استراتيجيات سياسة القوة لدى مفكري الغرب في القرنين التاسع عشر والعشرين، كيفية السيطرة على العالم باستخدام القوة (1)
2003/12/12م
المقالات
8,980 زيارة
استراتيجيات سياسة القوة لدى مفكري الغرب
في القرنين التاسع عشر والعشرين
كيفية السيطرة على العالم باستخدام القوة (1)
عبد الحميد عبد الحميد
لأننا في عالم رأسمالي متوحش لا مكان فيه للضعفاء، ونطمح إلى بناء دولة يجب أن تصمد نواتها الأولى أمام هجوم الدول الراسخة في القوة، ثم تقوى هذه النواة وتتمدد لتحوي حدودها جميع بلاد المسلمين، ثم تقوى وتتمدد لتحكم العالم أجمع بالإسلام.. لأجل ذلك رأينا أن نفتح هنا نافذة نطلّ منها على مبدأ سياسة القوة ونظريات منظّريه الغربيين، لنقف على أساليب تفكيرهم، وأسباب انطلاقهم من وجهات نظر مختلفة في الأداة الأهمّ الواجب استخدامها لأجل حكم العالم.
مفهوم سياسة القوة:
ينطلق مبدأ سياسة القوة من الفكرة القائلة: إن ما تستطيع دولة ما أن تفعله في السياسة الدولية يعتمد على القوة التي تمتلكها، وإذا ما أرادت دولة ما أن تحقق نجاحًا فلا خيار لها إلا أن تجعل من إحراز القوة هدفها الرئيس.
ويفرض هذا المبدأ على الدول ذات الطابع التوسعي أن تكتسب قدر ما تستطيع من القوة العسكرية، لا لتدافع عن رقعتها السياسية فحسب، بل لتفرض سيطرتها وهيبتها على أراضٍ جديدة خارج حدودها السياسية.
فالدولة الجيدة، كما يرى أحد منظري سياسة القوة، هي الدولة التي تمتلك الجيش القوي، وإن ازدراء فن الحرب لهو السبب الرئيس في ضياع الدول والإمارات، وإن التمرس فيه وإتقانه لهو السبيل إلى بقائها وعلوّها.
ولأن رغبات الدول متعارضة فالنزاع بينها هو النتيجة المحتومة، والحرب هي التي تقرر من الأقوى، ومن الذي سيحصل على ما يريد. والأقوى هو صاحب الحق، والحق بحاجة دائمة إلى سيف مشرع إلى جانبه حتى يحق.
ولأن العامل الأهمّ في مسار السياسة الدولية هو طبيعة القوة العسكرية وتوزعها بين الدول، فالضمانة الأساسية لحد أدنى من النظام هو توزع القوى بين الدول المتعادية بشكل متوازن، أي حصول توازن للقوى يجعل مالكيها ينفرون من الاقتتال؛ لأنه سيكون بالغ التكاليف، وخسائره ستفوق الأرباح.
وقد منعت سياسة توازن القوى نشوب حرب مباشرة، كانت ستكون مدمرة لو نشبت، بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي في النصف الثاني من القرن الماضي، لضخامة الأسلحة التي كان يمتلكها الطرفان، وقدرتها على التدمير الشامل والسريع.
ويعترض منتقدو مبدأ سياسة القوة هذا بأن قوة الدولة ظاهرة غير قابلة للقياس، وكل ما يمكن إحصاؤه منها هو مصادرها، التي وكأنها رجال تحت السلاح، ربما تحقق فائدة ما في موقف مستقبلي معين، وربما لا، فتظل هي في أحسن الأحوال مؤشرات إلى القوة ومعالم عن أماكن تواجدها، ولا تستطيع الدول إلا محاولة إحراز مصادر القوة التي تظن ظنًا أنها ستكون مفيدة.
والقوة بحد ذاتها عامل نسبي، ومن كان قويًا في ظرف ما قد يكون ضعيفًا في ظرف آخر. فرغم أن أميركا كانت أقوى بكثير من فيتنام الشمالية إلا أنها دُحرت أمامها في فيتنام الجنوبية، واضطرت إلى الانسحاب. وقوة الاتحاد السوفياتي العسكرية النووية الهائلة لم تحل دون انهياره وتفككه وانحسار نفوذه عالميًا.
فالقوة العسكرية ليست هي كل شيء، ومن ظن أنه سيحصل بها على كل شيء فسيخسر كل شيء.
هذا وقد ظهر مفكرو سياسة القوة الغربيين منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين على جانبي المحيط الأطلسي، ورغم أنهم اختلفوا في تحديد نوعية السلاح الواجب استخدامه من قبل الدولة التي تعتنق مبدأ سياسة القوة، إلا أنهم اتفقوا عمومًا على النقاط التالية:
1- القوة العسكرية هي الأداة الفعالة في تحقيق الأهداف التوسعية للدولة.
2- الدولة كائن حي قابل للسمنة والنحافة، وحدودها مرنة ومتحركة، وذلك على ضوء القوة العسكرية التي تمتلكها.
3- لا مكان للدول الضعيفة على خارطة العالم السياسية، لأن الحياة يجب أن تقتصر على الأقوياء فقط.
4- مصالح الدول في تناقض، وهذا يقتضي تنافسها وتطاحنها لتحقيق المكاسب لرعاياها على حساب الآخرين.
5- عدم إقامة أي وزن للقيم الروحية أو الأخلاقية أو الإنسانية إذا ما وقفت عائقًا أمام تحقيق أهداف الدولة التوسعية.
6- إن الأرض التي نعيش عليها لا تتسع إلا لقيام دولة عالمية واحدة.
1ـ المفهوم السياسي للقوة البحرية -الاستراتيجية البحرية:
كانت البحار والمحيطات وما زالت حلبة للتنافس السياسي والاقتصادي، وللصراعات المسلحة بين الدول ذات الشواطئ البحرية المفتوحة والصالحة للملاحة طوال العام؛ مما دفع هذه الدول إلى بناء قواتها البحرية وزيادة فاعليتها عبر السنين.
فتاريخ القوة البحرية قديم منذ أن كانت الأساطيل الحربية البحرية تتألف من قطع بحرية مقاتلة تتخذ من قوة الذراعين التجديفية طاقة حركة لها، إلى أن تمت الاستفادة من طاقة الرياح التي تحرك السفن من خلال سطوح أشرعتها، ثم أصبحت السفن تسير بالطاقة البخارية ثم بالوقود النفطي، وأخيرًا عبر استخدام الطاقة الذرية.
وهكذا فقد تطور استخدام القوة البحرية عبر الزمن من خلال الاستفادة من آخر المنجزات التقنية، وأصبح سلاح البحر لدى بعض الدول متحكمًا بسلاحي البر والجو. فإضافة إلى قوات أسطول الأعداء المتواجدة في البحار يمكن أن يشمل مفعول سلاح البحر مجمل أراضي البلد المعادي عبر استخدامه سلاحي المدفعية والصواريخ.
وتعود الأهمية المتزايدة للقوة البحرية إلى قدرتها على الحركة والمرونة دون عوائق، لأن البحار والمحيطات لا تخضع لسلطان أية دولة ولا يسري عليها مفعول قوانينها. وتعود كذلك إلى مهماتها الضخمة التي تشمل إلى جانب تدمير أساطيل العدو تحطيم قدرته الحربية والاقتصادية، عبر التأثير في مراكزه الحيوية ومواقع قواته المسلحة وتحشداتها، بغية التمهيد للقوات البرية للاستيلاء على أرضه.
هذا وتلعب البحار دورًا هامًا في تنشيط العلاقات التجارية ومختلف أنواع التواصل بين الشعوب. وقد ظهرت عدة مدنيات وتطورت متخذة من قواعدها في الشواطئ الساحلية مراكز انطلاق لها. ويعد الفينيقيون أول شعب أدار ظهره للبر متخذًا من رحاب البحر قبلة له، فأنشؤوا على الساحل الشرقي للبحر المتوسط عدة مدن بحرية كصيدا وصور وعكا وأرواد، حيث كان إدراك الفينيقيين لأهمية البحر وراء إنشائهم لإمبراطوريتهم البحرية.
لقد اقتنع فينيقيو صور بأن الإمبراطورية البحرية تقوم على التجارة والمواصلات أكثر من الاستيلاء على الأراضي البرية الواسعة التي تتطلب الحاميات الكبيرة وتكون معرضة للتفسخ بحسب تقسيمها إلى ولايات. واقتنعوا بأن الموقع الجزري لعاصمة الدولة أكثر أمانًا وسلامةً من الأخطار الخارجية مما لوكانت المدينة على الشاطئ البري مباشرة. ولذلك نقلوا عاصمتهم إلى الجزء الصخري الذي يبعد عن الشاطئ عشرات الأمتار، وبذلك أمنوا سلامة أراضيهم من أخطار الدول البرية البابلية والآشورية التي كانت قائمة، حتى مجيء الإسكندر.
يقول أحدهم: «ولو أن هذه الجزيرة الصخرية كانت تبعد كيلومترًا واحدًا فوق بعدها الأصلي عن الشاطئ لكان الأرجح أن يرتد عنها الإسكندر خائبًا، وقد كاد. إذ تبين من سقوط صور وقرطاج أن الإمبراطورية البحرية تقوم على عاصمتها، فإذا ذهبت العاصمة ذهبت الإمبراطورية. وبذلك تختلف عن الإمبراطورية البرية التي قد تذهب عاصمتها ولكن القضاء عليها لا يكون مبرمًا».
وقد انتهت كذلك إمبراطورية قرطاج البحرية بإحراق عاصمتها من قبل الرومان، الذين ورثوا سيطرتها على معظم بلدان البحر المتوسط، بعد أن فشل هنيبعل في اقتحام أسوار روما، التي اجتاز إليها من الغرب جبال الألب قادمًا من فرنسا، في خطة عسكرية تقوم على شن هجوم خاطف لا يتيح للعدو لملمة نفسه، بالالتفاف عليه من أكثر المناطق وعورة وقساوة ولا يتوقع الهجوم عليه منها.
وحديثًا فإن موقع الجزيرة البريطانية في عرض مياه الأطلسي قريبًا من شواطئ البر الأوروبي، الذي أبعدها عن الاضطرابات السياسية والحروب التي كانت تجري بين الدول الأوروبية القارية، وجعلها تقوم بدور مميز في الحركة الملاحية عبر الأطلسي غربًا نحو الشواطئ الشرقية للقارة الأميركية، نقول: إن موقع الجزيرة هذا ساعدها في إنشاء إمبراطوريتها البحرية التي أصبحت لا تغيب عن أراضيها الشمس.
فقبل عصر الكشوف الجغرافية كانت الجزيرة البريطانية من بين أكثر جهات العالم القديم تأخرًا، وبقي دورها في منفاها البعيد ولآلاف السنين تابعًا لليابسة الأوروبية، حتى إن سكانها لم يشتغلوا بالملاحة ولم يمهروا بها بسبب موقع بلادهم النائي عن مراكز حضارات العالم القديم، إذ كانت في نهاية طريق مغلق غير مفيد في الطرف الغربي لكتلة اليابسة الأوراسية، وغربها تقع مياه الأطلسي مجهولة المسالك، شأنها في ذلك شأن جزر اليابان الواقعة في طرف كتلة اليابسة الشرقي ووراءها ما وراءها من مياه المحيط الهادي.
وبعد اكتشاف العالم الجديد أصبحت بريطانيا أقرب جهات أوروبا إلى أميركا الشمالية، وغدت طرق البحر مفتوحةً أمامها إليها، وصار اتصالها ميسورًا بجميع القارة الأميركية إضافة إلى جنوب أفريقيا والشرق الأقصى، إلى جانب اتصالها الأصلي بالبحار المحلية شبه المغلقة كالبحر المتوسط وبحر البلطيق. لكن توجه إسبانيا والبرتغال اللتين كانتا تتمتعان بمركز يفوق مركز بريطانيا في الطريق البحري حول رأس الرجاء الصالح وصولًا إلى الشرق الأقصى، وقد شاركتا بريطانيا في الوصول إلى أميركا الشمالية، نقول: لكن توجه إسبانيا والبرتغال الحثيث كان مركزًا على الجزئين الأوسط والجنوبي من القارة الأميركية، مما أفسح المجال للإنكليز لتركيز نفوذهم في أميركا الشمالية.
فتحول موقع بريطانيا الذي كان عبئًا ثقيلًا عليها قبل الكشوفات الجغرافية إلى موقع استراتيجي حساس بعدها، وتعداد سكانها الجيد، وتزايد الخبرة في الملاحة البحرية بسبب تقدم مستوى المعرفة البشرية، كل ذلك ساعد بريطانيا في انطلاقتها الاستعمارية، وسبب توسعًا كبيرًا في المجال الحيوي البريطاني حتى شمل أراضي شعوب كثيرة في آسيا وأفريقيا وأميركا الشمالية، وكان هو الأساس في استكمال بناء قوة الإمبراطورية العسكرية الضاربة، بعد الاستفادة من ثروات مجالها الحيوي ـ أو مستعمراتها ـ الطبيعية والاقتصادية.
ولقد كان الضابط البحري الأميركي ألْفْريد ماهان /1840 ـ 1914/م من أكثر المعجبين بعظمة الجزيرة البريطانية وبموقعها. وهو الذي كان يرى في البحر عاملًا جغرافيًا يضفي على الدولة التي تمتلك ناصيته القوة والهيبة، ويمكّنها من الوصول إلى أية بقعة في العالم دون عقبات وحواجز طبيعية، ودون الحاجة إلى تعبيد الطرق ومد سكك الحديد. إضافة إلى بقاء النقل والانتقال بحرًا أقل تكلفة من مثيله في الجو أو على اليابسة.
فإضافة إلى أنه كان يؤمن بأن الدولة يجب أن تكون في حركة دائمة لأن في ذلك مصلحة لها في التوسع والتمدد، وأن السكون والخمول يقود الدولة إلى الانهيار والزوال، وأنها كالكائن الحي الذي يحافظ على وجوده من خلال نشاطه اليومي، نرى ماهان يؤمن أيضًا بأن قوى البحر تتفوق دائمًا على قوى البر، وأن من يملك البحر يملك اليابسة، وأن البحر هو مصدر العظمة ووسيلة التوسع، وبعبارة جامعة فالمجد للقوة البحرية.
يقول ماهان الذي كان يطمح لأن تكون بلاده ـ الولايات المتحدة ـ الوريث الشرعي لبريطانيا العظمى في السيطرة على بحار العالم، وبالتالي التحكم بمصائر شعوب اليابسة وخيراتها الكثيرة: «إن محيطات العالم أصبحت بحارًا داخلية للإمبراطورية البريطانية، وإن طرق التجارة العالمية أصبحت بمثابة شرايين لحياتها».
– ويصف ماهان استراتيجية البحرية البريطانية بأنها لا تحتفظ بقوة أسطولها الضاربة لتخوض بها حرب عصابات، ولا لأجل غزو تجاري، بل كانت قوتها موجهة ضد القوة الرئيسة التي يضعها العدو في الميدان، عن طريق تركيز سفن حربية قادرة على ضرب أسطول العدو الضربة القاضية وربح معركة التسلط على البحار.
ويخلص ماهان إلى أن بريطانيا لم تصل إلى عظمتها البحرية إلا عبر بناء قواتها المسلحة ذات الجاهزية القتالية القصوى، من خلال تعدادها الكبير، وخبراتها التقنية المتطورة. ولأن بريطانيا دولة جزرية كان لزامًا عليها بناء أسطول حربي قوي يوصلها إلى مستعمراتها، وينقل خيرات تلك المستعمرات إلى الشعب البريطاني. وإن أسطولها الحربي كان يؤمّن سلامة المسالك البحرية لأسطولها التجاري، ويمنع إمكان قيام حصار بحري على بريطانيا، إضافة إلى دفاعه المباشر عن سيادة الأراضي البريطانية في حال الخطر.
لقد بيَّن ماهان أن هنالك عدة عوامل جغرافية طبيعية وبشرية يجب أن تتوفر في الدولة البحرية كي تصبح قوة عظمى تحصل على ما تشاء عن طريق القوة والإكراه. وهي الموقع الجغرافي، والمساحة، والظهير القاري، وصفات الشواطئ الساحلية للدولة، والتعداد العام للسكان، وصفاتهم الإثنوية، إضافةً إلى النظام السياسي الحاكم.
فقد أوجب ماهان على موقع الدولة أن يتصف بالمرونة المطلقة، بحيث يوفر لها الحرية الكاملة في الاتصال مع العالم الخارجي بحرًا ودون أية عقبات. ولذلك لا بد من توافر مايلي:
1- أن تكون الدولة مطلة على بحار مفتوحة تصلها بالعالم الخارجي، بحيث لا يكون البحر الذي تشرف عليه الدولة محصورًا بذراع مائي يصله بالبحار المفتوحة، كي لا يعرض الدولة لابتزاز الدولة المسيطرة على ذلك الذراع، فيؤثر على استقلال قرارها السياسي.
2- كلما كانت الدولة تطل على بحار أكثر كان موقعها أكثر مرونة.
3- كلما كان ساحل الدولة أطول وأعمق وأكثر تعرجًا وأصلح للملاحة كان موقعها أقوى.
4- يجب على موقع الدولة أن يكون بعيدًا عن موقع أية قوة بحرية كبرى منافسة، كي يعطي المجال لتطوير القوة البحرية الناشئة كمًا وكيفًا.
5- يجب أن تكون الحدود البرية للدولة البحرية ـ إن وجدت ـ آمنة لتبعدها عن الاضطرابات والتهديدات الخارجية.
6- يجب أن يتحكم الموقع البحري بطرق بحرية رئيسية، وقواعد استراتيجية بحرية ذات أهمية عالمية.
لقد رأى ماهان أن الصفات السابقة تتوافر جميعها ـ إضافة إلى بريطانيا ـ في الولايات المتحدة ـ ذات المساحة الشاسعة البالغة حوالي /9.8/ مليون كم2، وتشرف من الغرب على المحيط الهادي الذي يربطها بالقارة الآسيوية وتتناثر فيه الجزر الضخمة، أوستراليا ونيوزيلندا وإندونيسيا وماليزيا والفليبين واليابان، وتشرف من الشرق على مياه الأطلسي التي تفصلها وتربطها في نفس الوقت مع قارتي أوروبا وأفريقيا.
تعد الولايات المتحدة دولة منيعة لصعوبة تهديدها من قبل أية دولة أوروبية أو آسيوية؛ لبعدها الشاسع عن قارات العالم القديم. أما الدولتان اللتان تشتركان معها بالحدود البرية فهما المكسيك المتخلفة عسكريًا واقتصاديًا، وكندا التي تتفوق عليها أميركا عسكريًا واقتصاديًا وعدد سكان، لوقوع معظم أراضيها في المنطقة الباردة قليلة الموارد الزراعية؛ ولذلك فموقع الولايات المتحدة الجغرافي يمنحها مرونة الحركة في عرض البحر من جهة، وأمان الحدود البرية من جهة ثانية.
أما سواحلها الشرقية فتعد نموذجًا للسواحل الصالحة للملاحة البحرية لامتدادها الطولاني الكبير، وكثرة تعاريجها التي تشكل العديد من الرؤوس التي تقرّب اليابسة من خطوط المواصلات والموارد والمصائد البحرية، والخلجان التي تصلح لحماية السفن الراسية في موانئها من أمواج البحر الهائجة، ولجلب المؤثرات الثقافية والتقنية، إضافة إلى وجود العديد من الجزر القريبة التي تساعد على تنشيط الملاحة الساحلية، التي تعد العتبة إلى ولوج الملاحة البحرية المتطورة، علمًا أن السواحل المستقيمة والرملية أو الطينية غير العميقة لا تساعد على تشكيل قوة بحرية عظمى.
إلا أن اتساع المساحة القارية للولايات المتحدة والمسافات الطويلة المطلة على المحيطين الأطلسي والهادي يجعل مهمة الدفاع عنها صعبة، لعدم تمكن القوة البحرية المتمركزة على كلا الشاطئين من دعم بعضهما في حالة وقوع خطر على الدولة من إحدى الجهتين الشاطئيتين، وهذا يعزل جانبي الولايات المتحدة عن بعضهما، ويوجب على القطع البحرية الاتجاه إلى أقصى جنوب أميركا الجنوبية لتلتف وتتجه نحو الشمال لتصل إلى الجانب الآخر. ولهذا كان شق قناة بنما ضروريًا لتخفيف كلفة وصل الجانبين، ولتقوية علاقة الولايات المتحدة بدول جزر البحر الكاريبي.
أما بخصوص الظهير القاري الأمثل لقيام نشاط بحري اقتصادي وحربي، والذي اشترط فيه ماهان أن يكون فقيرًا بموارده الزراعية وثرواته المعدنية وغير ملائم للنشاط الاقتصادي مما يدفع السكان إلى البحر ليتخذوا من الملاحة مصدرًا أساسيًا للعيش، نقول: إن هذا الظهير القاري غير متوفر للولايات المتحدة ذات الظروف المناخية المتباينة وثرواتها النباتية والحيوانية والمعدنية المتنوعة، مما قد يؤثر سلبًا على عقلية الشعب الأميركي في التوجه نحو البحار، ويجعلهم يتخذون من اليابسة في الداخل قبلة لهم.
ولكن التعداد العام لسكان الولايات المتحدة الذي وصل في بداية القرن العشرين إلى /150/ مليون نسمة، كان يسمح لها ببناء الأساطيل البحرية واستغلالها وصيانتها من دون أن تتأثر بقية قطاعات الدولة بنقص الأيدي العاملة، وخصوصًا في حقلي الزراعة والصناعة.
ومما يساعد على الاستقرار السياسي التجانس القومي واللغوي والديني الذي يتمتع به الشعب الأميركي، حيث ينحدر معظمه من الإنجلوساكسون الذين يدينون بالمذهب الإنجليكاني البروتستانتي وينطقون بالإنجليزية.
ويرى ماهان أخيرًا أن الشعب الأميركي يتمتع بروح المغامرة وركوب البحر، وأنهم محبون للحرية الفردية وحياة الانتقال والتجارة والكسب المادي، وذلك لانحدارهم من الشعوب الأوروبية ذات الموقع الجغرافي البحري، حيث هاجر أجدادهم بحرًا إلى الأراضي الجديدة حبًا بالمغامرة وجمع المال والحياة الأفضل.
وقد انتُقد ماهان بأنه لم يُعِر اهتمامًا لتصاعد مشاعر التحرر لدى الشعوب المستعمَرة، وإمكان قيامها بالكفاح المسلح لطرد القواعد الأجنبية القائمة على سواحلها والتي تكبلها سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا. إضافة إلى أن بقاء هذه القواعد على أراض بعيدة عن الحدود السياسية لدولها مكلفٌ لها، ويمكن أن يدفعها ذلك إلى التخلي عنها لأسباب مالية، كما فعلت بريطانيا وفرنسا بعد الحرب العالمية الثانية.
وانتقد بأنه أغفل أهمية التطور التقني عبر الزمن، وإمكان قيام قوى عسكرية أخرى كالقوى الجوية القادرة على ضرب أي هدف في عمق القارة أو في عرض البحر، وسلاح الصورايخ الذي يمكنه ضرب أية نقطة في العالم من قواعده الثابتة أو المتحركة. إضافة إلى أن القوى البحرية قادرة على ضرب المناطق الساحلية وتدميرها، لكنها عاجزة عن احتلال الأرض، التي ما تزال القوى البرية تتربع على قمة هرم مسرحها القتالي.
ومن آراء ماهان أن على الولايات المتحدة السيطرة على قارة أميركا الشمالية بشكل كامل لأنها تشكل وحدة تضريسية ولا يجوز أن تقوم عليها أكثر من دولة، وأن عليها السيطرة كذلك على منطقة جزر البحر الكاريبي وقناة بنما، ونادى بضرورة التحالف بين أميركا وبريطانيا للسيطرة على العالم، وأن المستقبل يقضي بالتحالف بين أميركا وبريطانيا وألمانيا واليابان ضد كل من روسيا والصين، وأن المنطقة الواقعة بين خطي عرض /30° ـ 40°/ شمالًا هي منطقة الصدام المحتملة بين روسيا الدولة القارية وبريطانيا الدولة البحرية، وأن الدول القارية في حالة تزاحم وقتال على الحدود مما لا يسمح بقيام دولة قارية قوية تولي اهتمامًا كبيرًا بالبحر.
لكن أهم آرائه التي تم الأخذ بها هو أن على الولايات المتحدة الاهتمام ببناء اقتصادها وقواتها البحرية بصمت وفي عزلة كاملة داخل حدودها بعيدًا عن الأحداث العسكرية والسياسية الجارية على المسرح الدولي. وأنها يجب ألا تمتلك المستعمرات كما فعلت الدول الأوروبية، بل تعمد إلى التغلغل الاقتصادي في دول العالم، ففي ذلك تأمين لشروط القوة للدولة البحرية أكثر بكثير مما لو قامت باحتلال أراضي المستعمرات.
وقد عزا الجغرافي الإنجليزي هالْفورد ماكيندَر خلال نقده لمفهوم القوة البحرية عند ماهان، عزا قوة الأسطول البريطاني إلى قرب موقع الجزر البريطانية من اليابسة الأوروبية، واعتماد بريطانيا على موارد مستعمراتها، وإسناد قواتها البحرية بقواعد عسكرية قارية. وتوقع أن المستقبل سيكون إلى جانب القوى البرية. وقد شاطره هذا الرأي مواطنه الجغرافي فوست، الذي خلص بعد مقارنة بين المناطق الساحلية والبرية الداخلية إلى أن المناطق التي تسيطر عليها القوات البحرية تتناقص في حين تتعاظم مساحات المناطق التي تهيمن عليها القوات البرية بالنسبة نفسها، وتوقع السيطرة التامة للقوات البرية على الطرق البحرية والمضائق الهامة كمضيق هرمز وجبل طارق وباب المندب ومضيقي البوسفور والدردنيل.
أما الجغرافي ميليز فقد أكد أن استعمال مصطلح القوة البحرية تشويه للحقيقة، فالمحيطات لا تكتسب أهميتها إلا من خلال علاقتها باليابسة التي تمدها بمقومات البقاء، وأن السيطرة صعبة على البحار والأجواء، وأن القوة البحرية كما القوة الجوية غير قادرة على إحراز النصر طالما أن الهدف من الحرب هو احتلال الأرض للسيطرة على مواردها الاقتصادية، بل لا بد لإحرازه من ترابط القوات البرية والجوية والبحرية.
أما سبروت فقد انتقد ماهان بأن تفكيره يعود إلى القرن الـ/17/ م، وعلى أساسه فقد حكم على الأحداث في أواخر القرن الـ/19/ م، وأنه لم ينتبه إلى المضامين السياسية لانتشار سكك الحديد. وعلى الرغم من أن ماهان شهد بداية تطور وسائل النقل البرية والطائرات إلا أنه لم يتوقع تأثير الأحداث والاختراعات المستقبلية، ولم يدخل في حسابه أن الدول الجزرية ستصبح عرضة للحصار والهجوم الجوي المباشر، وأن النقل البري سينافس النقل البحري، وأن الحركة على اليابسة ستؤدي إلى ميل كفة الميزان ضد بريطانيا.
وأخيرًا فرغم عيوب مفهوم سياسة القوة البحرية لدى ماهان إلا أن آراءه لقيت آذانًا صاغية من قبل السياسيين الأميركيين؛ لأن الولايات المتحدة بموقعها الجغرافي شبه الجزري مجبرة على امتلاك قوة بحرية ضخمة ومتطورة لمنع أية قوة بحرية معادية من النيل من جسد الدولة، ولتأمين استمرار تدفق الموارد الطبيعية والمعادن اللازمة لصناعاتها المتطورة من مناطق العالم المختلفة إليها عبر البحار، وتصدير الفائض من محاصيلها الزراعية ومنتجاتها الصناعية عبرها أيضًا، وذلك من خلال الأسطول البحري الموكل له الدفاع عن الدولة في عرض البحر بعيدًا عن الأراضي الأميركية، وتقديم الحماية والأمان لأسطولها التجاري. فالبحار والمحيطات تشكل صلة أميركا بالعالم، وتحتوي الشرايين التي تمد أعضاء الجسد الأميركي بأسباب الحياة.
[يتبع]
2003-12-12