مع القرآن الكريم: فائدة عن الربا (1)
2020/06/04م
المقالات
6,445 زيارة
جاء في كتاب التيسير في أصول التفسير لمؤلفه
عطاء بن خليل أبو الرشته أمير حزب التحرير حفظه الله ما يلي:
بعد أن اكتملت آيات الربا في سورة البقرة فإنه لا بدّ من وقفة مع هذا الموضوع الخطير، فأقول وبالله التوفيق:
-
الربا لغة الزيادة مطلقًا، يقال: ربا الشيء يربو إذا زاد. ومنه الحديث الذي رواه مسلم (… قال عبد الرحمن بن أبي بكر: فَايْمُ اللَّهِ مَا كُنَّا نَأْخُذُ مِنْ لُقْمَةٍ إِلاَّ رَبَا مِنْ أَسْفَلِهَا أَكْثَرَ مِنْهَا)[1] يعني الطعام الذي دعا فيه النبي صلى الله عليه وسلمبالبركة. وغالب ما كانت تفعله العرب من الربا أن تقول للغريم عند حلول أجل الدين: أتقضي أم تربي؟ فيزيدون المال مع زيادة الأجل ويصبح المال المطلوب هو رأس المال والزيادة الجديدة عند الأجل الجديد. فكل زيادة في الدين بسبب تأخير السداد كانوا يعتبرونه ربا ويجيزونه بينهم.
-
هذا من حيث اللغة عند العرب، أما من حيث الشرع فقد أعطى للربا حقيقة شرعية على وجهين:
الأول: ربا النسيئة وهو ما كان سببه راجعًا للأجل أي التأخير من النساء الذي يعني التأخير، وهو ما كانت تفعله العرب (زيادة الدين لتأخير السداد إلى أجل) فقد أقر الشرع هذه التسمية اللغوية واعتبره ربا ثم أضاف له معنًى شرعيًا جديدًا وهو: أن تبيع أصنافًا معينة بنفس الصنف أو بصنف منها مختلف ولكن التقاضي لا يكون يدًا بيدٍ بل بعد أجل مهما كان قيمة التقاضي مثل المبيع أو يقل أو يختلف. أي أن ربا النسيئة (من حيث الحقيقة الشرعية) هو نوعان:
= زيادة الدين لتأخير السداد.
= بيع صنف من الأصناف الربوية الستة ببعضها متشابهةً أو مختلفةً ويكون التقابض لأجل أي ليس يدًا بيدٍ، وهذا يعني عدم التقابض في المجلس – حاضرًا.
الثاني: ربا الفضل وهو ما كان سببه التفاضل وليس الأجل، وهو أن تبيع صنفًا من هذه الأصناف وتتقاضاه حاضرًا من نفس الصنف ولكن بأكثر منه.
وأما هذه الأصناف فهي الذهب والفضة والقمح والشعير والتمر والملح، والأصل في ذلك ما صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحاديث في البيع والقرض.
-
أخرج مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلًا بمثلٍ يدًا بيدٍ، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء»[2].
وأخرج أبو داود عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الذهب بالذهب تبرها وعينها والفضة بالفضة تبرها وعينها والبر بالبر مدي بمدي والشعير بالشعير مدي بمدي والتمر بالتمر مدي بمدي والملح بالملح مدي بمدي فمن زاد أو ازداد فقد أربى، ولا بأس ببيع الذهب بالفضة والفضة أكثرهما يدًا بيدٍ، وأما نسيئةً فلا ولا بأس ببيع البر بالشعير والشعير أكثرهما يدًا بيدٍ وأما نسيئةً فلا»[3].
والمدي: مكيال، التبر: قطع الذهب والفضة قبل أن تضرب وتطبع دراهم أو دنانير واحدتها تبرة، والعين: المضروب من الدراهم أو الدنانير وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «تبرها وعينها سواء».
أخرج الدارقطني عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما، من كانت له حاجة بورق فليصرفها بذهب وإن كانت له حاجة بذهب فليصرفها بورق هاء بهاء»[4] أي مقايضة في المجلس.
وهكذا، من أحب تمرًا بنوعية فيمكنه أن يبيع تمره بمادة أخرى من غير جنسها ثم بهذا الثمن الجديد يشتري به التمر الذي يحبه، أما إن اشترى تمرًا بتمرٍ فيجب مثلًا بمثلٍ يدًا بيدٍ.
أخرج مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: جاء بلال بتمر فقال له صلى الله عليه وسلم: «من أين هذا؟» فقال بلال: من تمر كان عندنا رديء فبعت منه صاعين بصاع لمطعم النبي صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: «أوه، عين الربا لا تفعل، ولكن إذا أردت أن تشتري التمر فبعه ببيع آخر ثم اشترِ به»[5] وفي رواية: «هذا الربا فردوه ثم بيعوا تمرنا واشتروا لنا من هذا»[6].
وهذا الحديث دليل على أن بيع الربا باطل وليس فاسدًا، أي يجب فسخه ولا يجبر بردّ ما فيه من الزيادة الربوية بل يفسخ العقد كله.
فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمر بلالًا أن يرد الزيادة الربوية فقط، بل طلب منه أن يفسخ البيع فيردّ كامل التمر الذي اشتراه ويأخذ كامل التمر الذي باعه، ثم بعد ذلك يبيع تمره بدراهم أو دنانير مثلًا ويقبض الثمن حالًا ثم يذهب ويشتري بهذه الدنانير أو الدراهم من التمر الآخر.
(أوه) كلمة تقال عند الشكاية أو التوجع أي إنكار شديد لما صنعه بلال رضي الله عنه.
ومن هذه الأحاديث يتبين أنه لا يجوز بيع هذه الأصناف الستة إلا يدًا بيدٍ أي مقابضةً في نفس المجلس، وكذلك لا يجوز أن تتفاضل إن كانت من الصنف الواحد ويكون هذا ربًا، هو ربا الفضل.
ولذلك فما تصنعه محلات الذهب من شراء الذهب ببعضه أو الفضة ببعضها مع التفاضل في الوزن نتيجة اختلاف نوعية الذهب أو الفضة (خاتم أو أسورة …) فهذا من ربا الفضل؛ ولكن لهم أن يبيعوا الذهب بالفضة أو بنقد آخر كيف شاؤوا متفاضلًا أو مثله بشرط التقابض في المجلس، ولا يجوز التقابض بعد أجل في بيع هذه الأصناف، سواء من صنف واحد أم أصناف مختلفة وإلا كان من ربا النسيئة.
ومن الجدير ذكره أن هذه الأصناف الستة: (الذهب والفضة والقمح والشعير والتمر والملح) وردت بالتنصيص عليها في الأحاديث المذكورة، وهي أسماء جامدة لا مفهوم لها وهي غير معلَّلة فلا يقاس عليها.
-
وقد استثنى الله سبحانه من تحريم بيع هذه الأصناف الستة ببعضها والتقابض لأجل، استثنى منها بيع السلم أي أن يكون الثمن المعجل (نقدًا أو ذهبًا أو فضةً أو عينًا أخرى حاضرة). والمؤجل هو السلعة ويسمى هذا البيع كذلك بيع السلف، فإن هذا البيع جائز وتأجيل التقابض فيها أي عدم تسليم السلعة والثمن حالًا بحالٍ – وهو واقع السلم – لا يجعله ربا حتى لو كان الثمن والسلعة من الأصناف الستة، أي لو كان الثمن ذهبًا مثلًا والسلعة المؤجلة قمحًا أو شعيرًا أو غيرهما من الأصناف الستة، وذلك للأدلة الواردة في بيع السلم:
أ. يـقــول سـبـحــانـه: ]يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيۡنٍ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى فَٱكۡتُبُوهُۚ [ والسلم دين لأن أحد العوضين حاضر والثاني السلعة المؤجلة، وقد ورد أن هذه الآية نزلت في بيع السلم – كما سنبينه عند تفسير هذه الآية بإذن الله -.
ب. حديث البخاري عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وهم يستلفون في الثمار السنتين والثلاث، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم»[7].
ج. روى البخاري عن محمد بن المجالد قال: بعثني عبد الله بن شداد وأبو بردة إلى عبد الله بن أبي أوفى فقالا: سله هل كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يسلفون في الحنطة؟ فقال عبد الله: «كنا نسلف نبيط[8] أهل الشام في الحنطة والشعير والزيت في كيل معلوم إلى أجل معلوم. قلت: إلى من كان أصله عنده؟ قال: ما كنا نسألهم عن ذلك»[9] ثم بعثاني إلى عبدالرحمن بن عوف فسألته فقال: «كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يسلفون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم نسألهم ألهم حرث أم لا».
فالسلم في طعام معلوم بكيل معلوم أو وزن معلوم يسلم آجلًا معلومًا بثمن عاجل معلوم ما دام بالشروط الشرعية.
فإن هذا البيع مستثنى من تحريم تأجيل التقابض في الأصناف الربوية، وكذلك هو مستثنى من تحريم بيع ما ليس عندك لأن السلعة لا تكون مملوكة لبائع السلم عند عقد السلم.
وهناك استثناء آخر متعلق ببيع العرايا وهو أن يشتري من ليس له نخيل، يشتري ثمر النخيل على الشجرة بكمية من التمر يدفعها لصاحب النخيل فيكون قد اشترى ثمر النخلة وهو عليها بتمر موجود معه، وهنا وإن كان الصنفان متشابهين (بلح ورطب وتمر) والوزن أو الكيل مختلف بين ما على النخل والتمر مع المشتري إلا أنه استثني بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيع العرايا»[10] والعرية هي النخلة المعراة التي تشترى ليؤكل ما عليها.
-
يقع الربا كذلك في القرض في جميع الأصناف وليس فقط في الأصناف الربوية لأن رسول الله صلى الله عليه وسلميقول: «كلّ قرض جر نفعا فهو ربا»[11] و(قرض) مطلق غير مقيد بقيد فهو في كلّ صنف، وروى البخاري في تاريخه عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلمقال: «إذا أقرض فلا يأخذ هدية»[12]. ولذلك فالزيادة في القرض عند سداده تكون ربًا، أما إن كان أحسن نوعًا فلا بأس كأن يقترض دينارًا ذهبًا قديمًا في الاستعمال فيسدده جديدًا بنفس الوزن أو يقترض جملًا فيسدده جملًا أجود دون أن يكون ذلك مشروطًا فلا بأس بذلك ولا يكون ربًا، فقد اقترض رسول الله صلى الله عليه وسلم جملًا فلما جاءت إبل الصدقة ردّ لصاحب الجمل جملًا أجود من جمله وقال صلى الله عليه وسلم: «أجودكم أجودكم قضاء»[13].
لذلك يقع الربا في البيع في الأصناف الستة وفي القرض من كلّ صنف بيـَّناه فيما سبق.
[1] مسلم: 3833
[2] مسلم: 1588
[3] أبو داوود: 2907، النسائي: 4487
[4] الدارقطني: 3/25
[5] البخاري: 2145، مسلم: 2985
[6] مسلم: 2986
[7] البخاري: 2085، مسلم: 3010، النسائي: 3004، ابن ماجه: 2271
[8] النبيط بفتح النون أهل الزراعة ذوي الخبرة في استخراج المياه من الينابيع لكثرة معالجتهم الفلاحة.
[9] البخاري: 2088
[10] البخاري: 2041، مسلم: 2841، الترمذي: 1222، 1234، النسائي: 4456
[11] السنن الكبرى للنسائي: 5/350، وقال: موقوف، الحارث بن أبي أسامة: 1/500، تلخيص الحبير: 3/34، نصب الراية: 4/60
[12] البيهقي: 5/350، وتكملته «… أجودكم أجودكم قضاءً»
[13] البيهقي: 5/350 وهو تكملة الحديث السابق.
2020-06-04