تلبيس المفاهيم
2007/01/30م
المقالات
2,500 زيارة
تلبيس المفاهيم
يخشى أهل الكفر من المواجهة الفكرية العلنية؛ لأنه بمجرد ظهور الحق أبلج تتهاوى أصرحة الباطل المنتفشة، ولنا من سيرة الرسول الأكرم (ﷺ) المثال، فإنه وبمجرد ظهور دعوة الإسـلام صريحةً سافرةً متحديةً ليس فيها مداهنة ولا مقاربة ولا أنصاف حلول ولا ترقيع ولا تدرج، بدأ الباطل يدرك نهايته،وبدأ أئمة الكفر باتخاذ الإجراءات المتعددة لمنع استمرار هذه الدعوة، وقد قال الله تعالى في سورة الإسراء وهي مكية: ( وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ) [ الإسراء 81].
لقد كان بدء ظهور دعوة الإسلام ظهور مفاصلة لا مقاربة إيذانًا بانتهاء الباطل، رغم أن دعوة الحق لم تكن تمتلك أية قوة مادية في مكة، وفي هذا دلالة صارخة على أهمية العمل الفكري وخطورته.
ولأن الغرب الكافر يخشى المواجهة المباشرة في ظل نمو الوعي في الأمة، بعدما فشل بكل إمكاناته في حربه الصريحة على أفكار الإسلام من عقائد وأحكام، فقد لجأ إلى إلباس الحق بالباطل عن طريق تمييع المفاهيم من خلال تمييع المصطلحات، فهو لا يستطيع الآن مهاجمة أفكار الإسلام وقيمه بشكل سافر كالسابق، وجعل المسلمين في ميوعة فكرية يشكل تربة خصبة لخلط المفاهيم وزرع الأفكار الغربية، وقد سعى الغرب الكافر لإحداث هذه الميوعة الفكرية عن قصد وترصد، فاستقدامه للمفكرين والمشايخ إلى بلاده لتحميلهم وجهة النظر الرأسمالية، ودعوته لاندماج المسلمين في الحياة الرأسمالية وتعيين الدنمارك وزيرًا للاندماج، ودعمه عددًا من الإسلاميين ووصفهم بالمعتدلين، وإنشاء مراكز لتخريج الأئمة في الغرب، وتمويل محطات إذاعة إسلامية وبرامج تليفزيونية، وتنظيم “دورات تعليمية” في المدارس البحثية وورش العمل السياسية للترويج “للإسلام المعتدل”، وغير ذلك من الإجراءات التي لسنا بصدد حصرها الآن، كل هذه الإجراءات ما هي إلا خطوات جدية اتخذها أهل الكفر لإحداث هذا التمييع من أجل إلباس الباطل لباس الحق.
وإحداث هذه الميوعة الفكرية يراه الغرب ضروريًا وحتميًا لإفشال مشروع نهضة الأمة الإسـلامية، فبما أن الأمة تتطلع بشوق للنهضة، وتتحسس طريقها إليها، ولا ترى غير الإسلام لذلك طريقًا؛ فإنها ستصل حتماً. ولكن الغرب الكافر أدرك ذلك الأمر جيدًا، وخطط لإفشال سعي الأمة للنهضة على أساس الإسلام من خلال تمييع الإسلام ومنع المفاصلة بينه وبين الكفر، ولكن هذا السعي خائب لا محالة بإذن الله، صحيح أنه يعيق نهضة الأمة قليلاً ولكن هذه الأمة العظيمة لن تلبث أن تسترد وعيها وتلفظ كل ما ليس منبثقاً من الإسـلام انبثاقاً لا شك فيه، ومبنياً على أساس الإسلام بناءً لا لبس فيه.
ومن أمثلة أثر هذه الميوعة على المسلمين هو موقفهم من الديمقراطية، فإنه وبسبب عدم وضوح حقيقة الديمقراطية تجد من يروج لها من المسلمين، وتجد من تنطلي عليه فرية الديمقراطية الإسلامية، وتجد من يقول بأن الإسلام دين الحريّات خالطاً بين الحرية في نظر الإسلام والتي ضد الرق وبين الحريات الغربية والتي هي باختصار الانعتاق تماماً من كل قيد ديني أو أخلاقي، وتجد من ينادي بحقوق الإنسان وحرية المرأة وحقوق المرأة والمساواة بين الرجل والمرأة إلخ…
صحيح أنه وبسبب المضبوعين بكل ما هو غربي تم إنكار جهاد الطلب، وتجاهل مفهوم الولاء والبراء، ولكن الجديد هو تبني الغرب الكافر دعم هؤلاء كخطة رئيسية، بل والتحالف معهم علانية ضد ما أطلقوا عليه الإرهاب وهم في الحقيقة يقصدون الإسلام الحقيقي النقي الصافي، الخالي من شوائب التأثّر والانضباع، والتوفيق بينه وبين أفكار الكفر، وهذا التحالف تم التأكيد عليه أكثر من مرة وآخرها في تصريح توني بلير في 22/3/2006 حسب bbc: «لن يهزم -أي الإرهاب ويقصد الإسلام- حتى تواجَه أفكاره وسمه الذي يفسد العقول، وأتباعه، عند المنبع وفي صميمه» ثم تابع: «نحن لسنا “الغرب”، بل نحن المسلمين والمسيحيين أو نحن اليهود أو الهندوس…».
ولمنع حدوث هذا التمييع المقيت، لابد من بلورة قاعدة ثابتة للتعامل مع المصطلحات الأعجمية بأنواعها، لأنه بحسب فهم هذه المصطلحات يكون الموقف تجاهها، أما الألفاظ العربية فيكاد المرء لا يجد مشكلة عند الأمة في التعامل معها سوى خلط البعض بين المعاني الشرعية والمعاني اللغوية، فلا يفرقون بين الحقيقة اللغوية والحقيقة الشرعية للفظة الجهاد على سبيل المثال.
والمصطلحات الأعجمية منها ما بقي على حروفه، مثل الأيديولوجية والديمقراطية والاستراتيجية، ومنها ما تمت ترجمته إلى اللغة العربية مثل حرية العقيدة والعدالة الاجتماعية، ومنها ما عرب مثل الدستور، والبرلمان. والمصطلح عبارة عن ألفاظ وضعها أهلها لتدل على معنى محدد لا غير، فإذا أردنا أن نستعمل هذا المصطلح نستعمله لنفس المعنى الذي أطلقه أهله ولا يجوز لنا أن نستعمله ليدل على معانٍ نشتهيها نحن.
فالعرب في الجاهلية عندما استعملوا ألفاظاً غير عربية الأصل بعد وضعها حسب تفعيلات لغتهم، استعملوها لتدل على نفس المعاني التي أرادها أصحابها الأصليون، وذلك مثل لفظة “قرطاس” و”درهم” و”سندس” و”إستبرق” على سبيل المثال، وكذلك القرآن العظيم عندما استعمل هذه الألفاظ استعملها لتدل على نفس المعاني التي أرادها أهلها، ولم يعطها معانيَ جديدة، وكذلك يتم التعامل بنفس المنهج مع المصطلحات التي لم يتم تعريبها بل تمت ترجمتها أو بقيت على حروفها الأصلية.
واللبس يقع أكثر ما يقع في النوعين الأخيرين من المصطلحات أي الذي تمت ترجمته والذي بقي على حروفه، ويقع هذا اللبس عندما يتم معاملة المصطلح المترجم معاملة اللفظ العربي الأصلي، فيُلجأ إلى قواميس اللغة العربية لفهم مصطلح “حرية العقيدة” على سبيل المثال، وهذا خطأ فاحش، فقواميس اللغة العربية يُرجع إليها عندما نريد فهم معنى لفظ وضعه العرب، أما المصطلحات التي وضعها غير العرب وتمت ترجمتها فيرجع إلى أهل هذه الاصطلاحات ويفهم واقعها بالضبط، أي يُفهم ماذا أرادوا منها بالضبط، بغض النظر عن شكل الألفاظ التي كانت نتيجة الترجمة، فعندما نريد فهم المقصود بـ”حرية العقيدة” لا نذهب للمعاجم العربية ونبحث عن مدلول لفظة حرية ثم مدلول لفظة عقيدة، إنما نذهب لأهل هذا المصطلح ونفهم الواقع الذي أرادوه من إطلاقه، ثم نتعامل مع هذا المصطلح حسب مدلوله الحقيقي لا حسب ما نحب ونشتهي.
هذا بالنسبة للمصطلحات التي تمت ترجمتها، أما التي بقيت على حروفها الأصلية (كالديمقراطية مثلاً)، فإن التعامل معها أشد وضوحًا، ولا نجد داعيًا لتمييعها أو لإعطائها مدلولات غير مدلولاتها الأصلية إلا التلبيس على المسلمين، فإذا كانت الألفاظ التي عُربت لا يجوز إعطاؤها مدلولات غير مدلولاتها الأصلية، فمن باب أولى بل الصواب أن يكون ذلك في الألفاظ التي بقيت على حروفها الأصلية ولم يتم تعريبها، وكذلك في الألفاظ التي ترجمت. ثم إن إعطاء ألفاظ جديدة بالكلية (كالديمقراطية مثلاً) معانيَ جديدة يعتبر من الوضع في اللغة، وهذا لا يجوز لأحد اليوم إنما هو للعرب الأقحاح، وما يجوز لنا اليوم هو الاشتقاق والتعريب.
فالمصطلحات سواء التي عربت أم التي ترجمت أم التي بقيت على حروفها الأصلية يتم التعامل معها حسب مدلولها الأصلي، لا حسب أي شيء آخر، فإن كانت تدل على معنى يقره الإسلام جاز لنا أخذها والدعوة إليها؛ لأن الأخذ هنا أخذ لما تدل عليه المصطلحات أي أخذ للمعنى، واللغة ما هي إلا وعاء للفكر، فلا يهمنا هنا شكل الحروف وعددها بقدر ما يهمنا الفكر نفسه، وأما إن كانت -أي المصطلحات- تدل على معنى لا يقره الإسلام فلا يجوز لنا أخذها والدعوة إليها.
ومن أمثلة المصطلحات التي يجوز لنا أخذها والدعوة إليها مصطلح الدستور، فهو يعني القوانين العامة التي تبين شكل الدولة، ونظام الحكم فيها، واختصاص كل سلطة فيها، فهذا المعنى موجود في الإسلام، أي أنه يوجد في الإسلام قوانين عامة تبين شكل الدولة ونظام الحكم فيها، فيجوز لنا أن نقول الدستور الإسلامي أو دستور دولة الخلافة لمجموعة الأحكام العامة المستفادة من النصوص الشرعية. وكذلك الاسْتراتِيجِيةُ التي تعني الخطة الشاملة، أو فنُّ تنسيق القوى وتنظيم الجيوش ووضع الخطط العسكرية في المعركة. والأيديولوجيا التي تعني مَجْمُوعُ الأفْكَارِ وَالْمُعْتَقَدَاتِ.
ومن أمثلة المصطلحات التي لا يجوز لنا أخذها والدعوة إليها، مصطلح الديمقراطية وحرية العقيدة، فإن الديمقراطية تعني حكم الشعب للشعب نفسه بنفسه، وهذا المعنى يتناقض مع الإسلام تناقضاً كلياً، فلا يوجد في الإسلام حكم للشعب إنما الحكم لله تعالى؛ فلا يقال الديمقراطية الإسلامية!، أما الشورى فهي في الأمور المباحة فقط، بينما الديمقراطية إعطاء لحق التشريع للشعب ابتداءً؛ فالديمقراطية نظام كفر وليست آلية لاختيار الحاكم كما يزينها البعض، هذه هي حقيقتها القطعية عند أهلها. وكذلك حرية العقيدة فإنها تعني أن يعتقد الإنسان ما شاء متى شاء ويترك هذا الاعتقاد متى شاء، وهذا مخالف لبديهيات الإسلام ولا علاقة لحرية العقيدة بالحرية التي ضد الرق. وكذلك العدالة الاجتماعية التي تعني نظاماً معيناً، يتلخص في ضمان التعليم والتطبيب للفقراء فقط، وضمان حقوق العمال والموظفين فقط. فإن هذا الاصطلاح يخالف اصطلاح المسلمين؛ لأن العدل عند المسلمين هو ضد الظلم، وأما ضمان التعليم والتطبيب فهو لجميع الناس أغنياء وفقراء، وضمان حقوق المحتاج والضعيف حق لجميع الناس الذين يحملون التابعية الإسلامية. سواء أكانوا موظفين أم لم يكونوا، وكانوا عمالاً أم مزارعين أم غيرهم، وكذلك مصطلح الاشتراكية والسلطة التشريعية.
ثم إن استعمال الألفاظ في غير ما تدل عليه، يؤدي إلى أخذ الحرام، وقد اعتنى الإسلام العظيم بدقة الألفاظ، ونهى عن استعمال الألفاظ لغير ما وضعت له، فقال الله ردًا على الذين يريدون التعامل بالربا وتسميته بغير اسمه: ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ) [البقرة 275] ففي الآية تأكيد على أن البيع غير الربا.
وتجد ذلك في قوله تعالى: ( قَالَتِ الْأَعْرَابُ ءَامَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ) [الحجرات 14] فلم يقرهم الله تعالى على إطلاقهم اسم الإيمان على غير مسماه.
وعن عبد الله المزني: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم المغرب». قال: وتقول الأعراب: هي العشاء.
فلا يجوز استعمال الألفاظ في غير ما تدل عليه لأن ذلك يؤدي إلى الحرام، فلا يجوز مثلاً الدعوة للوسطية التي تميّع الدين، وطمس المعنى الأصلي لها وهو العدل، كما دلت النصوص الشرعية، ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ) [البقرة 143]، وكذلك لا يجوز الدعوة إلى محاربة الإرهاب وهو في حقيقته مقصود به الإسلام. فلا يجوز تفريغ المصطلح من مضمونه لأن هذا تلبيس وتضليل.
هذه هي طريقة التعامل مع المصطلحات الأعجمية والتي تضمن الفهم السليم والسلوك السليم، وتتلخص في فهم ما يدل عليه المصطلح عند أهله، ثم التعامل معه حسب ما يدل عليه لا حسب أي شيء آخر، سواء تمت ترجمة هذا المصطلح أم تعريبه أم بقي على حروفه الأصلية، فينظر في واقع المصطلح، فإن كان ما يدل عليه حسب ما وضعه أهله يقره الإسلام يجوز لنا أخذه والدعوة إليه، أما إذا كان ما يدل عليه حسب ما وضعه أهله يخالف الإسلام فلا يجوز أخذه والدعوة إليه، ولا يجوز لنا إعطاء هذه المصطلحات مدلولات جديدة من عند أنفسنا.
نسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يكرم هذه الأمة بخليفة مسلم غيور يحفظ لها دينها ويجاهد بها في سبيل الله إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أبو زكريا – غزة
2007-01-30