حمد طبيب – بيت المقدس
في ظل غياب شمس الإسلام الوضَّاءة، عاشت البشرية سنوات من الظلام والضلال والضياع الواسع العريض، ومن التشتُّت والتفرُّق والتمزُّق والاقتتال والتطاحن، ومن التيه الكبير في دياجير الظلم والظلام… فتنقَّلت بين مبادئ وأفكار عدة تبحث عن درب النجاة من تيهها، وعن سبل الخلاص من شقائها وتعاستها؛ تتلمس شعاع نورٍ هنا وهناك علّها تخرج من كل ذلك؛ إلا أنها كانت، في كل مرة، تدخل في تيه جديد، وتقع في ظلمٍ وظلامٍ أشدَّ وأنكى من سابقه. وأخيرًا وجدت نفسها أمام حقيقة ساطعة لا لبس فيها ولا خفاء ولا مراء، هذه الحقيقة هي: إن عقول البشر وما صاغته من أفكار ومبادئ وقوانين وتشريعات، إنما هو سرابٌ بقيعةٍ يحسبه الظمآن ماءً، حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا!!
هذا بالفعل ما حصل منذ أكثر من مئة عام أو يزيد قليلًا عندما هُدمت دولة الخلافة، وغاب حكم الإسلام عن وجه الأرض، وأصبح المسلمون بلا دولة وبلا تأثير حقيقيّ لدين الإسلام العملي في حياة البشر، وأصبح هذا الدين لا يحمل إلى البشرية بالطريق الصحيح لتعرفه عن قرب وتعايشه وترى حسن تطبيقه في الحياة، وأصبحت البشرية كلها ترزح تحت قوانين الأرض المضلِّلة لا قوانين السماء الهادية.
لقد ثارت الشعوب فيما يسمى بالعصور الوسطى في أوروبا بسبب ظلم وتسلُّط الكنيسة، ثم تخلَّصت الشعوب منها بعد ثورةٍ دامية كلَّفتها الملايين من الأنفس؛ لتجد نفسها في نهاية المطاف بلا فكرٍ ولا دينٍ ولا قوانين تحكم حياتها، فأخذت تفكر وتقدر، ثم تفكر وتقدر؛ لتضع لنفسها منهجًا جديدًا، بدل قوانين الكنيسة الظالمة. فاهتدت أخيرًا إلى وجوب فصل الدين (الكنيسة) عن الحياة وأنظمتها، وهي فكرة (الحل الوسط) وفصل الدين عن الحياة التي ابتدعوها من عقولهم وأهوائهم؛ لكن فكرة (الحل الوسط) وفصل الدين عن الحياة لا ينتج نظامًا ولا يؤسس لتشريعات جديدة؛ فأخذوا يبحثون عن فكرة أخرى تبنى عليها تشريعاتهم العملية في الحياة؛ فاهتدوا إلى فكرة الحريات وبنَوْا عليها أفكارًا جديدة، كالديمقراطية وحقوق الإنسان والتعددية… وغيرها من أفكار تتصل بهذه الركائز الأساسية. لقد كانت الحريات هي الأساس الجديد المنبثق عن فصل الدين عن الحياة والحل الوسط؛ وهي في الحقيقة عبارة عن ردة فعل على ظلم الكنيسة، ولم تكن هذه الفكرة مبنية على أساس فكري سليم عندما وُضعت وعندما اتخذت أساسًا للحياة الجديدة؛ فكانت الحرية هي أساس لكل الأفكار في جميع المجالات والتشريعات الجديدة: في النظام الاقتصادي، والنظام الاجتماعي، والنظام السياسي، وأنظمة الحكم… وغير ذلك من أمور الحياة، ثم تبلورت أفكار جديدة لهذا النظام في القرن السادس عشر الميلادي؛ على يد المفكر الغربي آدم سميث، سطَّرها في كتابه الشهير «ثروة الأمم». وقد ارتكز على فكرتين أساسيتين هما:
1- الحرية الاقتصاديَّة، وما يتلوها من حقِّ الملكيَّة والميراث والرِّبح.
2 – قوانين السُّوق القائمة على المنافسة الحرَّة.
فكان آدم سميث هو المؤسس لهذا النظام الجديد (النظام الرأسمالي).
لم يلتفت الغرب أن النظام الصحيح يجب أن يرتكز على أسسٍ صحيحة، ولم يدركوا أن العقل البشري مهما كان مبدعًا لا يمكنه أن يضع نظامًا صحيحًا مستقيمًا للبشرية؛ لذلك بدأت المعاناة الجديدة بسبب ظلم هذا النظام الجديد؛ فكانت هناك عدة أزمات مالية ونفسية وحياتية. ففي سنة 1886م حصلت أول ثورة على هذا النظام، وهي ثورة العمال على أرباب العمل، وكانت هذه الثورة في قلب دولة النظام الرأسمالي (أمريكا) في مدينة شيكاغو؛ حيث ثار العمال على أرباب العمل في مصانع النسيج للمطالبة بأجور أعلى وساعات عملٍ أقل؛ فحُدِّدت بعد ذلك ساعات العمل بثماني ساعات، ووُضع حدٌّ أدنى للأجور.. وكان هذا أول خرق للنظام الرأسمالي في تدخل الدولة في ضبط سوق العمل وسوق الأجور، وهي بمعنى آخر أول خرق لنظرية حرية السوق. ولم يقف الأمر عند حد العمال والأجور وساعات العمل، بل إن طبيعة النظام الرأسمالي وفكرة الحرية قد جلبت الكثير من المتاعب والأزمات، وحصلت على أثرها خروقات كثيرة في أسس هذا النظام وتدخلات من الدولة في سياسات جديدة تخالف الأفكار الأساسية في الحرية وخاصة حرية السوق.
-
لقد جلب هذا النظامُ الماديُّ الجشعُ الكثيرَ من المتاعب والعديدَ من الأزمات كان آخرُها الأزمةَ التي حصلت سنة 2008م، وما زالت آثارها حتى يومنا هذا، لم يتعافَ منها المجتمع الرأسمالي بشكل خاص والعالم بشكل عام؛ وذلك نتيجة ما يحتويه من عقيدة فاسدة سقيمة (عقيدة الحل الوسط) التي لا تقنع عقلًا ولا توافق فطرةً، وما وضعته من أفكار واهية هابطة أساسها الحريات الغريزية، وتشريعات باطلة تستند إلى فكرة الحريات الهابطة. ولعلَّ من أبرز هذه المتاعب التي جلبها هذا النظام وما زال في معظم دول العالم:
1- تغليب الجانب المادي النفعي على كل الجوانب الأخرى: الإنسانية والروحية والأخلاقية، وما يجب أن يكون عليه المجتمع من قيمٍ رفيعة وأخلاقٍ سامية نبيلة. وهذه النظرة قد جلبها هذا النظام ورسّخها في عقول الناس من أتباعه؛ بسبب الأفكار التي أسس عليها قوانينه وطريقة عيشه وسلوكياته في الحياة تجاه البشر بشكل عام، وتجاه بعضه البعض بشكل خاص. وهذا الأمر قد جلب على البشر المتاعب الكثيرة والمتعددة، منها التطاحن على الثروات وعلى تكثير الثروة دون النظر إلى النواحي الأخلاقية والسلوكيات؛ فلا مانع من ممارسة البغاء من أجل المال، ولا مانع من بيع الأفيون والحشيش من أجل المال والشهوات والثروات حتى لو دمر المجتمع بأكمله، ولا مانع من السيطرة على ثروة الفقراء وجهودهم وتعبهم من أجل جني أكبر قدر من المال، ولا مانع عند الدول الرأسمالية من أن تقوم بأعمال خسيسة تجاه شعبها أو تجاه شعوب أخرى من أجل تحقيق منافع الرأسماليين الكبار، كما جرى في الحرب العالمية الأولى والثانية، وكما جرى في أحداث 11 أيلول 2001م. وكما هو حاصل هذه الأيام من إهمال للبشرية في الجانب الطبي وهي تصاب بالملايين بفيروس كورونا ويهددها الموت من أجل بيع الدواء واحتكاره. وقد تخلَّت الدول الأوروبية عن بعضها بعضًا تجاه هذا المرض كما حصل بتخليها عن صربيا، وحتى داخل المجتمع الواحد والدولة الواحدة تخلَّى المجتمع عن بعضه البعض، وأخذ يحسب الأمر بالحسابات المادية والنفعية؛ وذلك كما حصل من رئيس وزراء بريطانيا عندما أراد أن يحجر على الكبار في السن، فوق السبعين عامًا، ويترك باقي الناس بلا حجر ولا مراقبة فثار المجتمع في وجهه. وأيضًا ما جرى في إسبانيا عندما تركوا النزلاء في إحدى دور المسنين يموتون وحدهم بلا علاج ولا رعاية. وكل ذلك كانت حساباته مادية نفعية غير مبنية لا على نظرة إنسانية ولا أخلاقية.
2- النظام الطبقي المقيت الذي قسم المجتمع إلى طبقتين: طبقة الأغنياء المتحكمين في كل شيء، وطبقة الفقراء الكادحين. وهذا النظام الطبقي قد جلبه النظام الاقتصادي الذي مكَّن الأغنياء من ثروات المجتمع، بسبب حرية التملك والتصرف بالملك وتنمية الملك. فلو نظرنا إلى أي بلد من بلاد الغرب، لرأينا أن فئة قليلة لا تتجاوز 2% تمتلك حوالى 95% من الثروة، وفي المقابل فإن 98% لا يملكون سوى 5% من تلك الثروة. وهذا الأمر (النظام الطبقي) انعكس على مستويات العيش والنظرة إلى الفقراء، حتى إن المجتمع برمته لا يقيم وزنًا للفقراء، ويمجد ويحترم الأغنياء. جاء في الموسوعة السياسية للكيالي: (… ولقد ميَّز النظام الرأسمالي بين الطبقتين في المجتمع الرأسمالي: طبقة الرأسمالية (البرجوازية)، والطبقة العاملة (البروليتاريا)؛ وبذلك يكون رأس المال قد قطع شوطًا كبيرًا في سيطرته على الإنتاج، وقد ساعدت العديد من العوامل والمؤثرات في تحقيق هذا التحول…)
3- آفة الفقر، سواء في الدول الغنية المتقدمة أم الدول المسماة بالنامية، وما ترتَّب عليها من آفات متعددة قد تصل إلى المجاعات والموت في بعض الدول. ولا يسلم من آفة الفقر بسبب النظام الرأسمالي الجشع حتى أكبر الدول التي تعتنق هذا المبدأ في أوروبا وأمريكا. فقد ذكرت (شبكة سي سي تي)؛ في تقرير لها نقلًا عن مركز الإحصاء الأمريكي: (بأن 45 مليون إنسان يعيشون تحت خط الفقر في الولايات المتحدة الأمريكية). ومن أسباب الفقر النظام الاقتصادي الرأسمالي الذي أطلق الحريات في الملكية ففتحت المجال لأصحاب المال ليستحوذوا على الفقراء. وأيضًا جعل هذا النظام الثمن هو المنظم للتوزيع والحافز على الإنتاج، ولم يترك أي مجال للناحية الخلقية أو الإنسانية، وفي الوقت نفسه مكَّن حفنة من المتحكمين بحيازة الثروات العامة وحرم منها الطبقة الكبيرة في المجتمع، وزاد الطين بلة المؤسسات الربوية والشركات العملاقة حيث زادت فقر الفقراء بسبب استغلالها لجهود العمال؛ لذلك فإنك تجد الطوابير من الفقراء في أي بلد رأسمالي، وتجد الآلاف ممن ينامون في الشارع ويقتاتون من حاويات القمامة.
4- الآفات المجتمعية الخطيرة، والأمراض الفتاكة التي ارتبطت بفكرة الحريات الشخصية والجشع الرأسمالي والعنصرية والطبقية التي أنتجها هذا النظام، والتفكك الأسري وتغليب الشهوات على القيم والأخلاق النبيلة. وأبرز الآفات: انتشار القتل في دول أوروبا وأمريكا بأرقام مخيفة، وانتشار آفة المخدرات بسبب النظرة المادية المستحكمة في نفوس المجتمع الرأسمالي، وكذلك انتشار الفساد الأخلاقي والزنا ودور البغاء دون رادع ولا وازع في كل العواصم الأوروبية والأمريكية، وهذا جلب أمراضًا فتاكة ليس لها علاج، وهذه تتسبب بحالات رهيبة من الموت في كل عام، فقد ذكر موقع الأمم المتحدة حول مرض الإيدز بتاريخ 1/12/2018م، قال: (… هناك 9.4 ملايين شخص مصاب بفيروس نقص المناعة البشرية لا يعرفون وضعهم. في حين بلغ عدد المصابين الكلي منذ اكتشاف المرض عام 1988م 38.5 مليون شخص مصاب بالفيروس حتى 2017م). ومن الآفات المجتمعية أيضا اللقطاء بسبب حالات الطلاق والزنا؛ حيث كشف مكتب الإحصاء الاتحادي أن ألمانيا سجلت خلال عام 2010م أكبر عدد من الأطفال المولودين خارج إطار العلاقة الزوجية في تاريخها، وبلغ عددهم أكثر من 225 ألف طفل؛ ما يرفع عددهم إلى أكثر من الضعف خلال العشرين عامًا الأخيرة. وذكر تقرير أمريكي نشرته جريدة الرياض بتاريخ 19/11/2014م، أن نحو 2.5 مليون طفل يعيشون بلا مأوى في الولايات المتحدة؛ وهو عدد غير مسبوق حتى الآن للأطفال المشردين في أمريكا. وأما موضوع القتل والجريمة؛ فقد ذكر مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي (إف بي آي) عن عام 2016م، وقوع مليون و248 ألف و185 جريمة عنف في أنحاء البلاد، أي بمعدل 386.3 جريمة من هذا النوع بين كل 100 ألف شخص، وتشمل جرائم العنف، القتل العمد، والقتل عن طريق الخطأ، والاغتصاب، والسرقة والتعدي باستخدام القوة. وبيّن التقرير الذي اعتمد على إحصائيات تم جمعها من 16 ألفًا و782 موقعًا من بين 18 ألفًا و481 موقعًا من مختلف أنحاء البلاد، إلى أن عدد جرائم القتل فقط في عام 2016م، بلغ 17 ألفًا و250 جريمة، مقارنة بــ15 ألفًا و696 عام 2015م. ووصل عدد جرائم الاغتصاب في 2014م إلى 95 ألفًا و730، بزيادة 4.9% عن عام 2015م الذي شهد 90 ألفًا و158 جريمة اغتصاب. وفي تقرير أصدره مركز «The Gun Violence Archive» المتخصص في توثيق حوادث عنف السلاح داخل الولايات المتحدة، يتحدث المركز أن معدل جرائم القتل المرتبطة بالأسلحة عام 2019م وصل إلى 8782 قتيلًا و17435 مصابًا، من بينهم 396 جريحًا وقتيلًا من بين الأطفال، و255 في إطلاق نار جماعي.
5- التحكمات السياسية، وسلب حرية الاختيار الصحيح.. سواء في النظام الانتخابي، أو في ترشح الأغنياء دون الفقراء بسبب تكاليف الحملات. وهذا الأمر سببه هو تغليب النظرة الرأسمالية في حياة الغرب على كل شيء، فلا يستطيع الفقير أن يترشح ولا أن يقيم دعايات انتخابية، مع أن فكرة الديمقراطية التي ينادون بها؛ هي عكس ذلك تمامًا؛ حيث تدعو إلى حرية الترشح وحرية الانتخاب. وعندما تصل الطبقة السياسية الرأسمالية إلى سدة الحكم فإنها تفرض نفسها في وضع القوانين وتتحكم في القرارات السياسية بما يخدم مصالحها الرأسمالية لا مصلحة عامة الناس؛ لذلك فإن أغلب الاستعمار السياسي سببه مصالح الشركات ورؤوس المال في الغرب. يقول جيم مارس في كتاب «الحكم بالسر»: في إجابته عن السؤال: من يحكم العالم؟ قال: (هُم الذين يتمكَّنون – عادةً – من التَّسبُّب باندلاع الحُرُوب وإيقافها. كما يتحكَّمون بأسواق الأسهم الماليَّة ونِسَب الفوائد على العُملات). وإذا نظرنا فعلًا إلى الواقع العملي، فإننا لا نرى الشعوب في أوروبا ولا أمريكا يضعون التشريعات ولا يشاركون بها، مع أن السيادة في النظام الرأسمالي هي للشعب.
6- الأزمات والمشاكل النفسية. وربما يستغرب الإنسان لأول وهلة فيقول: المجتمع الغربي مجتمع راقٍ صناعيًا وتكنولوجيًا، وتتوفر فيه الأموال والصناعات. فالأصل أن يشعر فيه الفرد بالراحة النفسية والهدوء؛ ولكن العكس هو الحاصل، فأكثر حالات الانتحار هي في الدول الإسكندينافية الأكثر ثراء في العالم، فما السبب؟ إن السبب هو أن الراحة والسكينة سببهما ليس خارجيًا يتعلق بوفرة الإنتاج ولا التقدم الصناعي، إنما هو داخلي يتعلق بالطمأنينة الفكرية والقلبية والنفسية، وهذا لا يتأتى إلا إذا حصلت الطمأنينة الداخلية عند الإنسان، هذا عدا عن أن النظام الطبقي يولد الكراهية وعدم الراحة وعدم الاستقرار في المجتمع. ففي بيان لـ(منظمة الصحة العالمية) سنة 2019م، جاء فيه: (… إن ما يقرب من 800000 شخص ينتحرون سنويًا، أي أكثر من أولئك الذين تتسبب أمراض الملاريا أو سرطان الثدي أو الحروب والقتل بوفاتهم، واصفة الانتحار بأنه «قضية صحية خطيرة في العالم»، وقال بيان (منظمة الصحة العالمية): «يقارب عدد الرجال الذين ينتحرون في البلدان المرتفعة الدخل؛ ثلاثة أضعاف عدد النساء، على عكس البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل، حيث إن المعدل متساوٍ). وذكر (المرصد الصحي السويسري) الحكومي في عملية مسح أجراها: (أن قرابة 8% من إجمالي السكان في سويسرا (8.5 مليون) قد جرَّبوا التفكير في الانتحار على الأقل مرة واحدة خلال الأسبوعَيْن اللذَيْن سبقا المسح). وسويسرا تعتبر من الدول الإسكندينافية الغنية.
7- الانحلال المجتمعي بسبب النظرة النفعية والمصلحية، وبسبب غياب الرعاية الصحيحة في الدول الرأسمالية. وهذا من الآفات الكبيرة التي يعاني منها المجتمع. فالأسرة مفكَّكة بسبب النظام الاجتماعي السقيم، وبسبب انعدام الوازع الأخروي الديني. والعلاقات بين الأقرباء واهية ومفككة وضعيفة؛ لأن موضوع القرابة تسيِّره المصالح لا الوازع الديني، فلا غرابة إذا رأيت الولد لا يعرف عن أبيه شيئًا بعد سن معينة، ولا غرابة إذا رأيت الوالد أو الولد يموت ولا يعرف عن موته أبيه أو ابنه. يقول الكاتب ديفيد بوبينو في كتابه «الحياة من دون أب»: (إنَّ أربعين بالمائة من الأولاد في أمريكا لا يعيشون مع آبائهم بسبب ارتفاع نِسبة الطلاق، والولادات غير الشرعية، وكل ثلاثة أطفال من أصل عشرة يولدون من أمَّهات غير متزوجات، وأنَّ الغالبية من هؤلاء الأطفال لا يعيشون مع آبائهم. الأكثر من ذلك أنَّ هؤلاء الآباء لا يرون أبناءهم بصورة منتظمة ولا ينفقون عليهم، والسبب الجوهري في هذا الأمر هو التغيير الثقافي في القيَم؛ فهناك الفردية المفرطة المنتشرة في المجتمع، ويحذر الكاتب من خطورة هذا التغيير في القيَم، ليس لأنه يهدِّد المؤسسات الاجتماعية الأساسية فقط؛ بل لأنَّه يؤثر سلبًا على الأطفال)… ويقول الكاتب باترك بوتشانن؛ في كتابه «موت الغرب»: (هناك عدة عوامل في بلاد الغرب إنْ لم يتمَّ احتواؤها وضبطها فسوف تؤذِن بانهيار الحضارة الغربية انهيارًا فظيعًا، من هذه العوامل: انخفاض معدَّلات المواليد، وذوبان العائلة، واندثارها وحدةً اجتماعية، وعزوف النساء عن الحياة الطبيعية التقليدية؛ مثل الزواج وإنجاب الأطفال ورعايتهم، وعزوف الشباب عن مؤسسة الزواج، وشيوع الجنس، واللواط، والحماية القانونية لهذه النزعات غير السوية).
8- الحروب والاستعمار السياسي والعسكري وما جره على العالم من حروب مدمرة عسكرية وسياسية وتجارية.. ولعل أبرز تلك الحروب التي جلبت على الغرب الدمار الحرب العالمية الأولى والثانية.. حيث كانت النظرة المادية البحتة هي المسيطرة على ألمانيا للسيطرة على كل العالم. فخلفت هاتان الحربان، جاء في (موسوعة الجزيرة) عن الحرب العالمية الأولى: (تسبَّبت الحرب في خسائر بشرية كبيرة حيث لقي أكثر من ثمانية ملايين شخص مصرعهم وجرح وفقد الملايين، كما خلفت خسائر اقتصادية كبيرة، فانتشر الفقر والبطالة، كما عرفت الدول المتحاربة أزمة مالية خانقة بسبب نفقات الحرب الباهظة…) أما الحرب العالمية الثانية فجاء في (الموسوعة الحرة)؛ (أنها خلفت أكثر من 60 مليون قتيل وملايين الجرحى والمشرَّدين والمشوَّهين بسبب استخدام السلاح النووي على اليابان سنة 1945م).
-
إن العالم اليوم ما زال يعيش حالة من الرعب والخوف والترقب من الدمار الاقتصادي؛ بسبب الحروب التجارية بين العملاقين أمريكا والصين، أو خطر الحرب النووية بين كوريا وأمريكا.. وما زالت الحروب الشريرة السياسية والعسكرية تشعل هنا وهناك من أجل المصالح والسياسات المادية النفعية، ويموت بسببها الآلاف كل عام في الشام والعراق وليبيا واليمن وغيرها؛ وهذا كله بسبب الحروب القذرة التي تشعلها الدول الكبرى المندفعة بدوافع مادية بحتة؛ نتيجة للنظرة الرأسمالية المقيتة.
-
لقد ضاق الناس ذرعًا بهذا النظام، وتعالت الأصوات تطالب بتغييره وإسقاطه؛ وخاصة في أبرز أفكاره وهي النظام الاقتصادي. وبرزت أصوات كثيرة؛ خاصة في الأزمة المالية التي حصلت أخيرًا سنة 2008م، وطالبت صراحة بتطبيق بعض الأفكار الإسلامية في أحكام الاقتصاد. فقد أثنت وزيرة الاقتصاد الفرنسية. لاغارد؛ على (البعد الأخلاقي في النظام المالي الإسلامي، وقدرته على مواجهة أسباب الأزمة المالية الحالية، مشيدة بتحريم الغرر والميسر؛ في المعاملات الإسلامية).. وقال أستاذ الاقتصاد بجامعة باريس أوليفييه باستري: (إن النظام المالي الإسلامي يمكن أن يلعب دورًا تاريخيًا في العالم بالنظر لقدرته على مواجهة التحديات التي يطرحها الوضع الحالي)، ودعا أيضًا مجلس الشيوخ الفرنسي إلى ضم النظام المصرفي الإسلامي للنظام المصرفي في فرنسا، وقال المجلس في تقرير أعدته لجنة تعنى بالشؤون المالية في المجلس: (إن النظام المصرفي الذي يعتمد على قواعد مستمدة من الشريعة الإسلامية؛ مريح للجميع؛ سواء أكانوا مسلمين أم غير مسلمين)، وأكد التقرير الصادر عن اللجنة المالية لمراقبة الميزانية والحسابات الاقتصادية للدولة بالمجلس (أن هذا النظام المصرفي الإسلامي الذي يعيش ازدهارًا واضحًا قابل للتطبيق في فرنسا).
-
في 17 أيلول/سبتمبر عام 2011م اندلعت الاحتجاجات بخروج متظاهرين بالمئات في وول ستريت بمدينة نيويورك الأمريكيَّة وحاولوا احتلاله، معربين عن رغبتهم بتحويله إلى «ميدان تحرير» أمريكي، وعندما حدث ذلك هبَّت الشرطة على الفور لإغلاقه ومحاصرة المنطقة، واستمرت الحركة بعدها بالتظاهر لمدة أسبوع. هذا وقد خرجت سنة 2011م مظاهرات في ألف مدينة على الكرة الأرضية؛ تطالب بإسقاط هذا النظام والتخلص من رموزه المالية في وول ستريت وغيرها.
-
وقبل أن نختم نقول: إن النظام الرأسمالي المنبثق من عقيدة الحل الوسط والقائم على أسس الحريات هو نظام فاسد سقيم. وإن النظام الاقتصادي المالي هو أوهى من بيت العنكبوت وقائم على أسس فاسدة جملة وتفصيلًا. ومن أبرز الفساد فيه (النظام النقدي)، الذي تتحكم فيه أمريكا عن طريق الدولار. ولا يوجد له أساس ثابت يحمي مقدرات الناس وجهودهم وثرواتهم؛ سواء من ذهب أم فضة أم من مواد عينية. والنظام المالي أيضًا تتحكم فيه البورصات العالمية، والتي تحمل في مؤسساتها المالية أرقامًا وهمية ليس لها واقع في أغلب أصولها، وتجري فيها أعمال ومعاملات تدمر ثروات الناس وتحولها إلى جيوب الأغنياء المتحكمين في هذه البورصات. والبنوك أيضًا تحول مدخرات الناس وجهودهم وتكدسها؛ ثم تضعها في منفعة فئة قليلة هم الرأسماليون الكبار وتحرم باقي المجتمع منها.
-
إن البشرية اليوم تعاني من الضنك والفقر والحرمان، وبلاد المسلمين هي جزء من هذا النظام الرأسمالي السقيم؛ وهي كما قال الشاعر:
كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ
والماء فوق ظهورها محمولُ.
-
لقد جربت البشرية أنظمة كثيرة، منها ما انهار ومنها ما زال قائم. فالاشتراكية قد هدمها أصحابها بأيديهم؛ عندما رأوا اعوجاجها بعدما طبقوها سبعين عامًا، وظنوا أنها هي التي ستنجيهم من سطوة الرأسمالية وجشعها. والرأسمالية اليوم تترنَّح للسقوط المدوي بعد أن تخلى أتباعها عن كثير من أفكارها الرئيسة، أبرزها (حرية السوق). ولن يطول الوقت حتى يعلن أصحاب الرأسمالية كما أعلن أصحاب الاشتراكية، انهيارها وسقوطها المدوي.
-
وفي الختام نقول: إن البشرية لن تسعد إلا بالنظام الإلهي؛ فهو وحده الذي طبق في أرض الواقع زهاء أربعة عشر قرنًا، وعاشت البشرية في ظله حياة ملؤها السعادة والرفاه. وما زال أتباعه متمسكين به يطالبون بعودته رغم غيابه عن الواقع العملي ما يقارب المئة عام. وقد شهد بهذا الأعداء قبل الأصدقاء. تقول الباحثة الألمانية زغريد هونكه في كتابها الشهير «شمس العرب تسطع على الغرب»: (إن الإسلام أعظم ديانة على ظهر الأرض سماحةً وإنصافًا، نقولها بلا تحيُّز، ودون أن نسمح للأحكام الظالمة أن تلطِّخه بالسواد، وإذا ما نحَّينا هذه المغالطات التاريخية الآثمة في حقه، والجهل البحت به، فإن علينا أن نتقبِّل هذا الشريك والصديق مع ضمان حقه في أن يكون كما هو). وفي كتاب آخر اسمه «التوجه الأوروبي إلى العرب والإسلام… حقيقة قادمة وقدر محتوم» تقول: (الإسلام هو المحرك للمسلمين للخلق والإبداع، والدافع للبذل والعطاء، فدان لهم العالم، فأناروه بنور الحضارة الساطع، وأظلوه بظل المدنية الوارف). ويقول الأمير البريطاني تشارلز: (إن الإسلام يمكن أن يعلمنا طريقة للتفاهم والعيش في العالم، الأمر الذي فقدته المسيحية، فالإسلام يرفض الفصل بين الإنسان والطبيعة، والدين والعلم، والعقل والمادة) ويقول الشاعر الفرنسي لامارتين: (الإسلام هو الدين الوحيد الذي استطاع أن يفي بمطالب البدن والروح معًا، دون أن يعرض المسلم لأن يعيش في تأنيب الضمير، وهو الدين الوحيد الذي عباداته بلا صور، وهو أعلى ما وهبه الخالق لبني البشر)، ويقول الفيلسوف جورج برنارد شو: (الإسلام هو الدين الذي نجد فيه حسنات الأديان كلها، ولا نجد في الأديان حسناته… قد برهن الإسلام من ساعاته الأولى على أنه دين الأجناس جميعًا؛ إذ ضم سلمان الفارسي وبلالًا الحبشي وصهيبًا الرومي؛ فانصهر الجميع في بوتقة واحدة). وهناك شواهد كثيرة من شهادات الغرب تصف هذا الدين وصفًا طيبًا، وتبين أنه الدين الوحيد القادر على إنقاذ البشرية.
-
إن العالم اليوم هو كالأرض العطشى التي تنتظر المطر..وهذا الغيث هو الدين الذي يخلص البشرية مما هي فيه من بلاء وشرور وظلم وظلام… وهذا يبشر بقرب ظهور شمس الإسلام الوضَّاءة التي تنشر على الأرض دفئها وضياءها؛ تمامًا كما نشر الإسلام النور والهداية أول مرة؛ عندما ظهر في جزيرة العرب؛ ليصدق بذلك قول المولى عز وجل:(سَنُرِيهِمۡ ءَايَٰتِنَا فِي ٱلۡأٓفَاقِ وَفِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّۗ أَوَ لَمۡ يَكۡفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُۥ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدٌ)، وقوله:(قَدۡ جَآءَكُم مِّنَ ٱللَّهِ نُورٞ وَكِتَٰبٞ مُّبِينٞ ١٥ يَهۡدِي بِهِ ٱللَّهُ مَنِ ٱتَّبَعَ رِضۡوَٰنَهُۥ سُبُلَ ٱلسَّلَٰمِ)،وقوله:(وَنَزَّلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ تِبۡيَٰنٗا لِّكُلِّ شَيۡءٖ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٗ وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُسۡلِمِينَ ٨٩).
نسأله تعالى أن يكرم أمة الإسلام عما قريب بحكم الإسلام في ظل دولة الإسلام.. آمين يا رب العالمين.