دور الأمة الإسلامية في الدنيا لا يكون إلا بدولة
كالدولة التي أسسها رسول الله صلى الله عليه وسلم
أبو مالك، ثائر سلامة
الحَمْدُ للهِ ذِيْ الْـمِنَّةِ وَالطَّوْلِ، وَالْقُوَّةِ وَالْحَوْلِ، ذِيْ الْفَضْلِ وَالْعَطَاءِ، إِلَهِ الأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، مُعِزِّ الإسْلامِ بِنَصْره، وَمُذِلِّ الشِّرْكِ بِقَهْرِهِ، وَمُصَرِّفِ الأُمُورِ بِأَمْرِهِ، وَمُدِيْمِ النِّعَمِ بِشُكْرِهِ، وَمُسْتَدْرِجِ الكَافِرِيْنَ بِمَكْرِهِ، القَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ فَلا يُمَانَعُ، وَالظَّاهِرُ عَلَى خَليْقَتِهِ فَلا يُنَازَعُ، وَالآمِرُ بِمَا يَشَاءُ فَلا يُرَاجَعُ، وَالْحَاكِمُ بِمَا يُرِيْدُ فَلا يُدَافَعُ، الغَنِيُّ الْـمُفْتَقَرُ إِلَيْهِ، الْقَوَيُّ الْـمُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، الْـمُسْتَغْنِيْ عَنِ الشَّرِيْكِ وَالصَّاحِبَةِ وَالْوَلَدْ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تَنَزَّهَ عَنِ الأَنْدَادِ وَالْأَضْدَادِ وَالْأَكْفَاءِ وَالْشُّرَكَاءِ، وَتَعَالَى عَنِ الأَمْثَالِ والْظُهَرَاءِ وَالنُّظَرَاءِ، هُوَ الأَوَّلُ بِلَا ابْتِدَاءْ، وَالآخِرُ بِلَا انْتِهَاءْ، لَا سَمِيَّ لَهُ، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَلَا يُشْبِهُهُ أَحَدْ.
وَصَلِّ اللَّهُمَّ عَلَى الْمَخْصُوْصِ بِالـْمَقَامِ الـمَحْمُوْدِ، فِي اليَوْمِ الـمَشْهُوْدِ، صَاحِبِ اللِّوَاءِ الـمَعْقُوْدِ، وَالْحَوْضِ الـمَوْرُودِ، سَيِّدِنَا وإِمَامِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد في الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ وَفِي الْمَلأِ الأَعْلَى إِلَى يَوْمِ الْدِّينِ، صَلاَةً تَكُونُ لَكَ رِضَاءً وَلِحَقِّهِ أَدَاءً، وَأَعْطِهِ الْوَسِيلَةَ وَالْمَقَامَ الَّذِي وَعَدْتَهُ، الَّلهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ كَمَا هُوَ أَهْلُهُ وَيَسْتَحِقُّهُ، كَمَا يَلِيقُ بِعَظِيمِ شَرَفِهِ وَكَمَالِهِ وَرِضَاكَ عَنْهُ وَمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى لَهُ دَائِمًا أَبَدًا، أَفْضَلَ صَلاَةٍ وَأَكْمَلَهَا وَأَتَمَّهَا وَسَلِّمْ تَسْلَيمًا كَثِيْرًا.
وبعد، فقد تفكرت في الإطار الذي سأضع فيه كلمتي هذه، والتي سافرت لأجل إلقائها مسافة عشرة آلاف كيلومتر، وكلما غزلت غزلًا ظننت معه أنهُ حُلّةٌ فاخرةٌ قُدّت من أسلوبٍ على مقدار قامات المعاني المستوحاة من ذكرى الهجرة العطرة، أو تصلح بيانًا لدور الأمة الإسلامية في الدنيا، وهي تتشوف لاقتعاد القمة اللائقة بها، أو تبيانًا لحاجة البشرية الملحة اليوم للدولة الإسلامية بعد أن تغولت الدولة العلمانية الليبرالية الديمقراطية المدنية ونظامها الرأسمالي في حياتها، ومصَّت دمها وأفسدت في الأرض أيما إفساد، عدتُ ونقضتُ ذلك الغزلَ، وأعدت التفكير!
أعدت التفكير فقضية الأمة المصيرية ليست رغيفَ خبز تلهث وراءه، ولا استجداءَ مسكن وملبس ومأمن بعد أن سلبتها ذئاب البشرية مسكنها وملبسها ومأمنها، فظنَّ بعض أبنائها أن لا ملجأ لهم إلا تلك القوى الكبرى الاستعمارية نفسها، بشحمها ولحمها وأنيابها وبراثنها! وأياديها التي تمتد كأخطبوط يضعُ دساتيرَ ويمولُ كياناتٍ تضمنُ بقاء بلاد المسلمين نهبًا لتلك القوى نفسها، وأن يبقى سقف مطالب السياسيين في تلك البلدان هابطًا لا يرقى إلى أعلى من اللهاث خلف رغيف الخبز، أو دفء كرسي الحكم، أو وراءَ متاع قليل من حطام الدنيا، من مساعدات اقتصادية وبرامج تنموية هزيلة، أو حتى مجرد حلم بأن يحظى هؤلاء برضا المستعمر وحمايته، وهل برامج الأمم المتحدة للتنمية والتي أشرفت بشكل مباشر على إعداد وتمويل الدستور التونسي ونظائره من دساتير في بلاد المسلمين إلا شكلٌ من أشكال التبعية الاستعمارية التي تنهب خيرات البلاد بيد، فلا يبقى لأهلها منها إلا فتات الفتات، وتحارب بيدها الأخرى أي شكل من أشكال التحرر من التبعية والهيمنة الغربية سواء الفكرية أم السياسية أم العسكرية، لتضمن بقاء الأمة الإسلامية لاهثة وراء الرغيف والمسكن، أو لاهثة وراء النجاة من قبضة الطغم الحاكمة الظالمة المستبدة التي تحظى بدعم الغرب الكافر، أو قبضة تلك الثلة المضبوعة بفكر الغرب ونمط عيشه، وحال أمتنا:
كالعيس في الصحراء يقتلها الظما، والماء فوق ظهورها محمول!
فهل للأمة الإسلامية دور في الدنيا؟
إننا إذا نظرنا من زاوية السنن المجتمعية، وقانون تدافع الأمم، والذي لخصه رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديث جامع مانع، في سنن أبي داود: عَنْ ثَوْبَانَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا، فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ؛ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ» [سنن أبي داود/ 4297، مسند أحمد/ 21890، مسند أبي داود الطيالسي/ 1085]
إن هذا الحديث يعلمنا أن الأمم في تصارعها على المصالح أو اقتعاد الدور إنما هي كالسيل، فمن كان أصْلَ السيل ومادَّتَهِ كان إما رحمة للناس بما يحمله من هدى الإسلام، فجرى مجرى طيبًا، فأنبتَ الزرع ودرَّ الضرع، ورفع الظلم وأقر العدل، وإما أن يكون سيلًا جارفًا لا تحركه إلا الأطماع والشهوات، وتكون الأمم الضعيفة فيه كالغثاء والزبد والرغوة، لا أثر لها في مجرى السيل، فتسير معه على غير هدى، ويجرفها ويلقي بها على الأحجار الناتئة، والأشواك القاتلة، ويفرقها شذر مذر، ولا مهابة ولا شيء إلا الإبادة!
فهذا قانون التدافع وتلك السنن المجتمعية تفرض علينا أن يكون لنا مقعد الريادة، وأن نكون نحن السيل وأصله، لنحمل الرحمة المهداة للبشرية، ولنمنع أمتنا من أن تكون غثاء! فكيف للأمة الإسلامية أن تتقي عدوها إلا بدولة؟ ولقد حدد لنا ذلك صاحب الذكرى العطرة – ذكرى الهجرة – صلى الله عليه وآله وسلم بدقة، فيما روي عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّمَا الْإِمَامُ جُـنَّـةٌ يُقَاتَلُ من وَرَائِهِ ويُتَّقَى بِهِ».
قال النووي رحمه الله في شرحه على صحيح مسلم: قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: «الْإِمَامُ جُنَّةٌ» أَيْ: كَالسِّتْرِ؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ الْعَدُوَّ مِنْ أَذَى الْمُسْلِمِينَ، وَيَمْنَعُ النَّاسَ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَيَحْمِي بَيْضَةَ الْإِسْلَامِ، وَيَتَّقِيهِ النَّاسُ وَيَخَافُونَ سَطْوَتَهُ، وَمَعْنَى «يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ» أَيْ: يُقَاتَلُ مَعَهُ الْكُفَّارُ وَالْبُغَاةُ وَالْخَوَارِجُ وَسَائِرُ أَهْلِ الْفَسَادِ وَالظُّلْمِ مُطْلَقًا، وَالتَّاءُ فِي (يُتَّقَى) مُبْدَلَةٌ مِنَ الْوَاو لِأَنَّ أَصْلَهَا مِنَ الْوِقَايَةِ. انتهى، فالإمام، أو الخليفة إنما هو درعٌ واقيةٌ تحمي المسلمينَ، فلمّا سقطت الدرع انكشف ظهر هذه الأمة لسهام أعدائها، ورعاعها وطواغيتها، ولأمم الأرض يستبيحونها ويتكالبون عليها كتكالب الأكلة على قصعتها! و»إنما» في قوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا الْإِمَامُ جُـنَّـةٌ»، عند الجمهور أنها للحصر قيل بالمنطوق، وقيل: بالمفهوم، فالإمامُ الخليفةُ حصرًا وتوكيدًا لأهمية دوره هو الدرع الواقية للأمة داخليًا! والدرع الواقية للأمة من سهام أعدائها هي حصرًا الإمام، أي الدولة الإسلامية!
ودور الأمة الإسلامية في الدنيا أيضًا هو القوامة على فكر البشرية وطريقتها في العيش، يقول رب العالمين وهو أصدق القائلين: (كُنتُمۡ خَيۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَتُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِۗ ) ، لقد رتبت هذه الآية الكريمة بشكل عجيب قوام خيرية الأمة منطلقة من أمرها بالمعروف، ونهيها عن المنكر، وإيمانها بالله، وخير الأمم أفضلها وأعلاها شأنًا، أي أنها أكثر الأمم نهضة، إذ النهضة العلو، فنهض الرجل قام، ومكان ناهض أي مرتفع، وأمة ناهضة: مرتفعة خيّـرة، تسمو على الأمم الأخرى، ولكننا ندرك أن النهضة إنما تكون بأثر المفاهيم التي يحملها الإنسان، والتي يحملها المجتمع على السلوك والعلاقات التي يُبنى عليها، وبالتالي فقوام هذا السلوك الامتثال بالعُرَفِ (الأعراف) التي نتجت عن الإيمان بالله، والانتهاء عن المنكرات التي نهى الله عنها، أي تطبيق نظام الإسلام على الفرد والمجتمع والدولة، وبذا يلتزم المسلم، وتلتزم الأمة الاسلامية بالطريقة، فترشد وتقتعد مكانتها السامقة اللائقة بها، وتتحقق فيها الخيرية التي أكرمها الله تعالى بها، فهذه الآية الكريمة تتحدث عن نهضة الأمة كاملة، فنهضتها تنطلق من استقامتها على أمر ربها بجعل العُرَفِ التي عرفها الشرع مسيرة لأعمالها، وبأن تنآى بعدًا عن المنكرات التي أنكرها الشرع، لتستقيم بذا على الطريقة فترشد وتقتعد خير مكانة بين الأمم.
لقد ربط الحق سبحانه في الآية الكريمة بين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبين الإيمان بالله، فقدم عند الحديث عن الخيريةِ الأمرَ بالمعروفِ؛ لأن الخيرية والنهضة متعلقة بالسلوك أي بالأعمال، وهي من نتائج الايمان، وهي مبنية على الإيمان، وبالتالي فدقة الآية تفضي إلى أن نفهم منها أن الخيرية إنما تكون بجعل الأفكار العقدية هي المسيرة للسلوك، وبجعل العقيدة قيادة فكرية للأمة ومقياسًا لأفعالها.
ويؤكد هذا الفهم ويؤيده قول الحق سبحانه وتعالى: (وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّةٗ وَسَطٗا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيۡكُمۡ شَهِيدٗاۗ ) ، فدور الأمة أن تكون شهيدة على الأمم، بإقامتها الحجة عليهم بإحسان فهم وتطبيق الإسلام في نفسها، وبحمله إلى الأمم وحمل الأمم على الخضوع لنظام الإسلام، لا الخضوع لعقيدته قصرًا، وإنما قصر الأمم وحملها على الخضوع لنظام الإسلام، فهذا هو معنى قوامتها على فكر الأمم! والوسطية بمعناها الشرعي الصحيح هي العدالة، والخيرية، أي أن الأمة الإسلامية أمة الوسَط أي العدالة، أي الخيرية، لا الوسْط بمعنى البينية بين الشيئين ولا الظرفية؛ لأن الوسَطَ غير الوسْط بسكون السين، ولأن الرسول عليه السلام في الحديث الصحيح فسر الوسطية في الآية بالعدالة، أخرج الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي أبي القاسم صلى الله عليه وسلم في قوله:( وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّةٗ وَسَطٗا ) قال: «عدلًا». قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح. فيكون معنى «وسَطًا» عدلًا، أي أخيارًا. قال الزجاج: وسَطًا عدلًا، وقال بعضهم أخيارًا، واللفظان مختلفان والمعنى واحد، لأن العدل خير والخير عدل، وقال البغوي: وسَطًا أي عدلًا خيارًا. وقال القرطبي: وليس من الوسْط الذي بين شيئين في شيء. والوسطية أو الخيرية أو العدالة لا تكون تشريفًا إلا بالقيام بمقتضياتها، الشهادة على الأمم، بإحسان التطبيق وبحمل الدعوة، وبحمل الناس على الخضوع لنظام الإسلام، فكل الأمم أمرت في كتبها على ألسنة أنبيائها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكن الله اختص هذه الأمة بالخيرية بقوامتها على فكر البشرية وبدورها في تلك القوامة، وحينئذ تستحق مقام الخيرية!
لقد عانت الأمة الإسلامية من طامتين كبيرتين: أولاهما الانحطاط، وثانيتهما الهبوط عن المكانة اللائقة بها. ولا ترتقي وتنهض إلا باستباق الخيرات في أمور ثلاثة: فهم المبدأ الإسلامي فهمًا دقيقًا، وتطبيقه، وحمله لغيرها من الأمم، وكلما ازدادت فهمًا، وأحسنت التطبيق وتفانت في حمل المبدأ؛ سمت وارتقت في علياء خيريتها التي ارتضاها لها رب العزة سبحانه، فأما فهم المبدأ، فقوامه إعادة الصفاء لما نعتنقه من فكر إسلامي (أي ربط كل فكر أو حكم أو رأي بالدليل عليه من الكتاب والسنة، أي ربطه بما جاء به الوحي)، وإعادة النقاء (أي إبعاد كل فكر أو حكم أو رأي ليس من الفكرة الإسلامية ، أي ليس مما له دليل شرعي، عن الفكرة الإسلامية، فتزيل من الفكرة الإسلامية من قواعدها، وعقائدها، وأصولها، وأحكامها وآرائها ما علق بها من الشوائب وما أُلحق بها من أفكار في العصر الهابط أو جراء الغزو الفكري والتبشيري، أو جراء قيام المدارس التوفيقية والعقلانية التي تلوي أعناق النصوص وتفسر الإسلام تفسيرًا يتناسب مع الواقع بدلًا من تغيير الواقع بأفكار الإسلام)، وإعادة البلورة لمفاهيمها، (أي حسن تصور الفكرة الإسلامية في الأذهان، فيكون الفكر ناتجًا عن إحساس، وأن يتبلور هذا الفكر بحيث يرسم المخطط الهندسي للفكرة والطريقة في الذهن، فيدرك الإنسان المبدأ إدراكًا صحيحًا يؤدي إلى العمل، فيحدث الفكر فيه انقلابًا كاملًا، فيسير الفكر حينئذ متجسدًا في تهيئة الأشخاص والمجتمعات، ويُسَيِّر الأجواء بهذا الفكر فيحدث الانقلاب المطلوب في الرأي العام)
وأما تطبيق المبدأ الإسلامي، عقيدة ونظام حياة، فقسم منه يقوم به المسلمون أفرادًا في حياتهم، كالعقائد، والعبادات، والأخلاق، والمأكولات والملبوسات، والامتناع عن الحرام، وتغيير المنكر، والعمل في الأحزاب السياسية للتغيير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذه الأحكام واجبة (مع مراعاة العينية والكفائية في الوجوب) في ظل وجود الخلافة أو في عدم وجودها، وإن كان وجود الخلافة ييسر أمر تطبيقها، فضلًا عن ارتباطها بالخلافة من ناحية الإلزام بما كان واجبًا منها.
وقسمٌ أعظم من الإسلام لا يتم إلا بدولة إسلامية تضع أحكام الإسلام موضع التطبيق، بأن تكون ولاية السلطان والتحكم والسيطرة والقضاء في الدولة للخليفة ولجهاز الدولة، ويتمثل برعاية المصالح وفقًا لأحكام الإسلام، في السياسة الداخلية (تنفيذ أحكام الإسلام في الداخل، من تنظيم المعاملات، وإقامة الحدود، وتنفيذ العقوبات، وحراسة الأخلاق، وضمان القيام بالشعائر والعبادات، ورعاية شؤون الأمة ورعايا الدولة، سواء في علاقاتهم بالدولة وعلاقة الدولة بهم، من محاسبة، ومجلس أمة، ومظالم، ودوائر مصالح الناس، وتعيين ولاة وموظفين ومعاونين ومحتسبين، أم بعلاقاتهم بعضهم مع بعض من نصح وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وحفاظ على العقيدة، وحفظ الدين بنشر العلم، ومحاربة الجهل والبدع، وسياسة إعلامية، وفض خصومات، وتمكين الرعايا مسلمين وذميين من كافة الحقوق ومن الانتفاع بالثروات، ومن مرافق الدولة العامة، وضمان حاجاتهم الأساسية، ومن إقامة المجتمع على أسس من التعاون والإخاء والتكافل والإيثار، ومن إقامة الأمن، وإقامة الأسواق والمساجد والمستشفيات ومراكز الأبحاث والمرافق، والسدود، وما إلى ذلك، وإظهار طريقة العيش الإسلامية بأرقى صورها لتكون مثالًا ناصعًا تسوده الفضيلة، وقيمةً عليا وأداةً أساسيةً لحمل الدعوة الإسلامية للغير، ورعاية الدولة لهذه الحقوق والشؤون تأخذ ناحية تشريعية قانونية إلزامية لا روحية)، وفي السياسة الخارجية (العلاقات الدولية أي علاقات الجماعات والأمم والدول بعضها مع بعض، في أحكام المعاهدات والجهاد والتشريع الحربي والرسل والسفارات، ومن إقامة جهاز يقوم على صنع وتنفيذ السياسات والقرارات المتعلقة بالسياسة الخارجية، سواء الجهاز الحكومي أم الجهاز غير الحكومي المتمثل بالأحزاب السياسية والوسط السياسي، ومن معاهدات، وحمل دعوة لنشر الإسلام، وجهاد، وحربية، وما يتبع ذلك من إنشاء الصناعات الثقيلة وبناء المصانع واستخراج الثروات الطبيعية، والعلاقات الدولية مع الدول والأطراف الدولية الأخرى لتنفيذ أهداف الدولة الإسلامية على الساحة الدولية ونشر الإسلام واتخاذ القرارات التي تسير علاقات الدولة دوليًا، والسهر على شؤون الدولة من خلال مواكبة الأحداث والتفاعلات التي يشهدها النظام العالمي على المستويات السياسية، والاستراتيجية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية ودراسة أثر ذلك على الأمة، واتخاذ الإجراءات اللازمة لرعاية مصالح الأمة، ووضع الخطط اللازمة لحمل الدعوة ونشر الإسلام ورعاية مصالح الرعايا خارج الدولة) وفي أنظمة الاقتصاد والاجتماع والتعليم وغيرها مما لا يقوم إلا بدولة!
وأما حمل المبدأ، فكل أمة من الأمم التي أرسل الله إليها رسلًا أمرها بأن تأمر بالمعروف وأن تنهى عن المنكر وأن تؤمن بالله، ولكنه تعالى ميَّز هذه الأمة وجعلها خير أمة أخرجت للناس بأن أمرها بحمل المبدأ الإسلامي للبشرية قاطبة لتحكمها على أساسه فتجنبُ البشريةَ الاحتكامَ إلى الطاغوتِ: (وَلَقَدۡ بَعَثۡنَا فِي كُلِّ أُمَّةٖ رَّسُولًا أَنِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱجۡتَنِبُواْ ٱلطَّٰغُوتَۖ فَمِنۡهُم مَّنۡ هَدَى ٱللَّهُ وَمِنۡهُم مَّنۡ حَقَّتۡ عَلَيۡهِ ٱلضَّلَٰلَةُۚ فَسِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَٱنظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلۡمُكَذِّبِينَ ٣٦ ).
إذن فخيرية الأمة إنما تكون بأن تفهم وتطبق وتحمل المبدأ الاسلامي للبشرية قاطبة، وأن تسير علاقاتها وسلوك أفرادها بناء على النظام المنبثق عن هذا المبدأ. ودور الدولة الإسلامية في هذا كله محوري وأساسي، ولا يمكن أن تقتعد الأمة مكانتها التي ارتضاها الله تعالى لها إلا بدولة!
بهذا فقط تقتعد المكانة اللائقة بها: خير أمة أخرجت للناس، وبغير ذلك تهبط عن المكانة اللائقة بها لتصبح نهبًا لكل طامع تتداعى عليها الأمم كتداعي الأكلة إلى قصعتها، ينهبون خيراتها ويشوهون حضارتها بدس كل سم فيها لتخرج من النور إلى الظلمات بدلًا من أن تخرج هي البشرية من الظلمات إلى النور!
إن الاستذكار الحقيقي لمعاني الهجرة السامقة، والتي نقف أمامها بكل خشوع، إنما يكون باستذكار الدور الحقيقي للأمة الإسلامية ودورها القيادي في العالم، واستذكار رفض رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل شكل من أشكال الالتقاء مع الباطل في أول الطريق أو منتصفه أو آخره، ورفضه للحلول الوسط، حتى في أحلك حالات الضعف والحاجة، لأنه صلى الله عليه وسلم يعلمنا أن ليس بين الحق والباطل إلا الباطل، ولا ينزل الحق قدر إصبع نحو الباطل إلا خرج عن صفته، ويكون الاستذكار الحقيقي لمعاني الهجرة النبوية المشرفة باتخاذ قضية الإسلام وسيادته وقيادته والعيش له وبه قضية مصيرية يتحمل مسئوليتها كل فرد من أفراد الأمة، كما عاش لها وبها سيد الخلق صلوات ربي وسلامه عليه، وصحابته النجب الكرام، ويكون الاستذكار الحقيقي لمعاني الهجرة النبوية المشرفة بضرب القيم المنحطة الهابطة التي تروج لها الطغم السياسية اللاهثة خلف برامج الأمم المتحدة والدول الاستعمارية الناهبة الطامعة الخبيثة! إننا ننتمي لخير أمة أخرجت للناس، لا نستجدي حقنا ولا مكانتنا ولا ننالهما اختلاسًا؛ خير أمة لا ترضى أن تكون في ذيل الأمم، مهيضة الجناح، مستباحة البيضة، وهي تحمل للبشرية خير رسالة تؤهلها للوقوف بكل قوة في وجه هيمنة الحضارة الغربية، وتخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، تحكمهم بدولة إسلامية كتلك التي عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته ثلاث عشرة سنة في مكة لأجل إقامتها، ملاقين في سبيل إقامتها الويلات والعذاب الشديد، وقد صُلوا بمكروه هذا الأمر، عذابًا لا تطيق مثله الجبال الراسيات، حتى حفرت في الظهور منهم الأخاديد، جراء صَلْيـها بالحديد المُـحمَّى بالنار، ومن جلدها بالأسواط بلا رحمة، واحترقت من طول التعذيب فوق رملٍ شديد الالتهاب في صُيوفٍ شديدة الحرِّ، واستشهد من استشهد، وهاجر من هاجر مغتربًا عن أرضه وأهله، مُخَلِّفًا وراءه بيته وماله نهبًا لأعدائه، وقد اكتحلوا السهر يصِلون الليل بالنهار، بأعمال منقطعة النظير بُغية إقامة تلك الدولة، حتى أذن الله بإقامتها، وأمضى وعده للمستضعفين بالاستخلاف والتمكين والأمن، دور الأمة الإسلامية في الدنيا لا يكون إلا بدولة كالدولة التي أسسها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين هاجر إلى المدينة!
والحمد لله رب العالمين