد رفاهيتهم في قصورهم. على الرغم من أن هؤلاء الحكام يحكمون بغير الإسلام ويطلبون من العلماء إضفاء الشرعية على أعمالهم غير الشرعية.
بالمقابل رفض البخاري طلب الأمير على الرغم من أن أمير بخارى لم يكن يحكم بالكفر البواح كحكام اليوم، بل حكم بالشريعة! كما لم يُطلب من البخاري أن يعطي فتاوى غير مشروعة، بل أن يعلِّم أبناء الحاكم الذي من الواضح أنه يريد أن يستفيد أولاده من معرفة السنة، التي هي فضيلة وليست رذيلة!
إن جواب البخاري «لا يسعني أن أخص بالسماع قومًا دون قوم» يُظهر إحساسه بالمسؤولية كعالم تجاه الدين والأمة. فقال إنه لن يقبل أن تكون معرفة الإسلام محدودة أو أن تُدرَّس حصرًا لأشخاص معينين. بل ينبغي أن تكون في متناول الأمة كلها وجميع المسلمين.
بكلمات أخرى، لقد أجاب الأمير: «هل تريد أن يتعلم أبناؤك؟ إذن دعهم يحضرون حلقات المساجد مثل جميع الأشخاص الآخرين». ما هذه الشجاعة التي لا توصف؟! وما هذا الإخلاص الذي يمتلكه هذا الرجل؟! هذا باحث حقيقي عن الإسلام! جاء هذا الموقف في نهاية المطاف على حساب دنياه؛ لأنه في وقت لاحق تم طرده من مدينته الأصلية، وتوفي دون أن يحاط بالتقدير والدعم الذي يستحقهما. مكانته في الآخرة، لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يكون في أعلى الدرجات.
كيف يجب علينا أن نحمي إرث البخاري اليوم؟
على الرغم من أن البخاري عاش في وقت كان فيه انتشار كبير للعلماء الكبار، إلا أن هذا لم يمنعه من العمل، واستفاد من العصر الذهبي للإسلام وازدهار المعرفة الإسلامية، زمن العلماء مثل الإمام أحمد والشافعي.
غير أن ذلك لم يتسبَّب في تراجع دافعه أو إحساسه بالمسؤولية إلى أدنى حد. على الرغم من أن هذا كان عصرًا كان الإسلام يسيطر فيه على العالم. وكانت هذه الفترة التي ترقى فيها الأمة إلى مستوى وصف كونها أفضل أمة للبشرية. فقد كانت الخلافة حاضرة، وكانت الشريعة هي المصدر الوحيد للتشريع في البلاد الإسلامية.
على الرغم من كل هذا فقد كرَّس حياته كلها للعمل من أجل دين الإسلام. ولم يكن راضيًا أبدًا عما هو أقل من الكمال، ولا يمكن أبدًا أن يكتفي بفعل القليل، ولم يضيِّع وقته في السعي أو التنافس في أمور الدنيا.
فكيف يمكن للمرء اليوم أن يبرر السلبية والإهمال في حمل الدعوة والعمل من أجل إحياء دين الله، ونحن نعيش في زمن لا وجود فيه للخلافة؟ في فترة يتم فيها تطبيق قوانين من صنع الإنسان في العالم الإسلامي كله ويتم الاعتداء على شرف وحياة المسلمين كل يوم؟
لذا دعونا نسعى جاهدين لنكون من بين أولئك الذين اختارهم الله لحمل رسالة الدين. (ثُمَّ أَوۡرَثۡنَا ٱلۡكِتَٰبَ ٱلَّذِينَ ٱصۡطَفَيۡنَا).
لم يكن الإسلام غريبًا في حياة البخاري كما هو اليوم، لذا دعونا نسعى جاهدين للعيش من أجل أن نكون من بين الغرباء الذين سيصلحون ما أفسده الناس من خلال العمل من أجل رفعة الدين الإسلامي. «بَدَأَ الإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ».
2020-09-11