بسم الله الرحمن الرحيم
مقتطفات من كتاب التيسير في أصول التفسير للعالم الجليل عطاء بن خليل أبو الرشته
( مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107)).
جاء في كتاب التيسير في أصول التفسير لمؤلفه
عطاء بن خليل أبو الرشته
أمير حزب التحرير حفظه الله في تفسيره لهذه الآيات ما يلي:
( مَا نَنْسَخْ ) النسخ لغةً الإزالة والنقل، ويقال نسخت الريح الأثر أي أزالته، ونسخت الكتاب أي نقلت ما فيه.
وشرعاً رفع الحكم المستفاد من نصٍّ سابقٍ ووضع حكمٍ آخر بدلاً منه مستفادٍ من نصٍ لاحقٍ.
( أَوْ نُنْسِهَا ) لها معنيان فهي من المتشابه، إما من النسيان أي ينسها الله رسوله e فتُنسى وتُرفع، أو من الترك بدون تبديلٍ أي لا ننسخها على نحو قوله سبحانه: ( نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ) التوبة/آية67 يعني تركوا الله فتركهم.
وهذه ( نُنْسِهَا ) لها قراءة متواترة أخرى ( ننسأها ) وقد قرأ بها الإمامان (أبو عمرو وابن كثير) من القراء السبعة، وقرأ الخمسة الباقون ( نُنْسِهَا ) بضم النون. و(ننسأها) هي من قولك نسأت هذا الأمر أنسؤه نسأً ونَساءً إذا أخرته.
فيكون المعنى ( أو ننسأها ) أي نؤخرها فلم ننسخها بل نتركها بدون نسخ، وهذه القراءة محكمةٌ لأنَّ لها معنىً واحداً، وكما هو معلوم في الأصول فإن المحكم يقضي على المتشابه وبذلك يستبعد معنى النسيان ويبقى المعنى واحداً، سواء أقُرِئت ( نُنْسِهَا ) أم ( ننسأها )، وهو نؤخرها فلا ننسخها ونتركها بدون نسخٍ، لأن القراءتين متواترتان ومعناهما واحد أي ( مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا ) تعني ما ننسخ من آية أو نتركها دون نسخ.
( نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ) أي عند النسخ يأتي الله سبحانه بآيةٍ خيرٍ من الآية المنسوخة أو مثلها. فجواب الشرط ( نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا ) هو لفعل الشرط ( نَنْسَخْ )، أي (ما ننسخ من آية نأت بخير منها أو مثلها). أما ذكْر ( أَوْ نُنْسِهَا ) أي «نتركها دون نسخ» ما دام جواب الشرط لا يشملها، فما أرجحه بعون الله هو أنها لزيادة علم بأن الله سبحانه ينسخ آياتٍ ويبقي آياتٍ دون نسخ، ولو ذكِرتْ (ما ننسخ من آية نأت بخير منها أو مثلها) دون ذكر (أو ننسها)، لكان هناك احتمال أن يُفهم منها أن الآيات كلها تتعرض للنسخ، وأما بذكر (أو ننسها) أي أو نتركها دون نسح فقد زال الاحتمال وتأكد لنا أن هناك آياتٍ يقع فيها النسخ، وآياتٍ أخرى لا يقع في النسخ بل تترك دون نسخ.
وقول الله سبحانه ( أَوْ مِثْلِهَا ) على الحقيقة، أي نأتي بآية مثل الآية المنسوخة. وأما ( بِخَيْرٍ مِنْهَا ) فتتعذر الحقيقة هنا لعدم وجود آيةٍ خيرٍ من آيةٍ، فكله كلام الله سبحانه. وهنا لا بدّ لنا من الانتقال إلى المعنى المجازي بإضمار (حكم) أي نأتي بآيةٍ الحكم المستفاد منها خير من الحكم المستفاد من الآية المنسوخة، وهذا يعني أن نسخ الآية يتم بآية مثلها أو بآية فيها حكم خير من الحكم في الآية المنسوخة.
وهو على نحو إضمار ( وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ ) يوسف/آية82 أي أهل القرية لتعذر سؤال القرية على الحقيقة، وعلى نحو ( وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ ) البقرة/آية93 أي حب العجل لتعذر إشراب العجل في قلوبهم، وهكذا ( نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا ) أي بخير من حكمها لعدم وجود آيةٍ خيرٍ من آيةٍ.
وأما الخيرية في الأحكام فهي تقع على النحو التالي:
-
إما خيرية عاجلة كأن ينسخ الحكم ويوضع بدلاً منه حكم أخف أو لا يوضع حكم جديد، فتكون الخيرية عاجلة حسية في سهولة الأداء وتيسيره.
-
وإما خيرية آجلة بالأجر والثواب في الآخرة كأن ينسخ الحكم ويوضع بدلاً منه حكم أكثر مشقة فتكون الخيرية في زيادة الأجر والثواب يوم القيامة لكون الأداء الجديد أكثر مشقةً من أداء الحكم المنسوخ، وهنا تكون الخيرية آجلة في الآخرة.
وعلى هذا يكون معنى الآية الكريمة:
أن الله سبحانه يترك بعض الآيات بدون نسخٍ، وينسخ آياتٍ أخرى وهو سبحانه حين ينسخ آيةً ياتي بآيةٍ أخرى تكون بآية مثلها أو بآيةٍ أخرى الحكم الجديد فيها خير من الحكم في الآية المنسوخة. والخيرية في الحكم كما بينا إما حسية عاجلة لسهولة الأداء في الدنيا أو آجلة بزيادة أجر وثواب في الآخرة.
وأما قوله سبحانه ( أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107) ) فهو استفهام للتقرير، أي أن الهمزة هنا للتقرير وهو خطاب لرسول الله e (إنك تعلم أن الله على كلّ شيء قدير، وهو يملك كلّ الأمور ويديرها ويعلم ما يصلح عباده فينسخ أحكاماً ويثبت أخرى، ولا رادّ لأمره سبحانه، وما لكم أجمعين ولي ولا نصير من دون الله جلّ ثناؤه).
فالاستفهام هنا للتقرير على نحو قوله سبحانه: ( أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ) الشرح/آية1 أي أننا شرحنا صدرك، وعلى هذا النحو قوله سبحانه: ( أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ) الزمر/آية36 أي أنَّ الله كافٍ عبده.
فائدة عن النسخ:
إن النسخ كما قلنا هو رفع حكمٍ شرعيٍ مستفادٍ من نصٍّ سابقٍ ووضع حكمٍ شـرعيٍ آخـرٍ بـدلاً منه مسـتفادٍ من نصٍّ لاحقٍ، وحتى يكون هناك نسخٌ لا بدّ من الأمور التالية:
-
أن يأتي نصٌ صريحٌ لاحقٌ لنصٍ سابقٍ في نفس موضوع الحكم.
-
أن يكون هناك قرينةٌ في النصين تفيد صراحةً نسخ الحكم في النص السابق فلا يكفي شبهة التعارض لحدوث النسخ.
-
النسخ يقع في الحكم ولا يقع في الخبر، فالخبر عن الله سبحانه لا يحتمل إلا الصدق الجازم فلا نسخ فيه مطلقاً. وجميع ما ورد من نسخ – باستقراء النصوص – هو في الأحكام الشرعية لا غير.
-
ليس هناك نسخُ تلاوةٍ، فلم يقع في تلاوةِ أيَّةِ آيةٍ نسخٌ فكلّ ما نزل من قرآن – وهو الذي بين دفتي المصحف – لم تنسخ تلاوة أيَّة آية فيه، أما ما نقل بآحاد الأحاديث على أنه قرآن فهو ليس قرآناً، لأن القرآن هو معجزة رسول الله eوالحجة القاطعة على الناس، وهذا يعني أن يصل للناس مقطوعاً به – أي نقلاً متواتراً – لأنه كان ينزل على رسول الله eفيتلوه على الناس في جماعةٍ، ويُكتب من كتبة الوحي وهذا لا يتأتى معه أن ينقل آحاداً دون تواترٍ لأنه لم يُتْلَ على آحادٍ بل على جماعاتٍ، ولأن الله سبحانه قد حفظه ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) الحجر/آية9 وهذا يعني أن يصلنا مقطوعاً به غير مظنون، كلّ ذلك يثبت أن ما نقل آحاداً ليس قرآناً، وعليه لا يوجد قرآن غير ما بين الدفتين، وحيث أنه مَتْلُوٌّ كله ولم تنسخ أيَّة آيةٍ تلاوة فيه فهذا دليلٌ قاطعٌ على عدم وقوع النسخ في التلاوة بل في الحكم دون التلاوة.
-
الآية لا تُنسخ إلا بآية، وذلك لأن الله سبحانه يقول ( وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ ) النحل/آية101 أي أن الله سبحانه ينسخ آيةً بآية. وكذلك ما جاء في الآية السابقة ( مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا ) فالله هو سبحانه الذي يأتي بما ينسخ الآية، أي أن الدليل الناسخ هو آية لأن هذا هو الذي يأتي به الله، فالقرآن هو كلام الله سبحانه. والسنة وإن كانت وحياً من الله سبحانه لرسوله eلكنها وحي بالمعنى أما لفظه فينسب إلى رسول الله e، وبذلك فهي لا تنسخ القرآن، سـواء أكانت السـنـة متـواتـرةً أم ظنيةً لأن الآيتين السابقتين تدلان على أن الآية لا تنسخ إلا بآية.
وأما السنة فتنسخ بالقرآن، وينسخ حديث الآحاد بالحديث المتواتر وبحديث الآحاد على الوجه المبين في بابه في علم الأصول.
-
يختلف النسخ عن التخصيص للعام، فالنسخ رفع الحكم السابق كله فلا يُعمَل به بعد ذلك، وأما التخصيص فيرفع الحكم بالنسبة لجزءٍ من العام وليس إلى عمومه كله، فنسخ الصلاة إلى المسجد الأقصى (القبلة الأولى) ووضع الكعبة قبلةً بدلاً منها ومن ثمَّ الصلاة إلى القبلة الجديدة – الكعبة – يعني رفع الحكم الأول – الصلاة إلى المسجد الأقصى – نهائياً فهذا نسخٌ.
أما تخصيص الزكاة في الأنعام السائمة بناءً على الحديث «في الإبل السائمة زكاة»[1] المخصص لحديث الزكاة في عموم الأنعام – السائمة وغيرها – «فإذا بلغت الإبل إحدى وعشرين ومائة ففي كلّ أربعين بنت لبون وفي كلّ خمسين حقة»[2] فلم ترفع الزكاة عن الإبل بعامة بل رفعت عن غير السائمة وعن العاملة وأبقيت في السائمة غير العاملة، أي يرفع الحكم عن جزءٍ من العام، وهذا تخصيصٌ للعام وليس نسخاً له.
-
وباستقراء النصوص الواردة في النسخ يتبين أن نوع الحكم الجديد بالنسبة للحكم المنسوخ يقع ضمن ثلاث حالات: