مع القرآن الكريم
2019/08/02م
المقالات
2,202 زيارة
مع القرآن الكريم
(وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِۧمُ رَبِّ أَرِنِي كَيۡفَ تُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰۖ قَالَ أَوَ لَمۡ تُؤۡمِنۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطۡمَئِنَّ قَلۡبِيۖ قَالَ فَخُذۡ أَرۡبَعَةٗ مِّنَ ٱلطَّيۡرِ فَصُرۡهُنَّ إِلَيۡكَ ثُمَّ ٱجۡعَلۡ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٖ مِّنۡهُنَّ جُزۡءٗا ثُمَّ ٱدۡعُهُنَّ يَأۡتِينَكَ سَعۡيٗاۚ وَٱعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٞ ٢٦٠)
جاء في كتاب التيسير في أصول التفسير لمؤلفه
عطاء بن خليل أبو الرشته
أمير حزب التحرير حفظه الله في تفسيره لهذه الآيات ما يلي::
ثم بعد ذلك يذكر الله لنا طلب إبراهيم – عليه السلام – أن يريه الله سبحانه كيف يحيي الموتى؟ ويسأله الله تعالى شأنه وهو يعلم السر وأخفى ( أَوَ لَمۡ تُؤۡمِنۖ ) فيجيب إبراهيم – عليه السلام – بأنه مؤمن؛ ولكن يريد أن يطمئن قلبه برؤية ذلك عيانًا. والآية الكريمة تدلّ على أن رؤية المغيبات عيانًا ليست شرطًا للإيمان بل الإيمان يتم استدلالًا، فإن إبراهيم كان مؤمنًا قبل أن يشاهد إحياء الموتى عيانًا. إنما رؤية المغيبات عيانًا هي منزلة أخرى يمنّ الله بها على من شاء من عباده لحكمة يعلمها سبحانه.
ومن الجـديـر ذكره أن مشاهدة المغيبات تحتاج إلى دليل نقلي لإثباتها، فلو لم يخبرنا القرآن الكريم أن الله سبحانه أراها لإبراهيم – عليه السلام – لما قلنا بذلك؛ لأن المغيبات غير واقعة تحت الحس ليبحث العقل فيها ويقيم الدليل عليها، بل تحتاج إلى دليل نقلي لإثباتها. فالعقل يبحث في الواقع، ومنه يخرج بنتيجة، وما لا واقع محسوس أمامه يعتمد في إثباته على النقل. فنحن آمنّا بالله سبحانه عن طريق البحث العقلي في مخلوقاته الماثلة أمامنا، فعلمنا من واقعها المحدود المحتاج العاجز أنها مخلوقة لخالق أزلي قديم واحد أحد هو الله سبحانه، ثم آمنا بأن القرآن كلام الله بالبحث في واقع هذا الكلام المعجز المتحدي للعرب الأقحاح الفصحاء أن يأتوا مثله، فلم يستطيعوا ولن يستطيعوا، فأدركنا أنه كلام الله سبحانه فآمنّا به، وبالتالي آمنّا بأن الذي جاء به رسول من عند الله صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك آمنا بكلّ المغيبات بالدليل النقلي المقطوع به. فطـريـق الإيمـان بالمغـيبات التي لا واقـع محـسـوس يدلّ عليها، طـريـق ذلك الدليل النقلي.
وهكـذا فـلـو قـال أحـدهـم إنـه رأى الملائكة أو الجنّ أو شاهد أمورًا لا يعلمها إلا الله مغيبة عنه فإن قوله يردّ إلا أن يأتي بدليل من كتاب الله سـبحـانه وسـنة رسـوله صلى الله عليه وسلم تقـيم الحـجـة له على ذلك؛ وعليه فنحن نؤمن بالله ورسوله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، وكل المغيبات التي جاءت بالدليل المقطوع عن الله ورسوله، ونؤمن بكلّ ذلك استدلالًا بإقامة الحجة عقلًا ونقلًا.
ولا يتوقف الإيمان على مشاهدة المغيبات عيانًا، فإن إبراهيم – عليه السلام – كان مؤمنًا قبل أن يرى كيفية إحياء الموتى كما جاء في الآية الكريمة ( قَالَ أَوَ لَمۡ تُؤۡمِنۖ قَالَ بَلَىٰ ). وإنما كان إبراهيم – عليه السلام – يرغب ويتوق أن يرى كيفية إحياء الموتى، وكان يحبّ أن يحقق الله له هذه الرغبة فيطمئن قلبه بالمشاهدة عيانًا كما هو مطمئن بذلك استدلالًا.
( وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِۧمُ رَبِّ أَرِنِي كَيۡفَ تُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰۖ ) (رَبِّ) كلمة استعطاف تذكر قبل الدعاء مبالغة في استمرار الإجابة. ( أَرِنِي ) من الرؤية البصرية التي تأخذ مفعولين: الأول ضمير المتكلم والثاني ( كَيۡفَ تُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰۖ ).
( كَيۡفَ تُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰۖ ) سؤال فيه إقرار من إبراهيم – عليه السلام – بأن الله يحيي الموتى ولكنه أحب أن يرى كيف يتم ذلك. فهو لا يفيد شكًا في إحياء الموتى وإلا لكان بغير كيف، بل بالاستفهام (هل تحيي الموتى؟) (أتحيي الموتى؟) ونظير هذا أن يقول القائل: كيف يحكم زيد في الناس؟ فهو لا يشك أنه يحكم فيهم؛ ولكنه سأل عن كيفية حكمه المعلوم ثبوته، ولو كان سائلًا عن ثبوت ذلك من عدمه لقال (أيحكم زيد في الناس؟) أو (هل يحكم زيد في الناس؟). فالسؤال ( كَيۡفَ تُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰۖ ) إقرار بإحياء الله سبحانه للموتى والمراد أن يرى إبراهيم – عليه السلام – كيف تمّ هذا الإحياء. وهذا هو المعنى الحقيقي للسؤال بـ(كيف).
إلا أن احتمال المعنى المجازي يبقى واردًا، وهو استعمال كيف في الاستعجاز، كما إذا ادّعى مدعٍ أنه يحمل ثقلًا من الأثقال وأنت جازم بعجزه عن حمله فتقول له: (أرني كيف تحمل هذا؟) وتريد أنه عاجز عن حمله.
وعلى الرغم من أن الحقيقة هي المقدمة على المجاز، إلا أن الله سبحانه أراد أن يظهر أن احتمال المجاز ليس واردًا في ذهن إبراهيم – عليه السلام – عند السؤال.
فقال سبحانه ( أَوَ لَمۡ تُؤۡمِنۖ ) والله يعلم حقيقة الأمر، إلا أن الله سبحانه أراد أن يظهر أن إبراهيم – عليه السلام – لم يُرِدْ من سؤاله إلا المعنى الحقيقي من السؤال، وهو رغبته في أن يجعله الله سبحانه يشاهد عيانًا كيفية إحياء الموتى. وهكذا كان جواب إبراهيم – عليه السلام – (بلى) أي أؤمن بأنك يا رب قادر على إحياء الموتى، ولا شكّ عندي في ذلك.
( وَلَٰكِن لِّيَطۡمَئِنَّ قَلۡبِيۖ ) أي إنما سألت ليطمئن قلبي بالمشاهدة عيانًا كما هو مطمئن بذلك استدلالًا.
فمنّ الله بفضله على إبراهيم – عليه السلام – فأراه ذلك بأن أمره أن يجمع أربعة من الطير ويذبحها ويفرق أجزاءها على مواضع عدة في جبال مختلفة، ثم يدعوها إليه فيرى كيف تتجمع ثانية ويعود كلّ جزء لأصله وتعود الطيور أحياء بإذن الله، وهكذا كان.
( فَخُذۡ أَرۡبَعَةٗ مِّنَ ٱلطَّيۡرِ ) أي إن أردت ذلك فخذ، فالفاء هنا لـجــواب شــرط مـحــذوف (إن أردت فـخــذ).
( فَصُرۡهُنَّ ) من صاره يصوره أو يصيره، وقد قُرِئت بالضم (فصُرهن) بالتخفيف، وقرأ حمزة (قراءةً متواترةً) بالكسر (فصِرهنّ). وهي بالضم بمعنى قَطَعَه أو أماله.
وبالكسر بمعنى القطع كما قال الفراء. ولأن القراءتين متواترتان والمعنى واحد فيكون المعنى المحكم بين القراءتين: قَطِّعهن أي اذبحهن وقَطِّعهن أجزاء.
( ثُمَّ ٱدۡعُهُنَّ ) أي نادهنّ.
( يَأۡتِينَكَ سَعۡيٗاۚ ) في موضع الحال و( سَعۡيٗاۚ ) أي عدوًا على أرجلهن، ولا يقال للطائر إذا طار سعى.
( وَٱعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٞ٢٦٠ ) أي غالب على أمره، ذو حكمة بالغة، لا يعجزه شيء، ولا تحكمه أسباب المخلوقات، بل هو القاهر فوق عباده الخلَّاق العليم. .
2019-08-02