العوامل الجغرافية لقوة الدولة وضعفهاـ دراسة بدائية ومختصرة (2)
2018/12/24م
المقالات
13,187 زيارة
العوامل الجغرافية لقوة الدولة وضعفهاـ دراسة بدائية ومختصرة (2)
عبد الحميد عبد الحميد
الدولة مؤسسة تستمد هيبتها من ثقة الأمة التي شكلتها بهدف تحقيق طموحاتها داخل حدودها وخارجها، فلا بد من حيازتها قوة تمكنها من تحقيق تلك الطموحات.. وهذه دراسة بدائية ومختصرة لأهم العوامل الجغرافية لقوة الدولة وضعفها، لخصتها من أحد كتب الجغرافيا السياسية، لتنبيه الشباب عليها، وتكون نواة لدراسات تالية متخصصة ومعمقة.
وقد تناولنا في العدد السابق عوامل ثلاثة هي: الموقع الجغرافي للدول، ومساحتها، وشكلها. وسنتناول في هذا العدد: التضاريس، السهول، والجبال، والموارد الطبيعية، والمناخ، والعامل الاقتصادي.
4ـ التضاريس ـ السهول:
هناك العديد من المظاهر التضريسية المختلفة في أغلب الدول كالسهول والجبال والهضاب والأودية والأنهار والسهول الساحلية. بينما تحوي القليل من الدول وضعًا تضريسيًا متشابهًا كهولندا والدانمارك اللتين تتكون رقعتهما السياسية من الأراضي السهلية المنخفضة الصالحة للزراعة، على عكس النرويج التي تغلب عليها الجبال والهضاب.
وميزة كل نوع من التضاريس هي إمكانية الدفاع والمقاومة أو العكس في إمكان الاجتياح من قبل الغزاة، كسهول بلاد الشام الممتدة من شمالها إلى الجنوب التي سهلت احتلالها من قبل الغزاة على مر التاريخ. والسهل الواسع شمال أوروباـ ومن ضمنه بولونيا كان أكثر عرضة للغزوات من المناطق الجبلية المركزية في جنوب أوروبا؛ حيث يسهِّل غزو الدول فقدان الحواجز الطبيعية كالجبال والأودية والأنهار على تخومها.
وتؤمن المناطق السهلية شبكة مواصلات جيدة مفيدة أوقات السلم في تنشيط الاقتصاد، وهي أفضل أنواع التضاريس لاستغلالها من قبل الشعوب التي تسكنها؛ ولذلك فعادة ما تكون هي المأهولة بالسكان. والسهول هي التي تزود العالم بالمواد الغذائية من خلال استغلالها في الزراعة إذا ما توافر فيها المناخ المناسب والمطر الكافي. أما إن كان السهل واسعًا والأمطار قليلة، فسيكون إنتاجها قليلًا ولا يكاد يكفي سكانها القلائل أيضًا، كالسهول الشمالية لكل من كندا وروسيا؛ حيث المناخ البارد والقاسي مما يجعل النشاط الزراعي معدومًا، وكما في سهول مصر وليبيا الشاسعة حيث قلة الأمطار السنوية.
أما وجود أنهار ومستنقعات وأودية ضمن المناطق السهلية فيشكل عامل حماية طبيعيًا ضد الغزاة ويربك الجيوش المهاجمة، كما مثلت أراضي أوكرانيا السهلية عائقًا طبيعيًا أمام تقدم القوات الألمانية خلال الحرب العالمية الثانية لاحتوائها على أنهار وأودية عميقة ومستنقعات. وتشكل السهول النواة المركزية لبعض الدول، وخاصة السهول الساحلية منها، بما توفره من المرونة لحركة قوات الدولة، والمردود الاقتصادي المطلوب لبناء القوة العسكرية الكافية للدفاع والتوسع.
والأراضي السهلية الخصبة الوفيرة الأمطار تمتاز بالكثافة السكانية. ونتيجة لسهولة الحركة فينشط التبادل التجاري والتمازج الفكري ويسهل انتشار الآراء والأفكار الدخيلة، إضافة إلى سهولة حدوث التمازج السلالي، كما حدث في بلاد الشام من التمازج البشري والثقافي الكبير عبر الغزوات المتتالية خلال حقب التاريخ، على عكس شبه الجزيرة العربية التي كانت على الدوام بعيدة عن المؤثرات الخارجية.
5ـ الجبال:
لقد كانت الجبال دائمًا عامل قوة في الدفاع عن حدود الدولة. وعلى الرغم من أنها فقدت جزءًا كبيرًا من أهميتها نتيجة لتطور الأسلحة من طائرات وصواريخ، لكنها راحت تستعمل في نفس الوقت لبناء محطات رادارية بهدف الاستطلاع والتنصت ورصد تحركات العدو. ومعلومة أهمية قمم جبل الشيخ في الجولان جنوب سوريا في السيطرة الاستراتيجية على جميع المناطق المجاورة؛ حيث عمدت أميركا إلى منع حافظ أسد من التنازل عنها لليهود طوال ثلاثين عامًا لأنها تريد أن تسيطر هي عليها مباشرة عبر ما يسمى بالقوات الأممية، ولكن اليهود كانوا على علم بالخطة الأميركية ولم يعيدوها للنظام في سوريا.
ويصعب في المناطق الجبلية شق شبكة من المواصلات لربط المراكز السكنية المتناثرة فوقها، لكنها يمكن أن تكون مصدرًا لثروة نباتية هامة إذا كانت مغطاة بالغابات التي يستفاد من خشبها في بعض الصناعات. ولها دور هام كذلك في زيادة كمية التهطال السنوي.
وتشكل المناطق الجبلية دولًا بكاملها كسويسرا ونيبال وبوتان. حيث توجد سويسرا في المنطقة الجبلية المحيطة ببحيرة لوسرن التي أمنت لها تضاريسها الحماية الطبيعية، وهيأت لها السيطرة على ممرات استراتيجية مهمة من الناحية التجارية، مما دفع الدول الأوروبية إلى تحييدها خلال الحربين العالميتين. وتحتل كل من نيبال وبوتان مجموعة من الأودية المحصورة بين سلاسل جبال الهيمالايا الشاهقة التي تفصلها عن سهول الهند في الجنوب. وتعيق المناطق الجبلية النشاط التجاري وانتقال البشر، وتفتقر إلى الأراضي الزراعية، وتكون غالبًا ذات كثافات سكانية متدنية.
وتشكل الجبال عائقًا يمنع اتصال أبناء الدولة الواحدة، كما في الدول الأميركية المشرفة غربًا على المحيط الهادي والحاوية على سلاسل جبالي روكي والأنديز الطولية بدءًا من كندا شمالًا وحتى تشيلي في الجنوب؛ حيث يصعب الاتصال ما بين سكان الشريط الساحلي وسكان المناطق الشرقية من هذه الدول.
وتلعب الجبال دور الملجأ الطبيعي للثوار ومركزًا للتمرد ضد الحكومات المركزية، حيث تشكل المناخ الملائم لحرب العصابات المعتمدة على الأسلحة خفيفة الوزن، والمبدأ القتالي: اضرِب واهرُب. حيث استفاد مقاتلو اليونان ويوغوسلافيا وإيطاليا وفرنسا من جبال بلادهم في حروب العصابات التي شنوها ضد الجيوش الألمانية المحتلة. وكذلك استفاد مقاتلو فيتنام في الأجزاء الشمالية والوسطى من فيتنام الجنوبية من الطبيعة الجبلية المكسوة بالغابات في قتالهم ضد الأميركان. والجبال غير الصالحة لحركة المدرعات لا يمكن احتلالها إلا بإنزال جوي. ومما يزيد من سلبيتها شدة انحدارها حيث تعيق الحركة وتقلل من إمكانات رصد العدو إضافة إلى عرقلتها للاتصالات اللاسلكية.
6ـ الموارد الطبيعية:
بسبب اختلاف التركيب الكيميائي لطبقات الصخور التي تكون تضاريس الأرض، وتباين المناخات حسب القرب والبعد عن خط الاستواء والارتفاع والانخفاض عن سطح البحر، فلقد اختلفت التربة من منطقة إلى أخرى على سطح الأرض، وبالتالي تباين الغطاء النباتي والحيواني، وتنوعت الثروة البرية والبحرية، وتمايزت الموارد الطبيعية التي تمتلكها الدول عن بعضها البعض.
وكلما كانت مساحة الدولة أكبر تنوعت مواردها الطبيعية أكثر. وتعد الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي سابقًا من الدول التي تكاد رقعتها السياسية تحتوي على معظم الموارد الطبيعية التي تحتاجها الدولة. لكن بسبب التقدم الصناعي وكون العديد من المواد الخام الضرورية للصناعات المعاصرة لا تتوافر في أراضي الدول الصناعية، فتعمد هذه الدول إلى استيرادها من الدول المتخلفة الغنية بها، وفي مقدمتها النفط؛ حيث تصدرها دولها لتستوردها أدوات مصنعة من آلات وسيارات وعتاد عسكري بأسعار مرتفعة قياسًا بأسعار المواد الخام المصدَّرة، ما يجعل ميزانها التجاري دومًا خاسرًا. كذلك فإن اعتماد دولةٍ ما على سلعة خام واحدة يجعلها خاضعة للسوق الخارجية التي تصدر إليها هذه السلعة.
7ـ المناخ:
يلعب المناخ المعتدل دورًا هامًا في تنشيط فعالية الإنسان، وبالتالي فإنه يساعد في زيادة قوة الدول؛ حيث ساعد المناخ المعتدل لمنطقة حوض المتوسط على نشوء الحضارات الكبرى منذ أقدم العصور، بينما نرى أن المناطق الباردة والحارة الرطبة والحارة الجافة تقيد فعالية الإنسان وتشكل نقاط ضعف للدول.
ويلعب المناخ دورًا كبيرًا في توزيع سكان الدولة. ومن الأمثلة الظاهرة على تأثيره التوزع غير المتساوي لسكان البرازيل، حيث يقطن 90% من السكان البالغ عددهم /210/ مليون نسمة المناطق الشرقية والجنوبية حيث تصل الكثافة إلى /20/ نسمة في الكم2، بينما في المناطق الشمالية والغربية فتنخفض الكثافة إلى شخص واحد في الكم2، وذلك بسبب انتشار الغابات الاستوائية الكثيفة؛ حيث الرطوبة والحرارة المرتفعتين طوال أيام السنة.
أما أستراليا فيقع جزؤها الشمالي في منطقة المناخ الاستوائي وشبه الاستوائي حيث الرطوبة والحرارة المرتفعتين والكثافة السكانية القليلة. أما جزؤها الجنوبي فحرارته جيدة؛ لكن نقص الأمطار يؤثر سلبًا على الزراعة وبالتالي على التوزع السكاني. أما وسط أستراليا الذي تشغله صحراء حارة وجافة فيكاد يكون شبه معدوم من السكان، حيث لا تزيد الكثافة على شخص واحد في كل خمسة كيلومترات مربعة. ولا يوجد في هذه المنطقة سوى بقايا السكان الأصليين الذين نجَوا من إبادة الإنسان الأوروبي. ويبقى الجزء الجنوبي الشرقي والشرقي المعتدلان، فيقطنهما تسعة أعشار السكان البالغ عددهم /25/ مليون نسمة.
وتمتاز المناطق القطبية الباردة بوفرة ثرواتها من الحيوانات البحرية كالحيتان والفقمة، وتعد عديمة الأهمية زراعيًا، إلا أن اكتشاف الثروات المعدنية فيها يعطيها أهمية استراتيجية، كالحديد الخام المكتشف شمال السويد، والذهب والنفط في ألاسكا، إضافةً إلى موقعها القطبي الذي يقصر المسافات بين القارات والدول إذا تم سلوكه بالطائرات. فالطريق التقليدي بين أوسلو ونيويورك الذي يحتاج إلى زمن /53/ ساعة بالطائرة يمكن اختصاره إلى /24/ ساعة إذا سلك الطريق القطبي. وبسبب تقدم القوى الجوية وسلاح الصواريخ أصبحت المنطقة القطبية منطقة ارتكاز استراتيجية، فالمسافة بين موسكو ونيويورك تبلغ /7516/ كم، وهي تكفي لاستخدام صواريخ متوسطة المدى.
فالمنطقة القطبية بسبب مناخها البارد لا تشكل أرضية جيدة لدولة قوية، ولم تقم فيها دول وحضارات ذات شأن في السياسة الدولية؛ ولكن المسيطر عليها يملك ميزة استراتيجية هامة بسبب قربها من كل من روسيا ومن أميركا. وإذا تغيرت الدول العظمى يومًا واختلفت موازين القوى فقد تفقد تلك المنطقة أهميتها الاستراتيجية.
ونفس الكلام يقال عن المناطق الاستوائية حيث الحرارة والرطوبة العاليتان طوال العام دون فصل جفاف، مما يجعلها غير صالحة للسكن، إضافة إلى الجو الخانق للتنفس والتربة الفقيرة بالمواد الغذائية بسبب غسلها المستمر بالأمطار الدائمة مما يمنع قيام الزراعات اللازمة، إلا في المناطق الجبلية المرتفعة حيث الحرارة والرطوبة المقبولتان، إلا أنها تكون ذات مساحات صغيرة غير كافية لقيام دول قوية.
أما المناطق الحارة الرطبة لفترة معينة من السنة، والتي يتلوها فصل جاف، كما في الهند والفليبين وكوبا والهند الصينية، فتعد من أكثر مناطق العالم كثافة سكانية، لتوافر الظروف المناسبة لقيام زراعات جيدة.
فالأمطار الموسمية في الهند التي تزيد مساحتها على /3.23/ مليون كم2 ويبلغ تعدادها السكاني /1.32/ مليار نسمة، تؤدي إلى قيام فصلين زراعيين، فصل الصيف ـ الخريف الذي يبدأ ببذر البذور في أيار وينتهي بالحصاد في تشرين الأول والثاني، وفصل الشتاء. الربيع الذي يبدأ بالبذر في تشرين الثاني وينتهي بالحصاد في أيار.
وللمناخ تأثير هام وقت الحروب وأثناء القتال، ففي المناطق ذات المناخ الفصلي من النادر أن تقدم دولتان على خوض معركة بينهما في فصل تساقط الأمطار؛ لأن الآليات الحربية والمدرعات ستسير على أرض رخوة، فلن تستطيع التحرك بالمرونة المطلوبة، حتى إن القوى الجوية والدفاع الجوي سيعرقل أعمالها الطقس الغائم والماطر. فأغلب الحروب العربية (الإسرائيلية) كانت في فصل الصيف لهذا السبب. وعليه فلا يجب أن تتوغل الدبابات التركية هذه الأيام الماطرة في منطقة عفرين. هذا إضافة إلى أن المحاصيل الزراعية تنضج في بداية الصيف، ويجب أن يحصد معظمها قبل بدء المعارك لتؤمن الإمداد الكافي بالغذاء للقوات المتحاربة.
ويجب أن تأخذ الجهات الحكومية الظروف المناخية في عين الاعتبار أثناء الحروب لتقدم نوع الطعام واللباس المناسب للمقاتلين كي يقاتلوا في ظروف مريحة فيقدّموا أفضل ما لديهم؛ فتختلف حاجات المقاتلين في المناطق الصحراوية عنها في المناطق ذات المناخ الحار والماطر، وعنها في المناطق ذات المناخ البارد المثلج. ووجودهم في مناطق المستنقعات والأنهار يرتب عليهم احتياجات غير وجودهم في المناطق الجبلية.
والدول الكبيرة تُعِدُّ قواتها لخوض المعارك في أي مكان من العالم مهما تباينت الظروف المناخية. فغذاء ولباس الجنود الأميركيين في القواعد العسكرية في المنطقة القطبية يختلف عن غذاء ولباس أقرانهم في القاعدة العسكرية دييغو غارسيا في المحيط الهندي، وغير غذاء ولباس البحارة في الأسطول السابع الذي يهدد دول جنوب شرق آسيا. وغنية عن البيان الظروف المناخية السيئة. وغير المحسوبة جيدًا التي تعرض لها الجيشان الفرنسي زمن نابليون والألماني أيام هتلر أثناء توغلهما في الأراضي الروسية، فكانت من أهم أسباب اندحارهما.
فيجب على قادة الدولة التي تريد القيام بعمل عسكري خارج حدودها أخذ الظروف المناخية التي ستدور فيها المعارك بعين الاعتبار. وتعد إيطاليا في غزوها للحبشة سنة /1935/م خير مثال على ذلك، حيث تجنبت فصل الصيف الحار والماطر المترافق مع فيضان النيل، وعمدت إلى الهجوم أثناء الشتاء الجاف حيث الأرض الصلبة الصالحة لتحرك المدرعات أثناء العمليات الحربية خارج الطرق المعبدة.
فلكي يقاتل الجندي في ظروف صحية ونفسية مريحة وبفعالية عالية يجب على القادة تحديد زمن المعارك وساحتها، وذلك لا يتم إلا بأخذ المبادرة من العدو، والاستعداد المسبق وتجهيز الجندي بكل وسائل الراحة.
8ـ العامل الاقتصادي:
يشكل العامل الاقتصادي ركيزة أساسية يجب أن تستند إليها الدولة في تشكيل قوتها الذاتية، ولبلوغ ذلك لا بد من احتواء رقعتها على موارد طبيعية وافرة في الكم والنوع، وهذا لا يتحقق إلا للدول ذات المساحات الكبيرة التي تحتوي على أنواع مختلفة من الترب والمناخات والتركيبات الجيولوجية، كما هو متوافر بنسب معينة لدى كل من روسيا وأميركا وأستراليا والصين. وإن توافر الموارد الطبيعية من المواد الخام الأولية غير كافٍ إذا لم يكن مترافقًا مع تقدم علمي وصناعي وتقني في الدولة يسمح باستغلال ذاتي لتلك الموارد، وذلك ضمن سياسة صناعية مدروسة تقوم على مبدأ صناعة القوة، بصناعة آلات النقل البري والبحري والجوي والمعدات الصناعية وصناعة المصانع الإنتاجية في القطاعات الغذائية والكيميائية والمخبرية والإلكترونية والبحث العلمي إضافة إلى الصناعات الحربية. وفي ظل التقدم الصناعي الحالي فإن أغلب الدول الصناعية الكبرى تفتقد إلى الكميات المطلوبة من المعادن اللازمة لاستمرار سير العجلة الصناعية في هذه الدول، ولذلك تعمد إلى استيراد هذه المعادن من خارج حدودها.
فاعتماد الولايات المتحدة الأميركية على استيراد المعادن الأساسية، كالحديد والنحاس والبلاتين والقصدير واليورانيوم يزداد يومًا بعد يوم، ولذلك فإن قضية المعادن الأساسية تشغل بال السياسة الأميركية إلى درجة كبيرة قد تقترب من المساحة التي تشغلها قضية النفط. فلا قيمة للنفط إن توقف تصنيع الآلات والمحركات التي ستستعمله، كما حذّر المعهد الجيولوجي الأميركي يومًا. وهذه الأهمية هي التي كانت تفسر مثلًا موقف الولايات المتحدة المنحاز إلى النظام العنصري الذي كان قائمًا في جنوب أفريقيا؛ لكونها كانت تستورد منه اليورانيوم والكروم والبلاتين. أما الحديث عن حاجة أوروبا وأميركا إلى النفط نفسه، وقصتهم مع البقرة الحلوب في الخليج العربي المعطاء جدًا، فحديث سياسي ذو شجون، ولا تتسع له هذه الدراسة البدائية والمختصرة.
هذا عن الدول الكبيرة، أما الدول الصغيرة المساحة وقليلة العدد السكاني، فمهما امتلكت من الثروات المعدنية الأساسية والتقنية الصناعية المتطورة فلن يؤهلها ذلك لأن تكون دولًا عظمى أو حتى قوية قوة معتبرة. وإذا قويت هذه الدول يومًا فتكون قوتها مستندة إلى عوامل خارجية وقوة دول عظمى غيرها، وستزول قوتها عند أول امتحان حقيقي، كقوة ما يسمونها اليوم بدولة (إسرائيل) المصطنعة. وإذا لم تمتلك الدولة الكبيرة تلك المواد الأساسية اللازمة لصناعاتها فهي مضطرة لاستيرادها من خارج حدودها عبر بحر العلاقات الدولية الذي تنغمس فيه، وتتكون لها فيه شرايين تستمد منها الحياة. وفي هذه الحالة فستخضع لضغوط الدول المصدرة، إضافة إلى ضغوط الدول المنافسة لها على استيراد هذه المواد.
ولا بد لأجل قوة الدولة من تحقيق مستوى عالٍ من الإنتاج الغذائي الذي يجب أن يسد حاجة السكان وبشكل وافر وزائد عن الحاجة في أوقات السلم، باستغلال جميع الأراضي الصالحة للزراعة أفضل استغلال؛ كي يكون لديها وفر غذائي احتياطي أوقات الأزمات والحروب، على اعتبار أنه في الحروب سيذهب قسم كبير من هذا الإنتاج إلى المقاتلين، إضافة إلى قلة عدد المزارعين الذين سيتركون أعمالهم لصالح تكليفهم بمهمات قتالية.
وإذا عجزت الدولة عن سد حاجة مواطنيها من الغذاء ذاتيًا فعليها تأمين ذلك عبر علاقاتها التجارية مع الدول، على شرط ألا يكون ذلك على حساب الانتقاص من سيادتها ومصادرة قرارها السياسي. وفي حالة الارتهان إلى الخارج من أجل الغذاء فيسهل خنق الدولة بحصارها اقتصاديًا عبر القوة العسكرية المباشرة أو عبر المقاطعة.
ومثال ذلك إنجلترا التي تستورد نصف ما تحتاجه من غذاء من خارج حدودها، ففرض حصار بحري وجوي عليها يؤدي إلى استسلامها، وهي تدرك ذلك جيدًا فتعمل لأن يكون أسطولها الجوي والبحري قادرين على تأمين الطرق الملاحية المؤدية إليها. وهذا بالضبط ما حاولت ألمانيا فعله معها في الحربين العالميتين، حيث ضربت حولها حصارًا بحريًا بسلاح الغواصات، وقد نجحت بذلك في الحرب العالمية الأولى، إذ أدت إلى شل حركة نقل المواد الغذائية المتجهة إلى بريطانيا، وأوشكت أن تحدث مجاعة بالشعب الإنجليزي داخل جزيرته. هذا ويجب على الدولة تنمية ثروتها الحيوانية لسد حاجات سكانها من اللحوم والألبان، ويجب عليها تطوير استغلال ثروتها السمكية وتجهيز أسطول بحري لصيد الأسماك وتصنيعها. ويجب على الدولة كذلك امتلاك أسطول نقل جوي، وبحري لتصدير الفائض من سلعها واستيراد اللازم من المواد وتأمين حركة المسافرين من الدولة وإليها، وذلك كله عبر أسطولها الجوي والبحري.
وأخيرًا فلا بد للدولة من شبكة كثيفة من المواصلات داخل حدودها السياسية عبر الطرق المعبدة والسكك الحديدية وذلك لزيادة تماسك أجزاء الدولة، وربطها ربطًا محكمًا بالعاصمة، وتسهيل وتسريع حركة القوات العسكرية عبر أجزائها في حالات الأخطار الخارجية والداخلية. إضافةً إلى أنها تزيد من اتصال سكان الدولة ببعضهم البعض، فتنمي الروح المشتركة، وتحدّ من الشعور الانفصالي في المقاطعات البعيدة، وتجعل قيام الحركات الانفصالية ضعيف فرص النجاح، لتوافر عوامل القضاء عليها والحفاظ على وحدة الدولة.
2018-12-24