من المعلوم أن الصفقة تبرم عادة بين الأطراف ثم يجري التعامل بحسبها، وأن الاتفاقية تعقد ثم يجري الالتزام ببنودها، إلا «صفقة القرن» هذه، فإنها وإن كانت لا تختلف عن سابقاتها من اتفاقيات الخزي والعار من حيث تكريس وتشريع الاحتلال ومزيد من السطو على الأرض؛ ولكنها تختلف عنها أنها يُعمل على تنفيذ بنودها قبل أن تعرف هذه البنود وتقرَّ في اتفاقية عار جديدة تحت هذا الاسم. وترامب أخذ قرار الاعتراف بالقدس عاصمة لـ(إسرائيل) ونقل السفارة الأمريكية إليها، ووافق على ضم أجزاء من الضفة وغور الأردن إليها وغيرها من القرارات قبل أن يجري الاتفاق على أي شيء بشأنها، ومن المعلوم أن أي اتفاقية تقتضي وجود طرفين… فأين الطرف الآخر؟
نعم، إنه بعد أن أعيا حل قضية فلسطين الجميع، وأيِست أمريكا هي وكل المجتمع الدولي من حل قضية فلسطين على الطريقة المعهودة، وأيِست من المسلمين من أن يهضموا أي حل من خارج دينهم؛ وأيِست من الحكام من أن يقنعوا شعوبهم بالحلول الأممية… إذًا فلتكن صفقة الأمر الواقع. ولتسر بشكل معكوس يخالف نظام الأمور، وهو «وضع العربة أمام الحمار» لتجرها إلى الوراء لا إلى الأمام؛ وكان ابن زايد أكثر من يمثل هذه النظرية بإعلانه التطبيع الكامل مع يهود قبل غيره، ويتم تداول الحديث على أن هناك آخرين من مثله من أشباه الحكام في الخليج ينتظرون أن يُضموا إليه ليكون سوقها إلى الهدف الذي رسموه محكمًا؛ ولكننا نقول لهم إنَّ أمثال هؤلاء أينما يوجههم صاحبهم لا يأتون بخير… هكذا هي الأمور بكل بساطة، الاعتماد في هذه الصفقة على حكام المسلمين العملاء الوضعاء الرخيصين، ومن ثم فرض ذلك عل المسلمين فرضًا. الفارق الوحيد بين هذه الصفقة وبين ما سبقها أنها صفقة مع حكام، وليس لأحد رأي غير ما تقرره أمريكا و(إسرائيل). وهي للتنفيذ فحسب، ولن يكون للمسلمين، ولا حتى لأهل فلسطين رأي فيها، وما على الجميع إلا أن ينقادوا لها.
إن الإعلان عن هكذا نوع من الاتفاقيات إنما يعبر عن وجود فشل ومأزق لم تستطع أمريكا تجاوزه إلا بهذه الطريقة. وإن الإعلان عنها بهذه الطريقة لا يمكن فصله عن محاربة الإسلام السياسي الذي بات يشكل حجر الزاوية في السياسة الدولية لأمريكا في المنطقة، والذي بات العائق الأكبر أمام مصالحها. وهي لم تستطع حتى الآن القضاء عليه بالرغم من أن في يديها أوراق اللعبة كلها، لأنه متغلغل في الرأي العام لدى المسلمين، وهو يشكل حالة من الوعي العام لديهم لدرجة لا يستهان بها، والذي لا تقدﱢر أمريكا فاعليته. بل إن ما تعطيه أمريكا من دور قذر لكل من حكام إيران، وتركيا والسعودية، وهي الدول الأكثر ادعاء أنها تمثل المسلمين. فإنه يقوي هذا الوعي العام ولا يضعفه. فحكام السعودية اليوم مثلًا هم عند المسلمين في الحضيض، وليسوا هم وحدهم، بل مع العلماء الذين يتبعونهم في مواقفهم. إذًا ما زال للمسلمين مواقف حية تخفض وترفع، وليس كما تظن أمريكا أنهم سيكونون تبعًا لحكامهم أو تبعًا لقراراتها. وأما إيران فإنها بمواقفها العدائية للمسلمين وبسبب تقاطعات المصالح المشتركة الكثيرة مع أمريكا في نظرهم في كل من أفغانستان والعراق واليمن وسوريا ولبنان، أصبحت عدوة للمسلمين، وعداء المسلمين لها عداء حي، يعني أن الأمة تتربص بإيران وتريد أن تنتقم منها لما تفعله بإخوانهم ويعتبرونه لمصلحة أمريكا عدوتهم. وحتى أردوغان فإن المسلمين يسجلون عليه الأخطاء الشرعية القاتلة، وهو إن استطاع أن يغش المسلمين بعض الوقت فإن هناك من يترصد أخطاءه المميتة ويفضح دوره، ويظهر لدى فئة واعية واسعة من المسلمين وعي عام على ما يفعله، واستغلاله للبسطاء من المسلمين هو محل انتقاد وتذمر واستهجان واتهام له لدى الواعين منهم، وسينتهي مثله مثل غيره إلى مزبلة التاريخ. حتى ما تقوم به أمريكا من فتح باب اضطهاد المسلمين في كل مكان من العالم يجعل المسلمين يصحون أكثر على دينهم. وبمعنى آخر إننا لسنا أمام أمة ميتة، بل نحن أمام أمة حية تكمن فيها كل مقومات القوة، وهي تنتظر بشوق لتأخذ دورها من جديد في الحياة.
وقضية فلسطين هي من أهم قضايا هذه الأمة الحية بدينها، والتي لن تستطيع لا «صفقة القرن» ولا مهرجها ترامب، ولا حميره الذين يسخرهم أن يفرضوها على الأمة. نعم يستطيع أن يفرضها على الحكام، وأن يجعلهم يقفون معه جهارًا نهارًا (أصلًا هم متى لم يكونوا كذلك) ولكن هذا لن يغير عند المسلمين شيئًا. وهذه الصفقة تعتبر من أفشل الصفقات والاتفاقيات. ولن يحصل فيها إلا سلام مزعوم، واليهود يعرفون ذلك، ولكنه تطبيل وتزمير فارغين، واستحمار واستغلال لأموال أشباه الحكام في الخليج الذين يسرقون أموال الأمة من النفط ليضعوها في جيوب اليهود، وما أدراك ما يهود، عبَّاد المال،وأخسُّ شعوب الأرض.
إن قضية فلسطين منذ نشأتها هي بالنسبة للغرب ويهود قضية استعمارية قائمة على شراكة بينهم، هي خنجر مسموم مغروز في صدر الأمة ليبقى بالنسبة إلى الغرب عنصر إضعاف واستنزاف مستمر للمسلمين… أما بالنسبة للمسلمين فهي قضية عقائدية جهادية بامتياز، ولا تحلُّها عندهم قرارات أممية ولا اتفاقات خيانية؛ لذلك لم ولن يتنازل المسلمون عن شبر منها، وهي لم تتقدم خطوة واحدة في ساحة الإسلام والمسلمين، نعم، إن قضية فلسطين هي قضية إسلامية أولًا، ثم هي قضية المسلمين، كل المسلمين، الذين عليهم أن يطبِّقوا أمر ربهم في الحفاظ على إسلاميتها ثانيًا، ثم هي قضية الحكام الذين يختارهم المسلمون على أساس الحكم بالإسلام بوصف هؤلاء الحكام اختارتهم الأمة وأنابتهم عنها في تطبيق شرع ربها، وليس هؤلاء الحكام الخائنين لله ولرسوله ولدينه وللمسلمين والذين اختارهم الغرب ليكونوا أمناء مشاريعه ونواطير مصالحه.
ثم إن المسلمين لديهم تصور واضح من دينهم عن يهود منذ موسى عليه السلام إلى قيام الساعة، وماذا سيحل بهم، وكيف ستكون نهايتهم واستئصال دولتهم من الوجود على أيدي المسلمين بوصفهم مسلمين لا بأي وصف آخر. فالله سبحانه قد ذكر عنهم فقال: (وَقُلۡنَا مِنۢ بَعۡدِهِۦ لِبَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ ٱسۡكُنُواْ ٱلۡأَرۡضَ) أي قلنا من بعد موسى لبني إسرائيل اسكنوا الأرض، أي مبعثرين ومشتتين، ليس لهم مكان محدد ولا وطن قومي يعيشون فيه، فكان لهم في كل بلد شرذمة قليلون يعيثون فيها فسادًا وإفسادًا، فيقوم أهل تلك البلاد وحكامهم بسومهم سوء العذاب بين الحين والحين، نتيجة إفسادهم، وفي ذلك قال تعالى: (وَإِذۡ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبۡعَثَنَّ عَلَيۡهِمۡ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ مَن يَسُومُهُمۡ سُوٓءَ ٱلۡعَذَابِۗ) وهذا ما شهد عليه التاريخ فعلًا حيث كان ينالهم من النَكال والعذاب والتشريد والقتل على يد مختلف الأمم والدول التي كانوا يعيشون فيها كأقليات مفسدة متهمين إياهم بزرع الفساد وبذر الشقاق ونشر البغاء وأخذ الربا وأكل أموال الناس بالباطل وتأريث الحروب… فعندما كانوا متفرقين كان ينزل عليهم العذاب من الدول التي يعيشون فيها، وليس الاستئصال. ولكن لما أراد الله سبحانه أن يستأصلهم من الوجود قضى بجمعهم في مكان واحد، في دولة، في كيان واحد حتى يتم استئصالهم فيه، وفي هذا ذكر الله تعالى: (فَإِذَا جَآءَ وَعۡدُ ٱلۡأٓخِرَةِ جِئۡنَا بِكُمۡ لَفِيفٗا) وجعل لهم علوَّين يفسدان به. فالعلو الأول المفسد كان القضاء عليهم بعباد مؤمنين لله أولي بأس شديد بقوله: ( فَإِذَا جَآءَ وَعۡدُ أُولَىٰهُمَا بَعَثۡنَا عَلَيۡكُمۡ عِبَادٗا لَّنَآ أُوْلِي بَأۡسٖ شَدِيدٖ فَجَاسُواْ خِلَٰلَ ٱلدِّيَارِۚ وَكَانَ وَعۡدٗا مَّفۡعُولٗا ) وقد حصل هذا زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وبعد العلو الأول والإفساد الأول لم نسمع عن اليهود إلا أنهم متفرقون متشرذمون تمتد إليهم أيدي الدول تسومهم سوء العذاب، وكان من أبرز ذلك ما فعله هتلر بهم نتيجة إفسادهم لشعبه. أما العلو الثاني المفسد فهو في هذا الزمن الذي تجمع فيه اليهود بإعلان دولة نجسة في أرض فلسطين المباركة؛ وكان ذلك بحبل من كل دول الكفر وبقيادة بريطانيا، واليهود إن ظنوا أنهم قد حققوا لأنفسهم وطنًا قوميًا يجمعهم ويحميهم، ولكنهم لا يعلمون أن وراء ذلك إرادة من الله قضت بتجمعهم لاستئصالهم. وهذا العلو الثاني المفسد لليهود ينتظر عباد الله المؤمنين ليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة، وذلك بقوله تعالى: ( فَإِذَا جَآءَ وَعۡدُ ٱلۡأٓخِرَةِ لِيَسُُٔواْ وُجُوهَكُمۡ وَلِيَدۡخُلُواْ ٱلۡمَسۡجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٖ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوۡاْ تَتۡبِيرًا ٧)
فاليهود قد حكم الله عزَّ وجلَّ بأنهم سيتجمعون وذلك لأنه سبحانه يريد استئصالهم وزوال دولتهم؛ لذلك نقول لهم اعملوا ما شئتم فإن اليوم الموعود، سيكون هو اليوم المشهود، يوم استئصالكم، وهو لم يعد متأخرًا، وينتظره المسلمين بفارغ الصبر، وسيكون على أساس الإسلام وبيد مسلمين عباد لله، كما بشَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «تقاتلكم اليهود فتسلَّطون عليهم، ثم يقول الحجر: يا مسلم هذا يهودي ورائي فاقتله» وسيكون ذلك في زمن خلافة موعودة وعدنا إياها الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: «ثم تكون خلافة على منهاج النبوة» والتي سيكون لها شأن بأن تحكم العالم مشرقه ومغربه بإذن ربها، وتدعو إلى صراط الله العزيز الحميد، وذلك بقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عَنْ ثَوْبَانَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ زَوَى لِي الأَرْضَ، فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا» ولكن ليس لنستعمر الشعوب ونظلمها وننهب خيراتها، كما يفعل الغرب، بل لإخراجهم من ظلمات استعباد البشر للبشر إلى أنوار الهداية الربَّانية، من أجل إدخال الناس في دين الله أفواجًا، من أجل أن تكون كلمة الذي كفروا السفلى، وكلمة الله هي العليا… هذا وعد من الله غير مردود، وغير مكذوب، وإن غدًا لناظره قريب.