آن لخلافة الإسلام أن تحسم الصراع الحضاري مع الغرب وتنهي مأساة البشرية (2)
2019/11/10م
المقالات
13,298 زيارة
آن لخلافة الإسلام أن تحسم الصراع الحضاري مع الغرب وتنهي مأساة البشرية (2)
مناجي محمد – المغرب
المأزق المعرفي للفكر الغربي ومأساة الغرب الحضارية
بدأ الفكر الغربي التحديثي العلماني كردة فعل على طغيان الكنيسة ورجالها وقياصرتها وملوكها، وكردة فعل تولدت تلك النزعة المسماة بالإنسانية (humanisme) والفكر الإنساني في مقابل الفكر اللاهوتي. هذه النزعة همشت كل ما هو ديني منسوب للإله، ووضعت الإنسان في مركز الكون، وزعمت وادعت أن عقله الجبار قادر على حل كل الإشكالات المعرفية المتعلقة بسعادته ومن ثم صنع فردوسه الأرضي، وأن العقل عن طريق التجربة والتحليل والاستنتاج سيجلي وينير كل ظلام معرفي حتى يصبح كل مجهول معلومًا، فاصطلح على هذه المرحلة (أوائل القرن الثامن عشر ميلادي) عصر «التنوير والاستنارة» مجازًا واقتباسًا. يقول أحد فلاسفة تلك المرحلة «إيمانويل كانت» عن مفهوم التنوير: «روج الإنسان عن قصوره المفروض ذاتيًا». ومفهوم الاستنارة في الفكر الغربي مرتبط بميلاد هذا الفكر، ويفيد أن العالم يحوي داخله ما يكفي لتفسيره، وأن العقل الإنساني قادر على الوصول إلى المعرفة التي تنير له كل شيء، وأن هذه المعرفة هي التي تضفي على الإنسان مركزيته في الكون، وأن هذه المعرفة كفيلة بتغيير العالم والتحكم فيه، على حد قول الفيلسوف الإيطالي «بيكوديلا»: «الاستنارة هي أن يصبح الإنسان ما يريده»، وأن أداة المعرفة هي التجربة المادية الكفيلة بمد الإنسان بمعرفة قوانين المادة ومن ثم التحكم بها وتوظيفها لصالحه فتزداد سعادته وفرديته وخصوصيته.
إلا أن هذا الوهم كأي وهم ما تلبث حقائق الواقع أن تبدده، وذاك ما كان وظهر جليًا لمفكري الغرب أن الإنسان الحداثي العلماني أكثر وحشية وقذارة من رجل الدين، وأن القسيس اللعين تم استبداله بالشيطان الرجيم، وأن صكوك الغفران ومحاكم التفتيش حل محلها توحش وافتراس عنصري قاتل وطاغوت ووحش استعماري أباد العرق الأحمر الهندي من الساكنة الأصلية للأميركيتين، واستعبد وأذل العرق الأسود الأفريقي، وقتل واستعمر ونهب ما لا تكاد أرض تخلو من مأساة إلا والفاعل الغرب الحداثي العلماني. وبانتهاء القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر الميلادي انتهى عصر التنوير بليل بهيم وظلمة حالكة.
وهروبًا من مأساته الحضارية ومأزقه وأزمته المعرفية فلسف الغرب عجزه وضياعه، وتجاوز الأسئلة الكبرى للإنسانية عن الغايات والقيم والمثل والسعادة والمصير والمعنى والمعايير والمقاييس الأخلاقية. وبعد أن اتضح لمفكري الغرب أن الواقع الإنساني ليس بتلك البساطة، وأنه يتحدى الصيغ التفسيرية المادية الاختزالية، واتضح لهم قصور التفسير المادي المرتكز على التجربة، وأن العلم التجريبي أقصى معارفه هي الماهيات، وأنه عاجز وقاصر أمام الغايات والقيم والمثل ومقاييس الخير والشر والحسن والقبح والسعادة والمصير والمعنى… وأدرك الغرب أن العقائد والقيم والمثل والأخلاق والتشريعات لا تنتجها أنابيب الاختبار. ومن ثم تبخَّر وتبدد ذاك الوهم الناتج عن عملية التبسيط والاختزال العلماني بإمكانية السيطرة الكاملة على الكون والتحكم فيه، وتبخَّر معها ذاك الإيمان الزائف بأن التقدم المادي هو السبيل إلى السعادة؛ ففلسف الغرب عجزه وضياعه وحل محل ذاك التبسيط والاختزال العلماني الأول استحالة المعرفة الكلية، وطفح إلى السطح مفهوم النسبية في الفكر الفلسفي الغربي، وبدأت النظريات الفلسفية تتوالد لتفسير وتبرير هكذا مأزق معرفي. فانتهى الأمر إلى تيه وضياع فكري خالص، وفي غياب أي يقين معرفي وأخلاقي أصبحت كل الأمور نسبية ومتساوية وأصبحت العدمية (غياب الهدف والقيمة والمعيار والغاية والمعنى) فلسفة حياة، وحل الشك المطلق، وانبرى فلاسفة ومفكرو القرن التاسع عشر الغربيون إلى نسف أوهام فلسفة ما سمي بالاستنارة ومركزية الإنسان. وبدأ تفكيك الإنسان ورده إلى عناصر مادية بحتة أوصلت إلى الإنسان الحيوان عبر نظرية «داروين» في كتابه «أصل الإنسان»، وأنه كغيره من الحيوانات؛ ولذلك فإن آراءه في معنى الحياة الإنسانية والمثل العليا لا تستحق تقديرًا أكثر من آراء الدودة أو البكتيريا، وأن البقاء المادي هو المقياس الوحيد للنجاح التطوري. وأضحت الداروينية الحداثية فلسفة مع «نيتشه» عبر عنها في فلسفته «إرادة القوة» التي أعلن فيها أن القوة هي المعيار والمقياس الأول والأخير، وأن البقاء للأقوى، والحسم للأقوى، والهيمنة والسيطرة للأقوى، وأن القوة هي الطريقة المادية الطبيعية لحسم الصراع، فلا قيم ولا مثل ولا أخلاق، ولا مقدس ولا مدنس، ولا حلال ولا حرام، ولا خير ولا شر، ولا حسن ولا قبح، ولا معنى ولا غاية، وذاك ما عبر عنه فلسفيًا في دعوته لإزالة ظلال الإله التي كانت لا تزال تخيِّم وتحوم فوق الفكر الحداثي العلماني. فحسب «نيتشه»، على الوعي أن يتحرر من هذه الأنساق المعرفية المطلقة حتى يتحرر من الميتافيزيقا، فلا قيمة لعدالة مطلقة أو خير مطلق، وأن القيم الأخلاقية لا قيمة لها، وأن إرادة القوة هي البديل عن القيم المطلقة. فلا غاية من القيم ولا المطلقات سواء بالتفسير الديني أو المادي الغائي للكون. وهنا انتهى الفكر الغربي حقيقة إلى العدم والعدمية.
ومع بداية القرن العشرين الميلادي، وفي تطاحن استعماري موغل في الوحشية عزَّ نظيره في تاريخ الوجود البشري على الأرض، أنتجت حضارة الغرب مأساة البشرية الكبرى، وحوَّلت العالم إلى مسلخ بشري رهيب في حربي الغرب العالميتين الأولى والثانية (خسائر الحرب العالمية الأولى ما بين 16 و20 مليون قتيل، وخسائر الحرب العالمية الثانية ما بين 62 و78 مليون قتيل، في عقد من الزمن). فانكشف الغطاء عن فشل مروِّع للعقل البشري، وعن توهان وضياع معرفي للفكر الغربي أنتج أم الكوارث والمآسي الإنسانية التي جسدتها حضارته، وتهافتت فلسفته عن الحياة، وعاد سيرته ليفلسف ضياعه وتوهانه فأفرز الفكر الغربي ما يسمى في يومنا هذا «ما بعد الحداثة».
يرى يورجين هابرماس Habermas أن مقطع POST (ما بعد) في مصطلح ما بعد الحداثة يمثل رغبة لدى دعاة ما بعد الحداثة في الابتعاد عن ماض بعينه، إضافة إلى أنه في الوقت نفسه يعبر عن عجزهم عن تسمية حاضرهم «لأننا حتى الآن لم نجد حلًا للمشاكل التي تنتظرنا في المستقبل» وهي انتقال محض من العدمية إلى العبثية والسفسطائية، وذاك ما عبرت عنه آراء وأفكار «فوكو» و»دريدا» الفلسفية وغيرهما، عبر عنها «دريدا» بقوله: «إذ إنه يجب أن يكون للإنسان عقل كي يمكنه أن يتبرز»، وكتابه (الكتابة والاختلاف) غائط فكري يعبر عن العبث الفكري الذي انعدم معه كل غاية أو هدف أو مرجعية. وإنه وإن كانت الحداثة نفسها عدمية وعبثية، فما بعد الحداثة هو القاع العدمي العبثي الخالص. وانتهى الفكر الغربي في المحصلة النهائية والتحليل الأخير إلى ظلام خالص لا يشوبه أي نور. اختصرتها كلمات «ميشيل فوكو» عن موت الإنسان فلسفيًا إذ يقول: «لا يسع المرء إلا أن يقابل بضحك فلسفي كل من لا يزال يريد أن يتكلم عن الإنسان وعن ملكوته وعن تحرره».
وعبرت الأعمال الأدبية الغربية بأمانة تامة وبصدق خالص عن الكارثة الحضارية للغرب وعن مشاعر الضياع واليأس للإنسان الغربي الحداثي العلماني، فكانت قصيدة «الأرض الخراب» إصدار سنة 1922م تعبيرًا صادقًا عن القرف والاشمئزاز والعار من عالم الغرب وحضارته المثقلة بالمآسي والمخاوف والذعر والشهوات العقيمة، يقول صاحبها: «ما نفعها الجذور إن تشابكت وتصلبت وأي فروع». ثم أدب «كافكا» ففي قصته «المسخ» يدور الحديث حول كابوس الحياة الغربية وبؤسها وشقائها الذي يصبح معها الانتحار خلاصًا؛ حيث يقول: «لقد أمضيت حياتي كلها أقاوم الرغبة في إنهائها»، ويقول: «الحياة حرب، حرب مع نفسك، حرب مع ظروفك، وحرب مع الحمقى الذين صنعوا هذه الظروف». وفي تفسير دقيق لأعمال «كافكا» الأدبية يقول «روجيه غارودي» عنه: «أنه خلق هذا العالم السوداوي بمواد عالمنا مع إعادة ترتيبها». ومن أصدق التعابير عن مأساة الغرب الحضارية ما وصف به الشاعر المكسيكي الفائز بجائزة نوبل في تسعينات القرن الماضي «أكتافيو بات» المشهد العالمي الراهن بقوله: «إننا نعيش حقبة تدمير، حقبة حذر من الكلام، وهناك تفاهة تنساب في كل شيء … إننا اليوم أمام الفراغ نفسه، وليس لدينا أي شيء لنغمر به هذا الفراغ … وبرأيي، إن المعنى الحقيقي لمجتمع اليوم أنه مجتمع ينقصه المعنى». ويجلي هذه الحقيقة «روجيه غارودي» في كتابه عن الحضارة الغربية في عنوان معبر (حفارو القبور … الحضارة التي تحفر قبر الإنسانية) إذ يقول: «تظن الحداثة أن العلم والتقنية هما المعايير الوحيدة للتقدم. يقودنا دين الوسائل هذا إلى الهاوية، حفارو القبور هم هؤلاء الذين يروِّجون له، هكذا يحفرون بلا تبصر قبورنا. ليس للحياة معنى إلا بالاعتقاد في وجود إله». ويقول: «هذه الأيديولوجية تتسم بأنها تؤكد فردانية متطرفة تبتر الإنسان عن أبعاده الإنسانية، وفي نهاية الأمر خلقت قبرًا يكفي لدفن العالم».
فالغرب استباح العالم بقذارته الفكرية ردحًا من الزمن، وتضخمت كارثة الإنسانية ومأساتها، وباتت المأساة والكارثة مكتملتي الأركان برفضه مواجهة النتائج المعرفية والأخلاقية الكارثية الناتجة عن رؤيته المادية العلمانية. إن حضارة الغرب المادية ترصد الواقع المأساوي الذي خلقته؛ ولكنها غير قادرة وليس في مقدورها ذلك تغيير الواقع بشكل ينهض به، فلا تمتلك من القيم والمثل والأخلاق أي رصيد لتجابه به هذا الواقع الكارثي الذي صنعته، وإنما تجابهه بآلة حاسبة وكمبيوتر وأرقام جافة يابسة تنبئ عن الموت لا الحياة، عن الخراب الذي أفرزته ماكينته المادية لا عن العمران.
هذا الصنم المادي الذي دخل مرحلة التعفن والتحلل وجد نفسه وجهًا لوجه أمام الإسلام العظيم دين رب العالمين، وجد نفسه عاريًا مكشوفًا حضاريًا أمام التفوق الفكري والمعرفي لهذا الدين. فأدوات هذا الدين المعرفية يقينية خالصة من خلاَّق عليم خالق الكون والإنسان والحياة، فلا تعوزه لا الحجة ولا البرهان في إثبات أجوبته وتصوراته ومقاييسه وأحكامه، لذا فتفوقه المعرفي هو أرقى تجلياته وأكبر تحدياته.
التفوق والتحدي المعرفي للإسلام العظيم
الإسلام طراز خاص في الحياة متميز حضاريًا عن غيره كل التميز، نسيجه الفكري متفرد، أسسه المعرفية وحي من عليم خبير. (وَهُوَ بِكُلِّ خَلۡقٍ عَلِيمٌ)،(وَهُوَ ٱلۡخَلَّٰقُ ٱلۡعَلِيمُ)، (أَلَا يَعۡلَمُ مَنۡ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلۡخَبِيرُ ).
أساسه الفكري هو قاعدته الفكرية التي يبنى عليها كل فكر فرعي عن السلوك في الحياة وعن أنظمة الحياة. وهذا الأساس الفكري هو اليقين القطعي بوجود الإله، واليقين القطعي بأن القرآن كلام الله، واليقين القطعي بأن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن هذا اليقين القطعي تفرعت جميع عقائد الإسلام وأحكامه.
وهذا الأساس الفكري للإسلام العظيم هو العقيدة الإسلامية، فهي موافقة للفطرة الإنسانية، أي إقرارها بتلك الحاجة والعجز الإنساني، أي ذاك الشعور الإنساني الأصيل بالعجز والنقصان والمحدودية الذي يولد الشعور بالحاجة إلى الخالق المدبر، أي ذاك المظهر الطبيعي في الإنسان لغريزة التدين فيه.
والعقيدة الإسلامية عقيدة عقلية، فهي تستند إلى العقل في إثبات أجوبتها عن التساؤلات الكبرى المتعلقة بالوجود تفسيرًا وغاية ومصيرًا، أي العقدة الكبرى للإنسان، وبناؤها أساسه العقل، وأجوبتها يقينية قطعية مقنعة للعقل الإنساني.
وهذا الأساس الفكري المتين يشكل قاعدة فكرية تبنى عليها الأفكار وتنبثق عنها أنظمة الحياة، وتقود من يعتقدها إلى وجهة نظر معينة ومحددة ومتفردة، وإلى نمط معين ومميز للعيش، وإلى الحكم على الأفكار والوقائع والأحداث من منظور يقيني قطعي لا يتخلله ريب أو شك، فهي قيادة فكرية يقينية قطعية بامتياز.
إن واقع العقيدة الإسلامية من الإيمان الجازم بأن الله واحد أحد خلق الكون والإنسان والحياة وهو مدبر ما في الكون، وأن الحياة فانية، وأن الإنسان مصيره إلى الجنة أو إلى النار، وأن الرزق بيد الله وحده، وأن انتهاء الأجل بيد الله وحده، وأن القرآن من عند الله أرسله للبشرية هداية لإقامة الحياة الإنسانية السوية، وقد جاء به سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بوحي من الله، وأنه خلق هذه الدنيا لتكون مكان اختبار للبشر (ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلۡمَوۡتَ وَٱلۡحَيَوٰةَ لِيَبۡلُوَكُمۡ أَيُّكُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلٗاۚ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡغَفُورُ) ثم إلى جنة أو إلى نار، وأن الجنة هي دار مقام ولها بداية وليس لها نهاية (وَإِنَّ ٱلدَّارَ ٱلۡأٓخِرَةَ لَهِيَ
ٱلۡحَيَوَانُۚ لَوۡ كَانُواْ يَعۡلَمُونَ) فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين وما لم يخطر على قلب بشر أعدت للمتقين (وَٱلۡعَٰقِبَةُ لِلۡمُتَّقِينَ)، وأن النار هي العذاب فيها مقامع من حديد، وطعامها الزقوم وشرابها ماء يغلي يقطع الأمعاء،وعذابها لاينتهي(كُلَّمَا نَضِجَتۡ جُلُودُهُم بَدَّلۡنَٰهُمۡ جُلُودًا غَيۡرَهَا لِيَذُوقُواْ ٱلۡعَذَابَۗ) فالعذاب لا يتوقف ولا يخفف عنهم ولا يقضى عليهم فيموتوا (وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمۡ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقۡضَىٰ عَلَيۡهِمۡ فَيَمُوتُواْ وَلَا يُخَفَّفُ عَنۡهُم مِّنۡ عَذَابِهَاۚ كَذَٰلِكَ نَجۡزِي كُلَّ كَفُورٖ)وهذا الهول كله عند العزيز المتعال القهار الجبار ليس إلا( لِيَذُوقُواْ ٱلۡعَذَابَۗ) فإن كان هذا الوصف لجهنم هو للذوق فما هي طبيعة العذاب؟! وا هولاه! (قُتِلَ ٱلۡإِنسَٰنُ مَآ أَكۡفَرَهُۥ).
فهذه هي عقيدة الإسلام وأجوبتها القاهرة وجبروت قوتها وفعلها في البشر، فيقينها القطعي يولد إيمانًا يجعل من عبد الله بن مسعود t الذي كانت تذرو الرياح ساقيه رجلًا،عظيمًا قدماه عند الله أثبت من جبل أحد، فهذه العقيدة هي مكمن وسر الارتقاء إلى ذاك التكريم الإلهي والاستحقاق لسجود الملائكة.
كما أن هذا الإسلام العظيم جعل للإنسان مقياسًا لأعماله ثابتًا لا متغيرًا ولا متطورًا ولا خاضعًا لضغط الواقع أو هوى مشرع وضعي، فيعرف الإنسان المسلم قبيح الأعمال من حسنها، فيمتنع عن الفعل القبيح ويقدم على الفعل الحسن، وهذا المقياس من عليم خبير شرعه هدى لخلقه (وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ). وهذا المقياس دائمي ثابت صحته يقين، فلا يصبح معه الحسن قبيحًا ولا يتحول معه القبيح إلى حسن، فتدرك الأمور على حقيقتها فيسير الإنسان في طريق مستقيم على هدى من ربه (أَفَمَن يَمۡشِي مُكِبًّا عَلَىٰ وَجۡهِهِۦٓ أَهۡدَىٰٓ أَمَّن يَمۡشِي سَوِيًّا عَلَىٰ صِرَٰطٖ
مُّسۡتَقِيمٖ).
أما السعادة في الإسلام فهي نيل رضوان الله واستحقاق نعيمه المقيم وحياة الخلد في جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين، وهو المبتغى ومنتهى الأماني لكل من يعتقد عقيدة الإسلام، فالسعادة في الإسلام نابعة من إيمان أساسه يقيني قطعي، وهذا الإيمان موجب قطعًا للطمأنينة الدائمة، فسعادة الإسلام حقيقية نابعة من يقين وليست متوهمة أو ترجى من سراب.
وقد كرَّم الإسلام الإنسان قوامًا وعقلًا ووظيفةً وغايةً(وَلَقَدۡ كَرَّمۡنَا بَنِيٓ ءَادَمَ وَحَمَلۡنَٰهُمۡ فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ وَرَزَقۡنَٰهُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَفَضَّلۡنَٰهُمۡ عَلَىٰ كَثِيرٖ مِّمَّنۡ خَلَقۡنَا تَفۡضِيلٗا) فأتمَّ نعمته عليه بإسلامه العظيم الذي عالج الإنسان معالجة كاملة صنعت منه شخصية متميزة لا نظير لها بين البشر، فعالج بالعقيدة الإسلامية أفكاره، وجعل له قاعدة فكرية يقينية قطعية بها يعقل الأفكار فيتقي الفاسد منها فيأمن زلل الفكر ويظل صادق الفكر سليم الإدراك، وعالج أعمال الإنسان الصادرة عن حاجاته العضوية وغرائزه بأحكامه الشرعية المنبثقة عن عقيدته معالجة صادقة تنظم الغرائز ولا تكبتها، وتنسقها ولا تطلقها، وتهيئ له إشباع جميع جوعاته إشباعًا متناسقًا يؤدي إلى الطمأنينة والاستقرار. فنظام الإسلام هو النظام الوحيد الذي تنتظم به الحياة البشرية في اتساق وتناسق تامين مع نظام الكون كله لأنه من خالق الكون والإنسان والحياة (إِنَّا كُلَّ شَيۡءٍ خَلَقۡنَٰهُ بِقَدَر)،(وَخَلَقَ كُلَّ شَيۡءٖ فَقَدَّرَهُۥ تَقۡدِيرٗا)، (وَكُلُّ شَيۡءٍ عِندَهُۥ بِمِقۡدَارٍ).
وأساس هذا النظام الكتاب والسنة فهما الشريعة الإسلامية، وقد قام البرهان العقلي اليقيني أن الكتاب والسنة وحي من الله، أي أن الشريعة وحي من الله، فهي ليست نظريات تشريعية وضعية قاصرة وعاجزة وفاسدة متى طبقت على الوقائع والأحداث بان عوارها وفسادها، بل هي وحي من عليم خبير أحكامها الشرعية معالجات صادقة.
ومن كمال هذا الدين وتمام شريعته في تحديه المعرفي لأنساق البشر أنه متجاوز للزمان والمكان، فمعانيه العامة تنطبق وتطبق على الوقائع المتجددة وتستنبط لها حلولها العملية، أي الأحكام الشرعية المتعلقة بها. فالشريعة الإسلامية نصوص شرعية مجملة تنطبق على جميع وقائع بني الإنسان. ومن طبيعة النصوص التشريعية أن تكون عامة مجملة لإمكان تعميمها على الوقائع والأحداث. والنصوص الشرعية، سواء أكانت كتابًا أم سنة، هي أفسح النصوص مجالًا للتعميم على الإطلاق، وأخصب تربة لإثبات القواعد العامة، وهذا قمة العطاء التشريعي. ففضلًا عن سعة الشريعة وإحاطتها بجميع العلاقات بين الناس جميعًا، سواء أكانت علاقات بين الأفراد بعضهم مع بعض، أم علاقات بين الدولة والرعية، أم علاقات بين الدول والشعوب والأمم، فهي أصلح وأشمل النصوص التشريعية على الإطلاق، وذاك منتهى تحديها. فشموليتها آتية من مجال تعميمها الذي شمل العلاقات كلها، وذاك ما عبرت عنه جمل وألفاظ وأسلوب نصوصها وسبكها من حيث شمولها للمنطوق والمفهوم وللدلالة وللتعليل ولقياس العلة، مما يجعل الاستنباط متيسرًا ودائميًا وشاملًا لكل عمل إنساني مما يجعلها كاملة عامة. وتفردت وتميزت بسعتها لتشمل كل الوقائع والأحداث ماضيًا ومستقبلًا عبر سبكها لنصوصها في خطوط عريضة جعل منها أخصب النصوص لإثبات القواعد العامة والمعاني العامة لتندرج تحتها الكليات والجزئيات.
وتحديها الأكبر هي في كون معالجاتها علاجًا للإنسان بوصفه إنسانًا، أي منصبة على حاجات وغرائز الإنسان كإنسان، أي بيان لحكم فعل الإنسان وليست علاجًا لأفراد معينين. وبهذا فهي تعالج مشاكل
جميع الشعوب والأمم على اختلافأعراقهم وبيئاتهم متجاوزة حدود الزمن والمكان(ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ
نِعۡمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗاۚ). وما كان لهذا الدين أن يكون بهذه العظمة وهذا التفوق والتحدي المعرفي عقيدة وأنظمة حياة إلا لأنه من عليم خبير، فهو يعلو ولا يعلى عليه، (ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ)، (لَّا يَأۡتِيهِ ٱلۡبَٰطِلُ مِنۢ بَيۡنِ يَدَيۡهِ وَلَا مِنۡ خَلۡفِهِۦۖ تَنزِيلٞ مِّنۡ حَكِيمٍ حَمِيدٖ ).
حسم الصراع الحضاري
هذا هو التحدي الرهيب والتفوق القاهر للإسلام العظيم صيرورةً ومعرفةً وفكرًا. صيرورة: حضارة إسلامية سادت ثم بادت، وها هي في طور الانبعاث والبعث من جديد. معرفيًا وفكريًا: الإسلام دين يعلو ولا يعلى عليه. فأمام هذا المارد الجبار، تكشفت حقيقة القزم الغربي وانكشف عجزه المعرفي ومأزقه الفكري المدمر، فتجلَّى الغرب عاريًا من كل قناع وبدون أي مساحيق تجميل، تجلَّى وجهًا أقبح من القبح، أقصى أساليبه وأدواته في مواجهة الإسلام العظيم وحشية وسفك دماء ومحاولة بائسة يائسة لشيطنة الإسلام وتحريف أسسه وأحكامه.
أمام هذا القبر السحيق التي تحفره حضارة الغرب للبشرية، تقف البشرية على حافته لا بسبب الفناء المعلق على رأسها من جراء الحياة على النمط الغربي فقط، فهذا من أعراض الداء؛ ولكن الداء الخبيث العضال هو حضارة الغرب وسحقها لإنسانية الإنسان، ومسخها لفكره وشعوره، وخلقها غابة رأسمالية يفترس فيها القوي الضعيف في وحشية عز نظيرها في الزمن البشري على الأرض. هذا هو الواقع المأساوي للبشرية الذي بات معه حتمًا للإسلام العظيم أن يأخذ زمام المبادرة لإنقاذ البشرية وقيادتها من جديد إلى بر الأمان في أشد أزمنة البشر حرجًا وحيرة واضطرابًا.
آن للإسلام العظيم أن يُرجع البشرية إلى ربها،إلى دينه الذي ارتضاه لها، وإلى الحياة الكريمة الرفيعةالتي تتفق مع الكرامة الإنسانية التي كتبها الله لها…آن للإسلام العظيم أن يعيد للإنسان نبله وطهره وكرامته وتكريمه واستحقاقه لقول بارئه ومصوره
(وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ خَلِيفَةٗۖ )… آن للإسلام وأمته إخراج الناس من ظلمات الحضارة الغربية القاتلة إلى نور وعدل الإسلام، ومن ضيق وشقاء وبؤس وضنك الحياة في ظل الحضارة الغربية إلى سعة الدنيا والآخرة تحت ظل الإسلام… آن لأمة الإسلام أن تستعيد دورها الخيِّر في الريادة والقيادة لتحقق ما أراده الله لها ومنها (كُنتُمۡ خَيۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَتُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِۗ )، (وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّةٗ وَسَطٗا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيۡكُمۡ شَهِيدٗاۗ).
ولكن هذا الإسلام العظيم لا يملك أن يؤدي دوره إلا باستئناف الحياة الإسلامية التي بها تصبح كل تصورات الحياة وأوضاعها وأجوائها وأنظمتها وقيمها ومعاييرها ومقاييسها إسلامية صافية خالصة، ولا يكون ذلك إلا بتطبيق الإسلام عمليًا عبر كيانه السياسي خلافة على منهاج النبوة، فهي الترجمان الشرعي لعظمة الإسلام وعدله ورحمته وقوته. فهذا البعث الإسلامي لهذه الأمة بعد غياب عن العالم وقيادة دفته قارب القرن لا يكون إلا بانتزاع القيادة من الغرب المجرم، ولا يكون الأمر إلا بصراع دولي تنتزع فيه دولة الخلافة زمام الأمور من دول الغرب حقًا وقهرًا، وتحسم الصراع الحضاري وتطوي سجل حضارة الشقاء والبؤس الغربية.
إن إيجاد دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة هو الركن الركين في الصراع بين الإسلام وكفر الغرب، ومن السذاجة وقلة الفقه وانعدام الوعي السياسي أن يخاض الصراع بغير أدواته، أي وجود الكيان الفاعل أي دولة الإسلام خلافته التي بها يتجسد العدل والعزة والسعادة الإنسانية والخير كله فيلمسها القاصي والداني والمسلم والكافر، حينها يدخل الناس في دين الله أفواجًا ويتم الحسم الحضاري النهائي للإسلام العظيم. بهذا وعدنا الله ورسوله في قطعيِّ الخبر (وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ كَمَا ٱسۡتَخۡلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمۡ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرۡتَضَىٰ لَهُمۡ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعۡدِ خَوۡفِهِمۡ أَمۡنٗاۚ يَعۡبُدُونَنِي لَا يُشۡرِكُونَ بِي شَيۡٔٗاۚ وَمَن كَفَرَ بَعۡدَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ)، وقال صلى الله عليه وسلم: «ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ».
أيها المسلمون:
آن لخلافة الإسلام العظيم حسم الصراع وإنهاء مأساة البشرية بقبر حضارة البؤس والشقاء الغربية. فثقوا بجميل وعد الله لكم، واعملوا مع العاملين لتنصيب خليفتكم وإقامة جماعتكم على رجل منكم، يعمل فيكم بسيرة الراشدين؛ فيقيم أمر دينكم مرضاة لربكم، ويعد العدة، ويجمع أمتكم ويوحد شتاتها، ويرهب عدوكم، ويحفظ بيضتكم، ويعدل بينكم، ويقسم بالسوية حقوقكم، وينقذ البشرية جمعاء من شرور الغرب وإجرامه، ويًظهر الله على يديه هذا الدين كله ولو كره المشركون.
اللهم اهدِ أمة محمد صلى الله عليه وسلم لما يرضيك عنها ويجعلها لنصرك أهلًا يا أرحم الراحمين، بك نستغيث ونستجير، نحن الضعفاء ببابك، ضارعون بفنائك، مضطرون لعونك وغوثك، فانصر اللهم دينك، وحقق اللهم وعدك، وأنزل اللهم نصرك، اللهم آمين، اللهم ولك الحمد على كل حال وفي كل حين.
2019-11-10