رياض الجنة: أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم عن الأوبئة والحجر الصحي… وحي سبق العلوم البشرية
2020/04/29م
المقالات
2,138 زيارة
– روى البخاريُّ في صحيحِهِ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: «لاَ يُورِدَنَّ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ» والمـُمْرِضُ هوَ الذي لهُ إِبِلٌ مَرْضَى، والمصحُّ منْ لهُ إبلٌ صِحاحٌ، فيكونُ الرسولُ صلى الله عليه وسلم قدْ نهى صاحبَ الإبلِ المريضةِ أنْ يورِدَها على الإبلِ الصحيحةِ، وذلك حتى لا تقع العدوى.
– وقد سُئِلَ أسامةُ بنُ زيدٍ رضي الله عنه: مَاذَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الطَّاعُونِ؟، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الطَّاعُونُ رِجْسٌ أُرْسِلَ عَلَى طَائِفَةٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ – أَوْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ – فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ» رواهُ البخاريُّ.
– هذا وقد روى البخاري قصة عمر بن الخطاب في الطاعون الذي رواه عن أسامة بن زيد فقالَ: نَعَمْ. خرج عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عنْه، إلى الشَّأْمِ، حتَّى إذَا كانَ بسَرْغَ لَقِيَهُ أُمَرَاءُ الأجْنَادِ، أبُوعُبَيْدَةَ بنُ الجَرَّاحِ وأَصْحَابُهُ، فأخْبَرُوهُ أنَّ الوَبَاءَ قدْ وقَعَ بأَرْضِ الشَّأْمِ. قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: فَقَالَ عُمَرُ: ادْعُ لي المـُهَاجِرِينَ الأوَّلِينَ، فَدَعَاهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ، وأَخْبَرَهُمْ أنَّ الوَبَاءَ قدْ وقَعَ بالشَّأْمِ، فَاخْتَلَفُوا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قدْ خَرَجْتَ لأمْرٍ، ولَا نَرَى أنْ تَرْجِعَ عنْه، وقَالَ بَعْضُهُمْ: معكَ بَقِيَّةُ النَّاسِ وأَصْحَابُ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ولَا نَرَى أنْ تُقْدِمَهُمْ علَى هذا الوَبَاءِ، فَقَالَ: ارْتَفِعُوا عَنِّي، ثُمَّ قَالَ: ادْعُوا لي الأنْصَارَ، فَدَعَوْتُهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ، فَسَلَكُوا سَبِيلَ الـمُهَاجِرِينَ، واخْتَلَفُوا كَاخْتِلَافِهِمْ، فَقَالَ: ارْتَفِعُوا عَنِّي، ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لي مَن كانَ هَا هُنَا مِن مَشْيَخَةِ قُرَيْشٍ مِن مُهَاجِرَةِ الفَتْحِ، فَدَعَوْتُهُمْ، فَلَمْ يَخْتَلِفْ منهمْ عليه رَجُلَانِ، فَقالوا: نَرَى أنْ تَرْجِعَ بالنَّاسِ ولَا تُقْدِمَهُمْ علَى هذا الوَبَاءِ، فَنَادَى عُمَرُ في النَّاسِ: إنِّي مُصَبِّحٌ علَى ظَهْرٍ فأصْبِحُوا عليه. قَالَ أبُوعُبَيْدَةَ بنُ الجَرَّاحِ: أفِرَارًا مِن قَدَرِ اللَّهِ؟ فَقَالَ عُمَرُ: لو غَيْرُكَ قَالَهَا يا أبَا عُبَيْدَةَ؟ نَعَمْ نَفِرُّ مِن قَدَرِ اللَّهِ إلى قَدَرِ اللَّهِ، أرَأَيْتَ لو كانَ لكَ إبِلٌ هَبَطَتْ وادِيًا له عُدْوَتَانِ، إحْدَاهُما خَصِبَةٌ، والأُخْرَى جَدْبَةٌ، أليسَ إنْ رَعَيْتَ الخَصْبَةَ رَعَيْتَهَا بقَدَرِ اللَّهِ، وإنْ رَعَيْتَ الجَدْبَةَ رَعَيْتَهَا بقَدَرِ اللَّهِ؟ قَالَ: فَجَاءَ عبدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَوْفٍ – وكانَ مُتَغَيِّبًا في بَعْضِ حَاجَتِهِ – فَقَالَ: إنَّ عِندِي في هذا عِلْمًا، سَمِعْتُ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: إذَا سَمِعْتُمْ به بأَرْضٍ فلا تَقْدَمُوا عليه، وإذَا وقَعَ بأَرْضٍ وأَنْتُمْ بهَا فلا تَخْرُجُوا فِرَارًا منه قَالَ: فَحَمِدَ اللَّهَ عُمَرُ ثُمَّ انْصَرَفَ.
– في الحَديثِ خُروجُ الإمامِ بِنفْسِهِ لِمُشاهَدةِ أحْوالِ رَعِيَّتِه. وفيه أنَّ مِنْ هَدْيِ الصَّحابةِ رَضِيَ الله عنهم تَلَقِّيَ الأُمَراءِ والمـُشاوَرةَ مَعهمْ، والاجْتِماعَ بالعُلَماءِ، وتَنْزيلَ النَّاسِ مَنازِلَهم. وفيه اجْتِنابُ أسْبابِ الهَلاكِ. وفيه أنَّ مِنْ هَدْيِهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عدَمَ القدومِ على أرضِ الوَباءِ إذا سُمِعَ بهِ فيها، وألَّا يُخرَجَ منها خَوفًا منه .
– وروى مسلمٌ عَنْ عَمْرو بن الشَّرِيدِ عَنْ أَبِيهِ قالَ: إنهُ كانَ في وفدِ ثقيفٍ رجلٌ مجذومٌ، فأرسلَ إليهِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّا قَدْ بَايَعْنَاكَ فَارْجِعْ».
– وفي البخاري عنهُ صلى الله عليه وسلم: «فِرَّ مِنْ الْمَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنْ الأَسَدِ».
– وروى أحمد عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تفنى أمتي إلا بالطعن والطاعون»، قلت: يا رسول الله، هذا الطعن قد عرفناه، فما الطاعون؟ قال: «غدة كغدة البعير، المقيمُ بها كالشهيد، والفارُّ منها كالفارِّ من الزحف» وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الفارُّ من الطاعون كالفارِّ من الزحف، والصابر فيه كالصابر في الزحف» رواه أحمد.
هذا الحديث يبين أن الأمراض والأوبئة للصابر عليها احتسابًا أجره الكبير، ويبين أن الشرع وضع للمسلمين قواعد الحماية الصحية، وأرشدهم إلى التصرف المناسب الذي ينجي المسلمين جميعًا، المصاب منهم وغير المصاب. وفي هذا حجر صحي للمصابين، وأمرهم أن يحتسبوا الأجر الكبير عند الله (أجر الشهيد) والهروب منه كَبيرةٌ من الكَبائِرِ ولا بُدَّ لها من تَوبَةٍ؛ لأنَّه قد يكونُ مُصابًا بالمَرَضِ فيَنقُلُه إلى مَكانٍ آخَرَ، ويَنشُرُ الوَباءَ فيَتَسبَّبُ في ضَرَرٍ بالِغٍ للنَّاسِ مع ما في ذلك من الهُروبِ من قَدَرِ اللهِ مع سُوءِ الظَّنِّ باللهِ سُبْحانَه. هذا وقد جَعَلَ اللهُ للصَّبْرِ والاحتِسابِ أجْرًا عَظيمًا ،كما حذَّرَ من الانتِقالِ من مَكانِ الوَباءِ فعالَجَ الموضوع من جِهَةِ الطِّبِّ، ومن جِهَةِ الوازِعِ الإيماني... وفي هذا تشريع لنظام الحَجْرِ الصِّحيِّ؛ لتَحْجيمِ الوَباءِ. والإيمان بهذا يعطي اطمئنانًا للجميع بأن الأمر مقدَّر من الله. وأمرهم أن لا يتساهلوا به.
– روى أحمد والنسائي عَنْ عِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يَخْتَصِمُ الشُّهَدَاءُ وَالْمُتَوَفَّوْنَ عَلَى فُرُشِهِمْ إِلَى رَبِّنَا عَزَّ وَجَلّ، فِي الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنَ الطَّاعُونِ، فَيَقُولُ الشُّهَدَاءُ: إِخْوَانُنَا قُتِلُوا كَمَا قُتِلْنَا. وَيَقُولُ الْمُتَوَفَّوْنَ عَلَى فُرُشِهِمْ: إِخْوَانُنَا مَاتُوا عَلَى فُرُشِهِمْ كَمَا مِتْنَا عَلَى فُرُشِنَا. فَيَقُولُ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ: انْظُرُوا إِلَى جِرَاحِهِمْ، فَإِنْ أَشْبَهَتْ جِرَاحُهُمْ جِرَاحَ الْمَقْتُولِينَ، فَإِنَّهُمْ مِنْهُمْ وَمَعَهُمْ، فَإِذَا جِرَاحُهُمْ قَدْ أَشْبَهَتْ جِرَاحَهُمْ»
هذه الأحاديث النبوية، والتي هي وحي من الله تعالى، فيها إعجازٌ نبويٌّ تجلى في كشف وجود أمراض معدية، وفيها كيفية التصرف الشرعي الواجب تجاهها، وقد تجلَّى هذا الإعجاز النبويُّ أكثر ما تجلى في أنه ظهر سابقًا للطب في هذا الزمان في منع الشخص المقيم في أرض الوباء من أن يخرج منها حتى وإن كان غير مصاب… إن منع الناس من الدخول إلى أرض الوباء قد يكون أمرًا واضحًا ومفهومًا؛ ولكن منع من كان في البلدة المصابة بالوباء من الخروج منها، حتى وإن كان صحيحًا معافى فهو أمر غير واضح العلة، بل إن المنطق والعقل يفرض على الشخص السليم الذي يعيش في بلدة الوباء أن يفرَّ منها إلى بلدة أخرى سليمة، حتى لا يصاب بالعدوى، ولم تعرف العلة في ذلك إلا متأخرًا، في العصور التي تقدم فيها العلم والطب، والذي جاء تفسيره أن الشخص السليم في منطقة الوباء قد يكون حاملًا للميكروب، وكثير من الأوبئة تصيب العديد من الناس، ولكن ليس كل من دخل جسمه الميكروب يصبح مريضًا، فكم من شخص يحمل جراثيم المرض دون أن يبدو عليه أثر من آثاره، كالحمى الشوكية، وحمى التيفود، والسل… بل وحتى الكوليرا والطاعون قد تصيب أشخاصًا عديدين دون أن يبدو على أي منهم علامات المرض، بل على العكس فقد يبدو الشخص وافر الصحة سليم الجسم ، ويكون مع ذلك ينقل المرض إلى غيره من الأصحاء .
وهناك أيضًا فترة الحضانة، وهي الفترة الزمنية التي تسبق ظهور الأعراض منذ دخول الميكروب وتكاثره في الجسد حتى يبلغ أشده، وفي هذه الفترة لا يبدو على الشخص أنه يعاني من أي مرض، ولكن بعد فترة من الزمن قد تطول وقد تقصر – على حسب نوع المرض والميكروب الذي يحمله – تظهر عليه أعراض المرض الكامنة في جسمه .ففترة حضانة الإنفلونزا مثلًا هي يوم أو يومان، بينما فترة حضانة التهاب الكبد الفيروسي قد تطول إلى ستة أشهر، كما أن ميكروب السل قد يبقى كامنًا في الجسم عدة سنوات دون أن يحرك ساكنًا، ولكنه لا يلبث بعد تلك الفترة أن يستشري في الجسم .فمن الذي أدرى محمدًا صلى الله عليه وسلم بذلك كله؟ ومن الذي علمه هذه الحقائق، وهو الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب؟! إنه الوحي الإلهي الذي سبق كل هذه العلوم والمعارف؛ ليبقى هذا الدين شاهدًا على البشرية في كل زمان ومكان، ولتقوم به الحجة على العالمين، فيهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حيَّ عن بيِّنة، قال تعالى: (أَلَا يَعۡلَمُ مَنۡ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلۡخَبِيرُ ).
2020-04-29